التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
786 حديث ثان لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن نافع مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة ، أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره حتى إذا كانوا ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حمار وحش ، فاستوى على فرسه ، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه ، فأبوا ، فسألهم رمحه ، فأبوا ، فأخذه ، ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى بعضهم ، فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك ، فقال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله .


هذا حديث ثابت صحيح ، لا يختلف أهل العلم بالحديث في ثبوته وصحته ، وقد روي عن أبي قتادة من وجوه ، وقد رواه جابر أيضا ، عن أبي قتادة : أخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن حرب ، وحجاج بن منهال ، قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن أبا قتادة أصاب حمار وحش وهو حلال فأكلوا منه .

[ ص: 151 ] قال حماد بن سلمة سمعت محمد بن المنكدر يحدث عن أبي هريرة وجابر بمثل هذا الحديث .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا مطلب بن شعيب ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، أنه حدثه أن نافعا الأقرع مولى بني غفار حدثه أن أبا قتادة حدثه أنه اعتمر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث نحوا من حديث مالك .

وروى مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي قتادة في الحمار الوحشي مثل حديث أبي النضر ، إلا أن في حديث زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هل معكم من لحمه شيء ؟

وأخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا صالح بن كيسان ، قال : سمعت أبا محمد يقول : سمعت أبا قتادة يقول : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بالقاحة ، فمنا المحرم وغير المحرم ، إذ بصرت بأصحابي يتراءون شيئا ، فنظرت ، فإذا أنا بحمار وحش ، فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، وركبت فرسي ، فسقط سوطي ، فقلت لأصحابي : ناولوني ، وكانوا محرمين ، فقالوا : لا والله ، لا نعينك عليه بشيء ، فتناولت سوطي ، ثم أتيت الحمار من خلفه ، وهو وراء أكمة ، فطعنته برمحي ، فعقرته ، فأتيت به أصحابي ، فقال بعضهم : نأكله ، وقال بعضهم : لا نأكله ، قال : وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامنا ، فحركت فرسي فأدركته فسألته ، فقال : هو حلال فكلوه .

[ ص: 152 ] قال أبو عمر :

يقال : إن أبا قتادة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجهه على طريق البحر مخافة العدو ، فلذلك لم يكن محرما إذ اجتمع مع أصحابه ; لأن مخرجهم لم يكن واحدا ، وكان ذلك عام الحديبية ، أو بعده بعام عام القضية ، وكان اصطياد أبي قتادة الحمار لنفسه ، لا لأصحابه ، والله أعلم .

وفي حديث أبي قتادة هذا دليل على أن لحم الصيد حلال أكله للمحرم إذا لم يصده وصاده الحلال ، وفي ذلك أيضا دليل على أن قوله عز وجل ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) معناه : الاصطياد ، وقتل الصيد وأكله لمن صاده ، وأما من لم يصده فليس ممن عني بالآية ، والله أعلم .

وتكون هذه الآية على هذا التأويل مثل قوله عز وجل ( ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) سواء لأن هذه الآية إنما نهي فيها ، عن قتل الصيد ، واصطياده ، وهذا باب اختلف فيه السلف والخلف ، فكان عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير يرون للمحرم أكل ما صاده الحلال من الصيد مما يحل للحلال أكله ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وأبي هريرة .

وحجة من ذهب هذا المذهب حديث أبي قتادة هذا ، وحديث البهزي ، وسنذكره في باب يحيى بن سعيد من كتابنا هذا - إن شاء الله - وحديث طلحة بن عبيد الله :

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا ابن جريج ، قال : حدثني محمد بن المنكدر ، عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي ، [ ص: 153 ] عن أبيه ، قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ، ونحن محرمون ، فأهدي لنا طير ، وهو راقد ، فأكل بعضنا ، فاستيقظ طلحة فوفق من أكله ، وقال : أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال آخرون : لحم الصيد محرم على المحرمين على كل حال ، ولا يجوز لمحرم أكل لحم صيد البتة ، على ظاهر عموم قول الله عز وجل ( وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) . قال ابن عباس : هي مبهمة ، وكذلك كان علي بن أبي طالب ، وابن عمر ، لا يريان أكل الصيد للمحرم ما دام محرما ، وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد وروي عن الثوري وإسحاق مثل ذلك ، وحجة من ذهب هذا المذهب : حديث ابن عباس ، عن الصعب بن جثامة ، أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمار وحش أو لحم حمار وحش بالأبواء أو بودان ، فرده عليه ، وقال لم نرده عليك إلا أنا حرم ، وقد ذكرنا هذا الخبر في باب ابن شهاب من هذا الكتاب ، وحجتهم أيضا : حديث زيد بن أرقم وابن عباس :

حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا جعفر بن محمد ، حدثنا عفان ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو سلمة ، قالا جميعا : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا قيس بن سعد ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه قال لزيد بن أرقم : يا زيد أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدي له عضد صيد - وقال عفان : عضو صيد - فلم يقبله ، وقال : إنا حرم ، قال : نعم ، وقال عفان : بلى .

وروي ، عن علي بن زيد ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه في حديث فيه طول ، وفيه عن عثمان : إجازة ذلك .

وقال آخرون : ما صاده الحلال للمحرم أو من أجله ، فلا يجوز له أكله ، وما لم يصد له ولا من أجله ، فلا بأس للمحرم بأكله ، وهو الصحيح عن عثمان [ ص: 154 ] في هذا الباب ، وبه قال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وروي أيضا عن عطاء مثل ذلك .

وحجة من ذهب هذا المذهب : أنه عليه تصح الأحاديث في هذا الباب ، وأنها إذا حملت على ذلك لم تتضاد ، ولا تدافعت ، وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ، ولا يعارض بعضها ببعض ، ما وجد إلى استعمالها سبيل ، هذا وجه النظر في ذلك .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث مثل ذلك :

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا ابن وهب ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو مولى المطلب ، أخبره عن المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لحم صيد البر لكم حلال ، وأنتم حرم ، ما لم تصطادوه ، أو يصطد لكم .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا حمزة بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن عمرو ، عن المطلب ، عن جابر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم .

قال حمزة : قال لنا أبو عبد الرحمن : عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث ، وإن كان مالك قد روى عنه .

واختلف عن مالك وطائفة من أهل المدينة فيما صيد لقوم معينين من المحرمين ، هل يجوز أكله لغيرهم من المحرمين ؟ فقال بعضهم : لا يجوز ، وأجازه بعضهم على مذهب عثمان رحمه الله ، وقد أتينا بما للعلماء في هذه المسألة وأخواتها من التنازع والمذاهب في كتاب الاستذكار ، والحمد لله .

[ ص: 155 ] قال أبو عمر وفي حديث أبي قتادة : أنه لما استوى على فرسه سأل أصحابه أن يناولوه سوطه ، أو رمحه ، فأبوا ، وفي هذا دليل على أن المحرم إذا أعان الحلال على الصيد بما قل أو كثر ، فقد فعل ما لا يجوز له ، وهذا إجماع من العلماء .

واختلفوا في المحرم يدل المحرم أو الحلال على الصيد :

فأما إذا دل المحرم الحلال على الصيد ، فقال : مالك والشافعي وأصحابهما : يكره له ذلك ، ولا جزاء عليه ، وهو قول ابن الماجشون ، وأبي ثور ، ولا شيء عليه .

وقال المزني : جائز أن يدل المحرم الحلال على الصيد .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليه الجزاء ، قال أبو حنيفة : ولو دله في الحرم لم يكن عليه جزاء .

وقال زفر : عليه الجزاء في الحل دله عليه أو الحرم ، وبه قال : أحمد وإسحاق ، وهو قول علي ، وابن عباس ، وعطاء .

قال أبو عمر :

القول الأول أقيس وأصح في النظر .

واختلف العلماء أيضا فيما يجب على المحرم يدل المحرم على الصيد فيقتله :

فقال قوم : عليهما كفارة واحدة ، منهم عطاء ، وحماد بن أبي سليمان .

وقال آخرون : على كل واحد منهما كفارة ، روي ذلك عن سعيد بن جبير ، والشعبي ، والحارث العكلي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .

وعن سعيد بن جبير أنه قال : على كل واحد من القاتل والآمر والمشير والدال جزاء .

وقال الشافعي وأبو ثور : لا جزاء ، إلا على القاتل وحده .

واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد :

فقال مالك : إذا قتل جماعة محرمون صيدا ، أو جماعة محلون في الحرم صيدا ، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل ، وبه قال الثوري والحسن بن حي ، وهو قول الحسن البصري ، [ ص: 156 ] والنخعي ، ورواية عن عطاء .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قتل جماعة محرمون صيدا ، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل ، وإن قتل جماعة محلون صيدا في الحرم ، فعلى جماعتهم جزاء واحد .

وقال الشافعي : عليهم كلهم جزاء واحد ، وسواء كانوا محرمين أو محلين في الحرم ، وهو قول عطاء ، والزهري ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور .

وروي عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أنهما حكما على رجلين أصابا ظبيا شاة .

قال أبو عمر :

من جعل على كل واحد منهم جزاء ، قاسه على الكفارة في قتل النفس ; لأنهم لا يختلفون في وجوب الكفارة على جميع القتلة خطأ على كل واحد منهم كفارة ، ومن جعل فيه جزاء واحدا قاسه على الدية ، ولا يختلفون أن من قتل نفسا خطأ - وإن كانوا جماعة - إنما عليهم دية واحدة يشتركون فيها ، وقد روي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة هذا ما يدل على أن المشير المحرم لا يجوز له أكل ما أشار بقتله على الحلال :

أخبرنا محمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمود بن غيلان ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : أخبرنا شعبة ، قال : أخبرني عثمان بن عبد الله بن موهب ، قال : سمعت عبد الله بن أبي قتادة يحدث عن أبيه ، أنهم كانوا في مسير لهم بعضهم محرم وبعضهم ليس بمحرم ، قال : فرأيت حمار وحش ، فركبت فرسي ، وأخذت الرمح فاستعنتهم ، فأبوا أن يعينوني ، فاختلست سوطا من بعضهم ، وشددت على الحمار ، فأصبته ، فأكلوا منه ، فأشفقوا ، قال : فسئل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هل أشرتم أو أعنتم ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية