التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1118 حديث خامس لأبي حازم

مالك ، عن أبي حازم بن دينار ، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك ، فالتمس شيئا ، فقال : ما أجد شيئا ، قال : التمس ، ولو خاتما من حديد ، فالتمس ، فلم يجد شيئا ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : هل معك من [ ص: 110 ] القرآن شيء ، قال : نعم ، سورة كذا وسورة كذا لسور سماها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قد أنكحتكها بما معك من القرآن .


روى هذا الحديث ، عن أبي حازم ، عن سهل جماعة وأحسنهم كلهم له سياقة مالك رحمه الله ، وهذا الحديث يدخل في التفسير المسند في قوله عز وجل وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي الآية . والموهوبة خص بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده دون سائر أمته - صلى الله عليه وسلم - قال الله عز وجل خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم يعني من الصداق ، فلابد لكل مسلم من صداق ، قل أو كثر على حسبما للعلماء في ذلك من التحديد في قليله ، دون كثيره على ما نورده في هذا الباب إن شاء الله ، وخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الموهوبة له جائزة دون صداق .

وفي القياس أن كل ما يجوز البدل منه والعوض جازت هبته ، إلا أن الله عز وجل حرم الإبضاع من النساء إلا بالمهور ، وهي الصدقات المعلومات ، قال الله عز وجل وآتوا النساء صدقاتهن نحلة .

[ ص: 111 ] قال أبو عبيدة يعني ، عن طيب نفس بالفريضة التي فرضها الله من ذلك دون خير حكومة ، قال : وما أخذ بالحكام ، فلا يقال له نحلة ، وقد قيل : إن المخاطب بهذه الآية الآباء ; لأنهم كانوا يستأثرون بمهور بناتهم التي فرضها الله لهن ، وقال الله عز وجل والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن يعني مهورهن ، وقال في الإماء فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن يعني مهورهن .

وأجمع علماء المسلمين : أنه لا يجوز لأحد أن يطأ فرجا وهب له وطؤه ، دون رقبته بغير صداق ، وأن الموهوبة لا تحل لأحد غير النبي - صلى الله عليه وسلم - واختلفوا في عقد النكاح بلفظ الهبة مثل أن يقول الرجل للرجل : قد وهبت لك ابنتي ، أو وليتي ، وسمى صداقا ، أو لم يسم ، فقال الشافعي : لا يصح النكاح بلفظ الهبة ، ولا ينعقد حتى يقول : قد أنكحتك أو زوجتك ، وممن أبطل النكاح بلفظ الهبة : ربيعة والشافعي ومالك على اختلاف عنه ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وداود ، وغيرهم ، وذهبت طائفة من أصحاب مالك أن النكاح ينعقد بلفظ الهبة ; لأنه لفظ يصح للتمليك ، والاعتبار فيه بالمعنى لا باللفظ .

وقال ابن القاسم ، عن مالك : لا تحل الهبة لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح ، إنما وهبها له ليحضنها ، أو ليكفلها ، فلا أرى بذلك بأسا .

[ ص: 112 ] قال ابن القاسم : وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها ، فلا أحفظه عن مالك ، وهو عندي جائز كالبيع ، قال مالك : من قال أهب لك هذه السلعة على أن تعطيني كذا وكذا ، فهو بيع ، وإلى هذا ذهب أكثر المتأخرين من المالكيين البغداديين ، وقالوا إذا قال رجل لرجل : قد وهبت لك ابنتي على دينار ، جاز ، وكان نكاحا صحيحا قياسا على البيع .

وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن حي ينعقد النكاح بلفظ الهبة إذا كان اشهد عليه ، ولها المهر المسمى إن كان سمى ، وإن كان لم يسم لها مهرا ، فلها مهر مثلها ، ومما احتج به أصحاب أبي حنيفة في هذا أن الطلاق يقع بالتصريح وبالكناية ، قالوا : فكذلك النكاح ، والذي خص به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعري البضع من العوض ، لا النكاح بلفظ الهبة .

قال أبو عمر :

الصحيح أنه لا ينعقد بلفظ الهبة نكاح ، كما أنه لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال مع ما ورد به التنزيل المحكم في الموهوبة أنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - خالصة دون المؤمنين فلما لم تصح الهبة في ذلك لم يصح بلفظها نكاح ، هذا هو الصحيح في النظر ، والله أعلم .

ومن جهة النظر أيضا : أن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه ، وهو ضد الطلاق ، فكيف يقاس عليه ؟ وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقوله : قد أبحت لك ، وقد أحللت لك ، فكذلك الهبة ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحللتم فروجهن بكلمة الله بمعنى القرآن وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة ، وإنما فيه التزويج والنكاح ، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم .

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه إجازة أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وقد اختلف في ذلك العلماء :

فكرهه قوم ، منهم : أبو حنيفة ، وأصحابه .

وأجازه [ ص: 113 ] آخرون ، منهم : مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد ، والحجة في جواز ذلك : حديث هذا الباب ، وحديث أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بعث سرية ، فنزلوا بحي ، فسألوهم القرى أو الشراء ، فلم يفعلوا ، فلدغ سيد الحي ، فقالوا لهم : هل فيكم من راق ؟ فقالوا : لا ، حتى تجعلوا لنا على ذلك جعلا ، فجعلوا لهم قطيعا من غنم ، فأتاهم رجل منهم ، فقرأ عليه فاتحة الكتاب ، فبرأ ، فذبحوا ، وشووا ، وأكلوا ، فلما قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له ، فقال : ومن أين علمت أنها رقية ؟ من أخذ برقية باطل ، فلقد أخذت برقية حق ، اضربوا لي فيها بسهم .

رواه أبو المتوكل الناجي وسليمان بن قنة ، وأبو نضرة ، عن أبي سعيد الخدري وروى الشعبي ، عن خارجة بن الصلت ، عن عمه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، وحجة أبي حنيفة ، ومن قال بقوله حديث سعد بن طريف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : معلمو صبيانكم شراركم ، أقلهم رحمة باليتيم ، وأغلظهم على المسكين . وحديث علي بن عاصم ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي جرهم ، عن أبي هريرة ، قال : قلت : يا رسول الله ما تقول في المعلمين ، قال : درهمهم حرام ، وقوتهم سحت ، وكلامهم رياء .

وحديث المغيرة بن زياد ، عن عبادة بن نسي ، عن الأسود بن ثعلبة ، عن عبادة بن الصامت ، أنه علم رجلا من أهل الصفة فأهدى له قوسا ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن سرك أن يطوقك الله طوقا من نار ، فاقبله .

[ ص: 114 ] وروي من حديث أبي بن كعب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

وهذه الأحاديث منكرة ، لا يصح شيء منها عند أهل العلم بالنقل .

وسعد بن طريف متروك الحديث .

وأبو جرهم مجهول ، لا يعرف ، ولم يرو حماد بن سلمة ، عن أحد يقال له أبو جرهم ، وإنما رواه ، عن أبي المهزم ، وهو متروك أيضا ، وهو حديث لا أصل له .

وأما المغيرة بن زياد فمعروف بحمل العلم ، ولكنه له مناكر هذا منها .

وأما حديث القوس فمعروف عند أهل العلم ; لأنه روي ، عن عبادة من وجهين وروي ، عن أبي بن كعب من حديث موسى بن علي ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، وهو منقطع ، وليس في هذا الباب حديث يجب به حجة من جهة النقل ، والله أعلم .

واحتجوا أيضا بقوله - صلى الله عليه وسلم - اقرءوا القرآن ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا وهذا يحتمل التأويل ، وكذلك حديث عبادة ، وأبي يحتمل التأويل أيضا ; لأنه جائز أن يكون علمه لله ، ثم أخذ عليه أجرا ونحو هذا .

واختلف الفقهاء أيضا في حكم المصلي بأجرة : فروى أشهب ، عن مالك أنه سئل عن الصلاة خلف من استؤجر في رمضان يقوم بالناس ، فقال : أرجو أن لا يكون به بأس ، إن كان به بأس فعليه .

وروى عنه ابن القاسم أنه كرهه وهو أشد كراهية له في الفريضة .

وقال الشافعي وأصحابه وأبو ثور : لا بأس بذلك ، ولا بأس بالصلاة خلفه .

[ ص: 115 ] وذكر الوليد بن مزيد ، عن الأوزاعي أنه سئل عن رجل أم قوما فأخذ عليه أجرا ، فقال : لا صلاة له .

وكرهه أبو حنيفة وأصحابه .

وهذه المسألة معلقة من التي قبلها ، وأصلهما واحد ، وفي هذه المسألة اعتلالات يطول ذكرها .

وفيه أيضا من الفقه أن الصداق : كل ما وقع عليه اسم شيء مما يصح تملكه ، قل أو كثر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل له التمس ربع دينار فصاعدا ، ولا عشرة دراهم فصاعدا ، ألا ترى إلى قوله : هل عندك من شيء تصدقها ، ثم قال التمس ولو خاتما من حديد ، فقال أصحابنا : يريد بقوله التمس شيئا ، وهل عندك من شيء ، أي من شيء تقدمه إليها من صداقها ; لأن عادتهم جرت بأن يقدموا من الصداق بعضه .

وقال الشافعي وأصحابه : يريد شيئا تصدقها إياه فيقتضي أن كل شيء وجده مما يكون ثمنا لشيء ، جاز أن يكون صداقا قل أو كثر ، وقد مضى القول في هذا المعنى مجودا في باب حميد من هذا الكتاب .

وأما اختلاف العلماء في مبلغ أقل الصداق ، فذهب مالك وأصحابه إلى أن النكاح ، لا يكون بأقل من ربع دينار ذهبا ، أو ثلاثة دراهم كيلا من ورق أو قيمة ذلك من العروض قياسا على قطع اليد ; لأنه عضو يستباح بمقدار من المال فأشبه قطع اليد ، ولم يكن بد من التقدير في ذلك ; لأن الله شرط عدم الطول في نكاح الإماء ، وقلما يعدم الإنسان ما يتمول أو يتملك .

وقد ذكرنا الحجة لهذا القول في باب حميد الطويل من هذا الكتاب .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم قياسا أيضا على ما تقطع اليد فيه عندهم ، واحتجوا بحديث يروى عن جابر ، عن [ ص: 116 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا صداق أقل من عشرة دراهم ، وهو حديث لا يثبت ، وروي عن الشعبي ، عن علي مثله ، ولا يصح أيضا عن علي .

وقال ابن شبرمة : أقل المهر خمسة دراهم يعني كيلا ، وفي ذلك تقطع اليد عنده أيضا .

وروي عن النخعي ثلاثة أقاويل ، أحدها : أنه كره أن يتزوج بأقل من أربعين درهما ، وروي عنه أنه قال : أكره أن يكون مثل مهر البغي ، ولكن العشرة والعشرون .

وكان سعيد بن جبير يستحب أن يكون المهر خمسين درهما .

وقال الحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، والأوزاعي ، وعطاء ، وعمرو بن دينار ، والشافعي ، ومسلم بن خالد الزنجي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور والليث بن سعد ، والحسن بن حي ، والطبري ، وداود : يجوز النكاح بقليل المال وكثيره ، إلا أن الحسن يعجبه أن لا يكون أقل من دينار أو عشرة دراهم ، ويجيزه بدرهم .

وقال الأوزاعي : كل نكاح وقع بدرهم فما فوقه لا ينقضه قاض ، قال : والصداق ما تراضى عليه الزوجان من قليل أو كثير .

وقال الشافعي : كل ما كان ثمنا لشيء أو أجرة ، جاز أن يكون صداقا .

وقال سعيد بن المسيب : لو أصدقها سوطا لحلت .

أخبرنا خلف بن قاسم ، حدثنا ابن شعبان ، حدثنا عمران بن موسى بن زكرياء ، حدثنا خشيش بن أصرم ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : النكاح جائز على موزة إذا هي رضيت .

[ ص: 117 ] قال أبو عمر :

أجمع العلماء على أن لا توقيت ولا تحديد في أكثر الصداق ، وذكر الله تعالى الصداق في كتابه ولم يحد في أكثره ولا في أقله حدا ، ولو كان الحد مما يحتاج في ذلك إليه لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ هو المبين عن الله مراده - صلى الله عليه وسلم - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - التمس ولو خاتما من حديد ، والحدود لا تصح إلا بكتاب الله أو سنة ثابتة لا معارض لها ، أو إجماع يجب التسليم له ، هذه جملة ما احتج به من ذهب هذا المذهب .

وفي هذا الحديث أيضا دليل على أن ما يصدقه الرجل امرأته لا يملك شيئا منه ، وأنه للمرأة دونه ، ألا ترى إلى قوله : إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك ، وفي هذا ما يدل على أن الصداق لو كان لجارية ووطئها الزوج حد ; لأنه وطئ ملك غيره ، وهذا موضع اختلف فيه السلف والآثار .

وأما فقهاء الأمصار فعلى ما ذكرت لك ، وهو الصحيح لقول الله عز وجل والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .

ومن وطئ جارية قد أمهرها زوجته وملكتها عليه ببضعها ، فلم يطأ ملك يمين وتعدى .

واختلف الفقهاء في المهر المسمى هل تستحق المرأة جميعه بالعقد ، أم لا ؟ فالظاهر من مذهب مالك أنه لا تستحق بالعقد إلا نصفه ، وأما الصداق إذا كان شيئا بعينه فهلك ، ثم طلق قبل الدخول لم يكن له عليها شيء ، وأنه لو سلم وطلق قبل الدخول أخذ نصفه ناميا أو ناقصا والنماء والنقصان بينهما ، وقد روي عن مالك ، وقال به طائفة من أصحابه : أنها تستحق المهر كله بالعقد .

[ ص: 118 ] واستدل قائل ذلك بالموت قبل الدخول ، وبوجوب الزكاة في الماشية نفسها عليه ، وأنه لا يقال للزوج أغرم عليها الزكاة ، ثم تدخل ، وبأنه لو كانت بينهما لم تجب عليها في أربعين شاة أو خمس ذود زكاة ، فلما أوجبوا عليها الزكاة في ذلك علم أنها كلها على ملكها ، وبهذا القول قال الشافعي وأصحابه ، واعتلوا بالإجماع على أن الصداق إذا قبضته ، وكان معينا في غير ذمة الزوج وهلك قبل الدخول كان منها ، وكان له أن يدخل بها بغير شيء ، وبأنها لو كان الصداق أباها عتق عليها عقب العقد قبل الدخول بلا خلاف .

واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فأمر بتسليم الصداق إليها ، فوجب ملكه لها ، وشبهوا سقوطه بالطلاق قبل الدخول بعد وجوبه ، وثبوته بالبائع يرجع إليه عين ملكه ، عند فلس المبتاع منه ، ولهم في ذلك ضروب من الكلام يكفي منه ما ذكرنا ، وهو عينه ، وعليه مداره ، والحمد لله .

وفيه إجازة اتخاذ خاتم الحديد ، وقد اختلف العلماء في جواز لباس خاتم الحديد على ما بينا في باب عبد الله بن دينار ، والحمد لله .

وفيه أيضا دليل على أن تعليم القرآن جائز أن يكون مهرا ، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء :

فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما : لا يكون القرآن ولا تعليم القرآن مهرا ، وهو قول الليث ، وحجة من ذهب هذا المذهب أن الفروج لا تستباح إلا بالأموال لذكر الله الطول في النكاح والطول المال ، والقرآن ليس بمال وقال الله عز وجل أن تبتغوا بأموالكم والقرآن ليس بمال ; ولأن التعليم من المعلم ، والمتعلم يختلف ، ولا يكاد يضبطه ، فأشبه الشيء المجهول ، قالوا ومعنى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال قد [ ص: 119 ] أنكحتكها بما معك من القرآن ، فإنما هو على جهة التعظيم للقرآن وأصله ، لا على أنه مهر ، وإنما زوجه إياها لكونه من أهل القرآن ، كما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه ، والمهر مسكوت عنه ; لأنه معهود معلوم أنه لابد منه .

أخبرنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا محمد بن أيوب ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار ، قال : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، قال : حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك : أن أبا طلحة أتى أم سليم يخطبها قبل أن يسلم ، فقالت : أتزوج بك وأنت تعبد خشبة نحتها عبد بني فلان ، إن أسلمت تزوجت بك ، قال فأسلم أبو طلحة : فتزوجها على إسلامه ، يريد لما أسلم استحل نكاحها ، وسكت عن المهر ، وكان أحمد بن حنبل يكره النكاح على القرآن .

وقال الشافعي وأصحابه جائز أن يكون تعليم القرآن أو سورة منه مهرا ، قال : فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجر التعليم ، هذه رواية المدني عنه ، وذكر الربيع عنه في البويطي أنه إن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف مهر مثلها ; لأن تعليم النصف لا يوقف على حده ، قال : فإن وقف عليه جعل امرأة تعلمها .

ومن الحجة لمذهب الشافعي في ذلك : أن الحديث الثابت ورد بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج ذلك الرجل تلك المرأة على تعليمه إياها سورا سماها ; ولأن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه فجاز أن يكون صداقا ، قالوا : ولا [ ص: 120 ] وجه لقول من قال : إن ذلك كان من أجل حرمة القرآن ، ومن أجل كونه من أهل القرآن ; لأن في الحديث ما يبطل هذا التأويل ; لأنه قال التمس شيئا ، ثم قال له : التمس ، ولو خاتما من حديد ، ثم قال له : هل معك من القرآن شيء ، فقال : سورة كذا ، فقال : قد زوجتكها بما معك من القرآن ، أي بأن تعلمها تلك السورة من القرآن .

قال أبو عمر :

دعوى التعليم على الحديث دعوى باطل لا يصح ، وتأويل الشافعي على ما ذكرنا في هذا الباب محتمل ، فأما دعوى الخصوص فضعيف ، لا وجه له ، ولا دليل عليه ، وأكثر أهل العلم لا يجيزون ما قال الشافعي ، وأولى ما قيل به في هذا الباب : قول مالك ومن تابعه إن شاء الله ، والله الموفق للصواب .

وقد أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، عن أبيه ، عن محمد بن عمر بن لبابة ، قال : أخبرنا مالك بن علي القرشي ، عن يحيى بن يحيى ، أن يحيى بن مضر حدثه عن مالك بن أنس في الذي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينكح بما معه من القرآن : أن ذلك في أجرته على تعليمها ما معه .

التالي السابق


الخدمات العلمية