التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
841 [ ص: 157 ] حديث ثالث لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن أم الفضل بنت الحارث ، أن أناسا اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : هو صائم ، وقال بعضهم : ليس بصائم ، فأرسلت إليه بقدح لبن ، وهو واقف على بعيره ، فشربه .
قال أبو عمر :

محمل هذا الحديث عندنا أنه كان بعرفة ، وقد روي ذلك منصوصا ، وإذا كان بعرفة ، فالفطر أفضل تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوة على الدعاء ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ، ونهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .

وتخصيصه بعرفة دليل على أن غير عرفة ليست كذلك ، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - فضل صوم عرفة ، وأنه يكفر سنتين ، والله أعلم .

وقد روي ، عن ميمونة في هذا الباب مثل حديث أم الفضل سواء ، حدثناه أحمد بن سعيد ، حدثنا ابن أبي دليم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا يعقوب بن حميد ، حدثنا الدراوردي ، عن إبراهيم بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن ميمونة أنهم تماروا في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فقالت ميمونة سأبعث إليه بشراب ، فإن كان مفطرا لم يرده ، فبعثت إليه بقدح لبن فشرب ، والناس ينظرون ، يعني يوم عرفة .

[ ص: 158 ] وكان مالك والثوري والشافعي يختارون الفطر يوم عرفة بعرفة ، قال إسماعيل ، عن ابن أبي أويس ، عن مالك ، أنه كان يأمر بالفطر يوم عرفة في الحج ، ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك اليوم مفطرا .

وقال الشافعي : أحب صوم يوم عرفة لغير الحاج ، فأما من حج فأحب إلي أن يفطر ليقويه الفطر على الدعاء .

قال أبو عمر :

قول الشافعي أحسن شيء في هذا الباب ، وكان ابن الزبير ، وعائشة يصومان يوم عرفة ، وعن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن أبي العاصي مثل ذلك ، إلا أنه قد جاء عن عمر أنه لم يصم يوم عرفة ، وهذا عندي على أنه بعرفة ، لئلا تتضاد عنه الرواية في ذلك ، روى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، أن عمر بن الخطاب لم يصم يوم عرفة ، وأما عثمان بن أبي العاصي فكان يصومه .

ذكر الفاكهي ، قال : حدثنا حسين بن حسن ، ويعقوب بن حميد ، قالا : حدثنا المعمر بن سليمان ، قال سمعت حميدا يحدث عن الحسن ، قال : لقد رأيت عثمان بن أبي العاصي يرش عليه ماء في يوم عرفة ، وهو صائم ، وهذا يحتمل أن يكون بغير عرفة أيضا .

قال : وحدثنا يعقوب بن حميد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن جابر ، عن أبيه ، عن عطاء ، قال : صيام يوم عرفة ، كصيام ألف يوم ، وهذا أيضا بغير عرفة ، والله أعلم .

وكان إسحاق بن راهويه يميل إلى صومه بعرفة وغير عرفة ، وقال قتادة : لا بأس به إذا لم يضعف عن الدعاء ، وكان عطاء يقول : أصومه في الشتاء ، ولا أصومه في الصيف ، وهذا لئلا يضعفه صومه مع الحر عن الدعاء ، والله أعلم .

[ ص: 159 ] وكان ابن عمر يقول : لم يصمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ، فأنا لا أصومه .

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن عمر ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال حججت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصمه ، ، ومع أبي بكر فلم يصمه ، ومع عمر فلم يصمه ، ومع عثمان فلم يصمه ، ولا أصومه ، ولا آمر بصيامه ، ولا أنهى عنه ، وهذا يوضح لك أن ذلك كان في الحج بعرفة لما ذكرنا ، والله أعلم .

أخبرنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، وحدثنا سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا مسدد قالا جميعا : حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي ، قال : حدثنا هوذة أبو الأشهب ( بن خليفة بن عبد الله ) البصري ، عن أبيه ، عن جده ، قال : مر عمر بن الخطاب بأبيات بعرفات ، فقال : ما هذه الأبيات ؟ قلنا : لعبد القيس ، فقال لهم خيرا ، ودعا لهم ونهاهم عن صوم يوم عرفة .

قال : وحج أبي وطليق بن محمد الخزاعي ، فاختلفا في صوم يوم عرفة ، فقال أبي : بيني وبينك سعيد بن المسيب ، فأتيناه ، فقلت له : يا أبا محمد ، إنا اختلفنا في صوم يوم عرفة ، فجعلناك بيننا ، فقال : أنا أخبركم ، عثمان هو خير مني ، عبد الله بن عمر كان لا يصومه ، وقال : حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان ، فكلهم كان لا يصومه ، وأنا لا أصومه [ ص: 160 ] قال أبو عمر :

محمل هذا عندي بعرفة خاصة ، والله أعلم ، والآثار تدل على ذلك ، ألا ترى أن في هذا الحديث ، عن عمر أنه مر بأبيات بعرفات لعبد القيس ، ومعلوم أن عمر ، إنما كان يأتي في خلافته عرفة في أيام الحج خاصة ، ومثل هذا حديث ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن ابن عمر أنه سئل ، عن صيام يوم عرفة ، فقال : حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصمه وحججت مع عمر فلم يصمه ، وحججت مع عثمان فلم يصمه ، وأنا لا أصومه ، ولا آمر به ، ولا أنهى عنه . وهذا يبين أن ذلك في أيام الحج ، وأنه لا يصح النهي عن صوم يوم عرفة إلا بعرفة في أيام الحج .

ومثل هذا أيضا حديث يحيى بن أبي إسحاق ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر في ذلك :

حدثنا سعيد بن نصر - قراءة مني عليه - أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال حدثني يحيى بن أبي إسحاق ، قال : سألت سعيد بن المسيب ، عن صوم يوم عرفة ، فقال : كان ابن عمر لا يصومه ، فقلت : غيره ؟ فقال : حسبك به شيخا .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حوشب بن عقيل ، عن مهدي الهجري ، قال : حدثنا عكرمة قال : كنا عند أبى هريرة في بيته ، فحدثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .

[ ص: 161 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حوشب بن عقيل ، عن مهدي الهجري ، قال : حدثنا عكرمة ، قال كنا عند أبي هريرة في منزله فحدثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .

وروى حماد بن زيد ، وإسماعيل بن علية ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ، وبعثت إليه أم الفضل بلبن فشربه ، وفي حديث حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : حدثتني أم الفضل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفطر بعرفة ، أتته بلبن فشربه .

حدثنا أحمد بن قاسم ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال : حدثنا داود بن نوح ، حدثنا حماد ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه أفطر بعرفة ، وأتي برمان فأكله ، وقال : حدثتني أم الفضل ، فذكره .

وحديث ابن علية ذكره ابن أبي شيبة عنه ، وهذا كله يدل على أن فطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، في حديث أم الفضل كان بعرفة .

وقد ذهبت طائفة إلى ترك صومه بعرفة وغير عرفة للدعاء ، وقالوا : دعاء يوم عرفة بعرفة وغيرها دعاء مرجو إجابته ، وممن ذهب إلى هذا : عبيد بن عمير ، ومحمد بن المنكدر ، وكان ابن عباس يقول لأصحابه : من صحبني من ذكر أو أنثى ، فلا يصم يوم عرفة .

وروى سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير أنه قال : أفطر يوم عرفة ; لأتقوى على الدعاء ، وهذا ممكن أن يكون بعرفة ; لأنه موضع الاجتهاد في الدعاء ، مع ما فيه القوم من النصب والتعب بالسفر ، وأما ما روي في فضل صومه ، وذلك يدل على أنه بغيره ، والله أعلم :

فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا داود بن [ ص: 162 ] شابور ، عن أبي قزعة ، عن أبي الخليل ، عن أبي حرملة ، عن أبي قتادة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال صيام يوم عرفة يكفر هذه السنة والتي تليها . وهذا الحديث اختلف في إسناده اختلافا يطول ذكره ، وأبو الخليل ، وأبو حرملة لا يحتج بهما ، وطائفة تقول : أبو حرملة ، وطائفة تقول : حرملة بن إياس الشيباني ، ولكنه صحيح عن أبي قتادة من وجوه ، روى شعبة ، عن غيلان بن جرير المعولي ، عن عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة ، قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم عرفة ، فقال : يكفر السنة الماضية والباقية ، ذكره أبو بكر بن أبي شيبة ، عن شبابة ، عن شعبة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني ، عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عرفة ، فقال : يكفر السنة الماضية والباقية ، وسئل عن صوم يوم عاشوراء ، فقال : يكفر السنة الماضية . وهذا إسناد حسن صحيح ، وهو يعضد ما تقدم .

حدثنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا سليمان بن أحمد الواسطي ، حدثنا عمر بن عبد الواحد ، حدثنا إسحاق بن عبد الله ، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن قتادة بن النعمان ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : صوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة أمامه وسنة خلفه .

[ ص: 163 ] قال أبو عمر إسحاق هذا هو إسحاق بن أبي فروة ، وهو ضعيف ، والفضائل يتسامح في أسانيدها .

وذكر الفاكهي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال : قرأت على فضيل ، عن أبي حريز ، أنه سمع سعيد بن جبير يحدث أن رجلا سأل ابن عمر عن صوم يوم عرفة ، فقال : كنا ، ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعدله بصوم سنة ، وهذا يوضح لك ما ذكرناه ، وبذلك يصح استعمال الروايات كلها ، عن ابن عمر ، وغيره في هذا الباب .

وأما حديث عقبة بن عامر في هذا الباب ، فحدثناه أحمد بن محمد بن أحمد ، قال : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا موسى بن معاوية ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، قالا : حدثنا وكيع بن الجراح ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق عندنا - أهل الإسلام - وهي أيام أكل وشرب .

وحدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا وهب بن مسرة ، قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن حيون ، قال : حدثنا بشر بن موسى ، قال : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

قال أبو عمر :

هذا حديث انفرد به موسى بن علي ، عن أبيه ، وما انفرد به ، فليس بالقوي ، وذكر يوم عرفة في هذا الحديث غير محفوظ ، وإنما المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه : يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق أيام أكل وشرب .

[ ص: 164 ] وقد أجمع العلماء على أن يوم عرفة جائز صيامه للمتمتع إذا لم يجد هديا ، وأنه جائز صيامه بغير مكة ، ومن كره صومه بعرفة ، فإنما كرهه من أجل الضعف عن الدعاء ، والعمل في ذلك الموقف ، والنصب لله فيه ، فإن صيامه قادرا على الإتيان بما كلف من العمل بعرفة ، بغير حرج ، ولا إثم .

وفي حديث موسى بن علي هذا ذكر عرفة ، مع بيان حكمه ، وذكر يوم النحر ، وقد أجمعوا على أنه لا يحل لأحد صومه ، وذكر أيام التشريق ، وقد اختلف العلماء في صيامها للمتمتع وغيره ، على ما يأتي ذكره في موضعه في هذا الكتاب ، إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية