التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
258 حديث سادس لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أنها قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي ، وإذا قام بسطتهما ، قالت : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .


هذا من أثبت حديث يروى في هذا المعنى ، وقد روى القاسم ، عن عائشة مثله : حدثناه خلف بن قاسم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، قال : حدثنا خالد بن الحارث ، ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن القاسم ، قال : بلغ عائشة أن أبا هريرة يقول : إن المرأة تقطع الصلاة ، فقالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، فتقع رجلي بين يديه أو بحذائه ، فيضربها ، فأقبضها .

[ ص: 167 ] وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قالا : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : سمعت القاسم بن محمد يحدث ، عن عائشة ، قالت : بئسما عدلتمونا بالحمار والكلب ، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، وأنا معترضة بين يديه ، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي ، فضممتهما إلي ، ثم يسجد .

وفيه من الفقه وجوه منها أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ، ولا صلاة من مرت بين يديه ، وهذا موضع اختلفت فيه الآثار ، واختلف فيه العلماء أيضا ، فقالت طائفة : يقطع الصلاة على المصلي إذا مر بين يديه الكلب والحمار والمرأة ، وممن قال هذا : أنس بن مالك ، وأبو الأحوص ، والحسن البصري .

وحجة من قال بهذا القول حديث حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرحل : الحمار ، والمرأة ، والكلب الأسود ، فقلت : ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض ، فقال : يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني ، فقال : الكلب الأسود شيطان .

وروى يحيى بن أبي كثير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أحسبه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا صلى أحدكم إلى غير سترة ، فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والمجوسي والمرأة ، وتجزئ إذا مر بين يديه على قذفة بحجر .

وروي عن عائشة أنها قالت : لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وقال في نفسي من المرأة والحمار شيء ، وكان ابن عباس وعطاء بن أبي رباح يقولان : يقطع الصلاة الكلب الأسود والمرأة الحائض .

[ ص: 168 ] وحجة من قال هذا القول ما حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن شعبة ، قال : حدثنا قتادة ، قال : سمعت جابر بن زيد يحدث ، عن ابن عباس ، رفعه شعبة ، قال : يقطع الصلاة المرأة الحائض والكلب .

وقال جمهور العلماء : لا يقطع الصلاة شيء ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأصحابهم ، والثوري ، وأبي ثور ، وداود ، والطبري ، وجماعة من التابعين .

قال أبو عمر :

الآثار المرفوعة في هذا الباب كلها صحاح من جهة النقل ، غير أن حديث أبي ذر وغيره في المرأة والحمار والكلب منسوخ ومعارض ، فمما عارضه أو نسخه عند أكثر العلماء : حديث عائشة المذكور في هذا الباب .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، حدثنا محمد بن عمر بن علي ، حدثنا علي بن حرب ، حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاته من الليل ، وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة .

حدثنا محمد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : حدثنا إسحاق بن أبي حسان ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثنا عطاء بن أبي رباح والزهري ، قالا : حدثنا عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ، وأنا معترضة فيما بينه وبين القبلة ، فسقط بهذا الحديث أن تكون المرأة تقطع الصلاة ، وكيف تقطع الصلاة بمرورها ، وفي هذا الحديث أن اعتراضها في القبلة نفسها لا يضر .

[ ص: 169 ] وروى شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : كنت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين القبلة ، قال شعبة : وأحسبها قالت : وأنا حائض ، قال أبو داود : رواه الزهري ، وعطاء ، وأبو بكر بن حفص ، وهشام بن عروة ، وعراك بن مالك ، وأبو الأسود ، وتميم بن سلمة ، كلهم عن عروة ، عن عائشة ولم يذكروا فيه : وأنا حائض . قال أبو داود ، ورواه أيضا إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة وأبو الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة ، والقاسم ، وأبو سلمة ، عن عائشة ، ولم يذكروا : وأنا حائض .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا بكر ، قالا : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، قال : سمعت القاسم يحدث عن عائشة ، قالت : بئسما عدلتموني بالحمار والكلب ، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، وأنا معترضة بين يديه ، فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي ، فضممتهما إلي ، ثم يسجد .

وأما الحمار ففي رواية الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس قال : جئت على حمار ، فمررت بين يدي الصفوف ، وهذا الأغلب منه أنه مر بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر سترة ، ولهذا سبق الحديث ، ولو من خلف السترة ما احتج بالحديث من ساقه كذلك ، والله أعلم .

هكذا رواه ابن عيينة وغيره ، عن الزهري ، وقال فيه ، عن مالك ، عن الزهري بإسناده : أقبلت راكبا على أتان ، فمررت بين يدي بعض الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحد ، وقد روى الليث ، عن يحيى بن أيوب ، عن محمد بن عمر بن علي [ ص: 170 ] عن عباس بن عبيد الله بن عباس ، عن الفضل بن عباس ، قال : أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية ، ومعه عباس ، فصلى في صحراء ، ليس بين يديه ستر ، وحمارة لنا وكلبة تعبثان بين يديه فما بالا بذلك . ذكره أبو داود ، عن عبد الملك بن شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن جده .

ففي هذا الحديث ما يدل على أن الحمار والكلب لا يقطعان الصلاة ، ومن جهة النظر ، لا يجب أن يحكم بقطع الصلاة لشيء من الأشياء إلا بما لا تنازع فيه ، وقد تعارضت الآثار في هذا الباب واضطربت ، والأصل أن الحكم لا يجب إلا بيقين .

وقد روى مجالد ، عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم ، إنما هو شيطان .

وقد ذكرنا أخبار هذا الباب مستوعبة ، وذكرنا ما للعلماء في ذلك في باب ابن شهاب من هذا الكتاب .

وأما قوله في حديثنا في هذا الباب : ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني ، فقبضت رجلي . وفي حديث القاسم ، عن عائشة : غمز رجلي ، فضممتهما إلي ، ففيه دليل على أن الملامسة لا تنقض الطهارة ما لم يكن معها اللذة ، وهذا مما نزع به واستدل جماعة من أصحابنا في باب الملامسة : قرأت على أبي عمر أحمد بن عبد الله بن محمد أن أباه أخبره ، قال أخبرنا محمد بن عمر بن لبابة ، قال حدثني قاسم بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : قال لي المزني : من أين قال مالك بن أنس إنه من لمس لشهوة انتقض وضوءه ، ومن لمس لغير شهوة لم ينتقض عليه وضوءه ؟ فقلت له : قال [ ص: 171 ] الله عز وجل ( أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ) الآية ، فكان واجبا بظاهر الآية انتقاض وضوء كل ملامس كيف لامس ، فدلت السنة على أن الوضوء على بعض الملامس ، دون بعض ، فقال : وأين السنة ؟ فقلت له حديث عائشة : فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلبته فوضعت يدي على قدميه ، وهو ساجد ، يقول : أعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك ، وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ، قال قاسم : فلما وضعت يدها على قدمه ، وهو ساجد ، وتمادى في سجوده ، كان دليلا على أن الوضوء لا ينتقض ، إلا على بعض الملامسين ، دون بعض ، قال المزني ، فإني أقول : إنه كان على قدمه حائل شيء كالثوب يسترها أو نحوه ، قال قاسم : فقلت له : القدم بلا حائل ، حتى يثبت الحائل .

قال أبو عمر :

ما أدري كيف يجوز على مثل المزني - مع جلالته وفقهه وسعة فهمه - مثل هذا الإدخال والاحتجاج ؟ والأغلب أن النائم مشتمل في ثوبه ملتحف به ، وإذا أمكن ذلك ، وهو الأغلب لم يجب أن يقطع بملامسة فيها مباشرة إلا بيقين ، ولا يقين في هذا الحديث ; لإمكان ستر القدم ، واحتماله ، وإذا احتمل لم تكن فيه حجة ; لأن الحجة ما لا تنازع فيه ، ولا يحتمل تأويل الخصم .

وحديث هذا الباب أولى من الحديث الذي احتج به قاسم ; لأن في حديثنا في هذا الباب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغمز رجل عائشة ، أو رجليها ، فهو الملامس في هذا الحديث ، لو ثبت أنه باشرها ، أو شيئا من جسدها بالملامسة ; لأنه قد يحتمل أن يغمزها على الثوب أو يضرب رجلها بكمه ، ونحو هذا .

[ ص: 172 ] والحديث الذي احتج به قاسم يرويه مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ، وهو منقطع من هذا الوجه ، ولكنه يستند من طرق صحيحة ، سنذكرها في باب يحيى بن سعيد من كتابنا هذا ، إن شاء الله .

وأما اختلاف العلماء في الملامسة التي تنقض الطهارة ، وتوجب الوضوء على من أراد الصلاة ، فاختلاف قديم وجدناه عن السلف والخلف ، ونحن نورد منه من وجوه أقاويلهم فيها ما فيه كفاية ، إن شاء الله .

قال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، وأكثر أهل العراق ، وطائفة من أهل الملامسة التي ذكر الله عز وجل في كتابه في قوله : أو لمستم النساء ، أو ( لامستم ) على ما قرئ من ذلك كله هي الجماع نفسه الموجب للغسل ، وأدنى ذلك مس الختان ، وأما ما كان دون ذلك من القبلة ، والجسة ، وغيرها ، فليس من الملامسة ، ولا ينقض الوضوء ، وهو مذهب ابن عباس ، ومسروق ، وعطاء ، والحسن ، وطاوس .

وروي عن علي بن أبي طالب مثل ذلك .

وقال الثوري : من قبل امرأته وهو على وضوء لم أر عليه وضوءا .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : من قبل امرأته ، أو باشرها ، أو لامسها لشهوة ، أو لغير شهوة ، فلا وضوء عليه إلا أن ينتشر ، ومن قصد مسها لشهوة ، ليس بينهما ثوب ، فمسها وانتشر ، فإن كان هذا انتقض وضوءه عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وقال محمد : لا ينتقض وضوءه ، إلا أن يخرج منه مذي أو غيره .

وقد قال الأوزاعي في الذي يقبل امرأته : إن جاء يسألني ، قلت : يتوضأ ، وإن لم يتوضأ ، لم أعب عليه ، وقال في الرجل يدخل رجليه في ثياب امرأته فيمس فرجها أو بطنها : لا ينقض ذلك وضوءه .

[ ص: 173 ] قال أبو عمر :

كلهم ذهب إلى أن الملمس باليد ، لا بالرجل لقول الله عز وجل ( فلمسوه بأيديهم ) والمباشرة عند مالك بالجسد ، كاللمس باليد يراعون فيه اللذة ، على ما يأتي بعد واضحا ، إن شاء الله .

وقال أبو ثور : لا وضوء على من قبل امرأته ، أو باشرها ، أو لمسها .

قال أبو عمر :

فمما احتج به من ذهب هذا المذهب : أن قال : الملامسة واللمس نظيرها في كتاب الله المسيس والمس ، والمماسة مثل الملامسة ، قال الله عز وجل ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) ، وقد أجمعوا على أن رجلا لو تزوج امرأة فمسها بيده ، أو قبلها في فمها ، أو جسدها ، ولم يخل بها ، ولم يجامعها ، أنه لا يجب عليه إلا نصف الصداق ، كمن لم يصنع شيئا من ذلك ، وأن المس والمسيس عني به هاهنا الجماع ، فكذلك اللمس والملامسة ، قالوا : وكذلك قال ابن عباس : إن الله عز وجل حيي كريم يكني عن الجماع بالمسيس ، وبالمباشرة ، وباللمس وبالرفث ، ونحو ذلك .

وذكروا ما حدثناه إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا أبو صالح الفراء ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : إن [ ص: 174 ] الله حيي كريم يكني ، قال ( فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) فهذا باب من الجماع ، وقد كنى ، وقال ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) وقال ( فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ) فهذا باب من الجماع وقد كنى ، وقال تبارك وتعالى ( أو لامستم النساء ) فهذا باب من الجماع وقد كنى .

وحدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عبد الواحد البزار ، قال : حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الفراء ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري فذكره إلى آخره .

وحدثناه عبد الوارث أيضا ، حدثنا قاسم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا عبد الملك بن حبيب المصيصي ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، فذكره .

واحتجوا من الأثر المرفوع بما رواه وكيع وغيره ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل امرأة من نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ، ولم يتوضأ ، قال : قلت : من هي إلا أنت ، فضحكت .

ووكيع ، عن سفيان ، عن أبي رءوف ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها ، فلم يتوضأ .

قالوا : ولا معنى لطعن من طعن على حديث حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، في هذا الباب ; لأن حبيبا ثقة ، ولا يشك أنه أدرك عروة ، وسمع ممن هو أقدم من عروة ، فغير مستنكر أن يكون سمع هذا الحديث من عروة ، فإن لم يكن سمعه عنه ، فإن أهل العلم لم يزالوا يروون [ ص: 175 ] المرسل من الحديث والمنقطع ، ويحتجون به إذا تقارب عصر المرسل والمرسل عنه ، ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء ، والأخذ عنهم ، ألا ترى أنهم قد أجمعوا على الاحتجاج بحديث ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجله مراسيل ، والقول في رواية إبراهيم التيمي ، عن عائشة مثل ذلك ; لأنه لم يلق عائشة ، وهو ثقة فيما يرسل ويسند ، قالوا : وقد روي هذا الخبر ، عن عائشة من وجوه ، وإن كان بعضها مرسلا ، فإن الطرق إذا كثرت قوى بعضها بعضا .

وذكروا ما روى شعبة وغيره ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس الجماع ، وقال ناس من العرب : اللمس الجماع ، فأتيت ابن عباس ، فقلت : إن ناسا من الموالي ، والعرب اختلفوا في اللمس ، وأخبرته بقولهم ، فقال : مع أي الفريقين كنت ؟ قلت : مع الموالي ، قال : غلب فريق الموالي ، إن اللمس والمباشرة الجماع ، ولكن الله يكني بما شاء ، قالوا : ، والكتاب ، والسنة ، والقياس ، والنظر كل ذلك يدل على أن الملامسة المقصود إلى ذكرها في آية الوضوء هي الجماع ، قالوا : فأما الكتاب ، فقول الله عز وجل ( ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) يريد : وقد أحدثتم قبل ذلك ( فاغسلوا وجوهكم ) الآية ، فأوجب غسل الأعضاء التي ذكرها بالماء ، ثم قال ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) يريد : الاغتسال بالماء ، ثم قال ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ) يريد الجماع الذي يوجب الجنابة ، ولم تجدوا ماء تتوضئون به من الغائط ، أو تغتسلون به من الجنابة ، كما أمرتكم في أول الآية ( فتيمموا صعيدا طيبا ) قالوا : فإنما أوجب في آخر الآية التيمم على من كان أوجب عليه الوضوء والاغتسال بالماء في أولها ، قالوا : وقول من [ ص: 176 ] خالفنا إن الله لما ذكر طهارة الجنب في أول الآية ذكر الملامسة في آخر الآية موصولا بذكر الغائط ، استدلوا بذلك على أنه غير الجنابة ، فليس كما قالوا ، وإنما كان يكون ما قالوا دليلا لو كان إنما أوجب على الملامس في آخر الآية الطهارة التي أوجبها على الجنب في أولها ، فكان يكون دليلا على أن اللمس غير الجنابة ; لأنه قد أوجب الطهارة من الجنابة في أول الآية ، فلم يكن لإعادة إيجاب الطهارة منها في آخرها معنى يصح ، ولكنه إنما أوجب عليه في أول الآية الاغتسال بالماء ، وأوجب عليه في آخرها التيمم بدلا من الماء إذا كان مسافرا لا يجد الماء أو مريضا ، قالوا : فهذا المعنى أصح وأشبه بالتأويل مما ذهب إليه من خالفنا .

قال أبو عمر :

وقال أكثر أهل الحجاز وبعض أهل العراق : اللمس ما دون الجماع مثل القبلة ، والجسة ، والمباشرة باليد ، ونحو ذلك مما دون الجماع ، وهو مذهب مالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحابه ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق إلا أنهم اختلفوا في معنى اعتبار اللذة على ما نذكره بعد في هذا الباب إن شاء الله .

وممن روي عنه أن اللمس ما دون الجماع عمر ، وابن مسعود وابن عمر ، وجماعة من التابعين بالمدينة والكوفة والشام .

وروى مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، أنه كان يقول قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة ، فمن قبلها أو جسها بيده ، وجب عليه الوضوء .

ورواه الدراوردي ، عن ابن أخي ابن شهاب ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، عن عمر ، قال : القبلة من اللمم فتوضئوا منها ، وهذا عندهم خطأ ، وإنما هو عن ابن عمر صحيح ، لا عن عمر .

[ ص: 177 ] وروى الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، قال : قال عبد الله بن مسعود : القبلة من اللمس ، ومنها الوضوء ، واللمس ما دون الجماع .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة مثله ، وعن سعيد بن المسيب مثله .

وحكى ابن وهب ، عن مالك ، والليث ، وعبد العزيز بن أبي سلمة في قبلة الرجل امرأته الوضوء .

وحكى الزعفراني والربيع والمزني ، عن الشافعي أنه قال : من لمس امرأته أو قبلها وجب عليه الوضوء ، قال الزعفراني عنه : ولو ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها شيئا ، ولا في اللمس ، فإن معبد بن نباتة يروي عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقبل ولا يتوضأ ، ولكن لا أدري كيف معبد بن نباتة هذا ؟ فإن كان ثقة ، فالحجة فيما روي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال أبو عمر :

قد استدل أصحابنا على صحة ما ذهبوا إليه في أن الملامسة ما دون الجماع بأدلة يطول ذكرها ، منها أن قالوا الملامسة لم يرد الله بذكرها في آية الوضوء ، الجماع ; لأنه أفردها من ذكر الجنابة ، بقوله ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) فجاء بالشرط وجوابه ، ثم استأنف ، فقال : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا ) فجاء بالشرط وجوابه ، فدل ذلك على أن قوله ( وإن كنتم جنبا ) وانتفى بذلك أن تكون الملامسة الجماع ، ودخلت [ ص: 178 ] في باب الحدث الموجب الوضوء والتيمم ; لأنه جمعها في الذكر مع الغائط ، وجاء بجواب واحد لذلك الشرط ، كما جاء في قوله ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) ، فجاء بالشرط وجوابه ، ثم استأنف ذكر الجماع بحكم مفرد ، قال ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) فجاء بالشرط وجوابه تاما ، قالوا : وهذا هو المفهوم من كلام العرب ، قالوا : ولهذا كان ابن مسعود وعمر يذهبان إلى أن الجنب لا يتيمم ; لأنه أفرد بحكم الغسل ، ولم يريا الجماع من الملامسة ، وقد ذكرنا وجه قولهما وما يرده من السنة في باب عبد الرحمن بن القاسم من كتابنا هذا والحمد لله .

