التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
265 [ ص: 69 ] حديث رابع لسعيد بن أبي سعيد

مالك ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سأل عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ؟ فقالت : ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ، ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ، يصلي أربعا ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا ، قالت عائشة : فقلت يا رسول الله ، أتنام قبل أن توتر ؟ فقال : يا عائشة إن عيني تنامان ، ولا ينام قلبي .
قال أبو عمر :

هكذا هو في الموطأ عند جماعة الرواة ، فيما علمت ، وقد رواه محمد بن معاذ بن المستهل ، عن القعنبي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، والصواب ما في الموطأ في هذا الحديث أن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وغيره كانت واحدة وقد مضى القول في قيام رمضان وما الأصل فيه ، وكيف كان بدو أمره من باب ابن شهاب من هذا الكتاب ، وأكثر الآثار على أن صلاته كانت بالوتر إحدى عشرة ركعة ، وقد روي ثلاث عشرة ركعة ، فمنهم من قال فيها ركعتا الفجر ، ومنهم من قال إنها زيادة حفظها من تقبل زيادته بما نقل منها ، ولا يضرها تقصير من قصر عنها ، وكيف كان الأمر ، فلا [ ص: 70 ] خلاف بين المسلمين أن صلاة الليل ليس فيها حد محدود ، وأنها نافلة ، وفعل خير ، وعمل بر ، فمن شاء استقل ، ومن شاء استكثر ، وأما قوله : يصلي أربعا ، ثم يصلي أربعا ، ثم يصلي ثلاثا ، فذهب قوم إلى أن الأربع لم يكن بينها سلام ، وقال بعضهم : ولا جلوس إلا في آخرها ، وذهب فقهاء الحجاز وجماعة من أهل العراق إلى أن الجلوس كان منها في كل مثنى ، والتسليم أيضا ، ومن ذهب هذا المذهب كان معنى قوله في هذا الحديث عنده أربعا يعني في الطول والحسن وترتيب القراءة ونحو ذلك ، ودليلهم على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى مثنى لأنه محال أن يأمر بشيء ويفعل خلافه صلى الله عليه وسلم .

وقد مضى ما للعلماء من المذاهب والأقوال في صلاة الليل ، وما نزعوا به في ذلك من الآثار والاعتلال في باب ابن شهاب ونافع من هذا الكتاب ، ومضى في باب نافع أيضا اختلافهم في الوتر بواحدة وبثلاث ، وبما زاد ، فلا معنى لتكرير ذلك هاهنا .

واختصار اختلافهم في صلاة التطوع بالليل أن مالكا والشافعي وابن أبي ليلى وأبا يوسف ومحمدا ، والليث بن سعد ، قالوا : صلاة الليل مثنى مثنى ، تقتضي الجلوس والتسليم في كل اثنتين ، ألا ترى أنه لا يقال : صلاة الظهر مثنى ; لما كانت الأخريان مضمنتين بالأوليين ، ولأنه قد روي في حديث عائشة هذا من رواية عروة ، عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم في كل ركعتين منها وقد ذكرنا من روى ذلك من باب ابن شهاب .

[ ص: 71 ] وقال أبو حنيفة في صلاة الليل : إن شئت ركعتين ، أو أربعا ، أو ستا ، أو ثمانيا .

وقال الثوري والحسن بن حي : صل بالليل ما شئت بعد أن تقعد في كل اثنتين وتسلم في آخرهن ، وحجة هؤلاء : ظواهر الأحاديث ، عن عائشة مثل هذا الحديث ، ومثل ما رواه الأسود ، عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل تسع ركعات ، فلما أسن ، صلى سبع ركعات .

وقال فيه مسروق عنها : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بتسع ، فلما أسن أوتر بسبع .

ويحيى بن الجزار ، عن عائشة مثل ذلك على اختلاف عنه .

وروى ابن نمير ، ووهب ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، يوتر منها بخمس ، لا يجلس في شيء من الخمس ، حتى يجلس في الآخرة فيسلم .

ورواه مالك ، عن هشام على غير هذا .

وروى يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة ، كان يصلي ثمان ركعات وأربع ركعات يوتر بركعة .

وروى الدراوردي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة تسعا قائما واثنتين جالسا واثنتين قاعدا واثنتين بين النداءين .

[ ص: 72 ] وقد روى الأوزاعي وابن أبي ذئب ويونس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يسلم في كل ركعتين .

قال أبو عمر :

فلما اختلفت الآثار ، عن عائشة في كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل هذا الاختلاف : وتدافعت واضطربت ، لم يكن في شيء منها حجة على غيره ، وقامت الحجة بالحديث الذي لم يختلف في نقله ، ولا في متنه ، وهو حديث ابن عمر ، رواه عنه جماعة من التابعين ، كلهم بمعنى واحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صلاة الليل مثنى مثنى .

وقد ذكرنا حديث ابن عمر وطرقه في باب نافع من هذا الكتاب ، وقضى حديث ابن عمر بأن رواية من روى ، عن عائشة في صلاة الليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم منها في كل ركعتين أصح وأثبت لقوله صلاة الليل مثنى مثنى وبالله التوفيق .

وأما قولها في هذا الحديث : أتنام قبل أن توتر ؟ فإنه لا يوجد إلا في هذا الإسناد ، ففيه تقديم وتأخير ; لأنه في هذا الحديث بعد ذكر الوتر ، ومعناه أنه كان ينام قبل أن يصلي الثلاث التي ذكرت ، وهذا يدل على أنه كان يقوم ، ثم ينام ، ثم يقوم فينام ، ثم يقوم فيوتر ، ولهذا ما جاء في هذا الحديث أربعا ، ثم أربعا ، ثم ثلاثا أظن ذلك - والله أعلم - من أجل أنه كان ينام بينهن ، فقالت أربعا ، ثم أربعا - يعني بعد نوم - ثم ثلاث بعد نوم ، ولهذا ما قالت له : أتنام قبل أن توتر ؟ وإذا كان هذا على ما ذكرنا ، لم يجز لأحد أن [ ص: 73 ] يتأول أن الأربع كن بغير تسليم ، لا سيما مع قوله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الليل مثنى مثنى .

وأما رواية من روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضطجع بعد الوتر ، ومن روى أنه كان يضطجع بعد ركعتي الفجر ، فقد ذكرنا ذلك في باب ابن شهاب ، عن عروة من هذا الكتاب وذكرنا عن العلماء ما صح عندهم ، وما ذهبوا إليه في ذلك ، والحمد لله هناك .

وأما قوله : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي فهذه جبلته - صلى الله عليه وسلم - التي طبع عليها ، وقد روي عنه عليه السلام أنه قال إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ، ولا تنام قلوبنا ولهذا قال ابن عباس وغيره من العلماء : رؤيا الأنبياء وحي ، وقد ذكرنا أقسام الوحي في باب إسحاق بن أبي طلحة ، وذكرنا في باب زيد بن أسلم معنى نومه عن الصلاة في سفره حتى ضربه حر الشمس بما يغني عن إعادته هاهنا .

ذكر عبد الرزاق وأبو سفيان جميعا ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل لي : لتنم عينك ، وليعقل قلبك ، ولتسمع أذنك ، فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني وذكر الحديث ، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ينام حتى ينفخ ويغط ، ثم يقوم فيصلي ، ولا يتوضأ ; لأن قلبه لم يكن ينام ، وإنما يجب الوضوء على من غلب النوم على قلبه ، وغمر نفسه وكان - صلى الله عليه وسلم - مخصوصا دون سائر أمته بأن تنام عينه ، ولا ينام قلبه صلوات الله عليه وسلامه .

[ ص: 74 ] حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد الخصبي القاضي ، قال : حدثنا عبد الله بن الحسن بن أبي شعيب ، قال : حدثنا عبيد الله بن عائشة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نام حتى سمع غطيطه ، ثم صلى ، ولم يتوضأ قال عكرمة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محفوظا .

التالي السابق


الخدمات العلمية