وتقدير الآية في مذهب من أنكر أن تكون الملامسة الجماع ممن يرى التيمم للجنب : أن يكون فيها تقديم وتأخير ، كأنه قال عز وجل : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر ولم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا وجوهكم وأيديكم منه ; لأن القائلين بهذا التقدير في الآية اختلفوا في تيمم الحاضر الصحيح إذا فقد الماء وخشي فوات الوقت على ما ذكرنا في غير هذا الموضع ، فدخل في التيمم الجنب وغيره على هذا الترتيب من التقدير والتأخير .

قالوا : والتقديم والتأخير في كتاب الله كثير ، لا ينكره عالم .

[ ص: 179 ] قال أبو عمر :

ثم اختلف القائلون بأن اللمس ما دون الجماع ، فقال بعضهم : إنما اللمس الذي يجب منه الوضوء أن يلمس الرجل المرأة لشهوة ، فإن لمسها لغير شهوة ، فلا وضوء عليه . هذا مذهب مالك وأصحابه ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وروي ذلك عن النخعي ، والشعبي .

ورواه شعبة عن الحكم وحماد ، واحتج إسحاق ، فقال : أخبرنا محمد بن بكر ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرنا عبد الكريم أنه سمع الحسن يقول كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا في مسجد في الصلاة ، فقبض على قدم عائشة غير متلذذ ، وضعف حديث حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقبلها ولا يتوضأ وقال ، ليس بصحيح ، ولا نظن أن حبيبا لقي عروة ، قال : وقد يمكن أن يقبل الرجل امرأته لغير شهوة برا بها ، وإكراما ، ألا ترى إلى ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قدم من سفر فقبل فاطمة وهذا حديث يرويه الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة قال : فالقبلة تكون لشهوة ولغير شهوة .

وروى عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم ، عن مالك في المريض تغمز امرأته رجليه أو رأسه ، لا وضوء فيه إلا أن يلتذا ، قال : ولا وضوء عليهما ، وإن تماسا إلا أن يلتذا ، قال : والجسة من فوق الثوب ومن تحته سواء ، إن كان للذة ، وقال علي بن زياد عن مالك : إن كان الثوب كثيفا فلا شيء عليه ، وإن كان خفيفا فعليه الوضوء ، وجملة مذهب مالك أن من التذ من الملامسين ، فعليه الوضوء المرأة والرجل في ذلك سواء [ ص: 180 ] وقال عبد الملك بن الماجشون من تعمد مس امرأته بيده لملاعبة ، فليتوضأ التذ أم لم يلتذ .

وقال الشافعي بمصر : إذا أفضى الرجل بيده إلى امرأته أو ببعض جسده ، لا حائل بينها وبينه ، لشهوة ولغير شهوة ، وجب عليه الوضوء ، وكذلك إن لمسته هي وجب عليها وعليه الوضوء ، وسواء في ذلك أي بدنيهما أفضى إلى الآخر إذا مست البشرة البشرة إلا الشعر خاصة ، فلا وضوء على من مس شعر امرأته ، لشهوة كان أو لغير شهوة ، والشعر مخالف للبشرة ، ولو احتاط فتوضأ إذا مس شعرها ، كان حسنا ، ولو مسها بيده أو مسته بيدها من فوق الثوب فالتذا لذلك أم لم يلتذا ، لم يكن عليهما شيء حتى يفضيا إلى البشرة ، قال : ولا معنى للذة من فوق الثوب ولا من تحته ، ولا معنى للشهوة في القبلة ، وإنما المعنى للفعل .

قال أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : فهذا مذهب الشافعي فيمن وافقه من أصحابه ، وهو قول مكحول والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وجماعة ، هكذا حكى المروزي عنهم .

وأما الطبري فذكر ، عن الأوزاعي ما تقدم ذكرنا له ، وكذلك ذكر الطحاوي أيضا ، عن الأوزاعي ، كما حكى الطبري أن لمس المرأة لا وضوء فيه على حال .

وقال المروزي : قول الشافعي هذا هو أشبه بظاهر الكتاب ; لأن الله عز وجل قال ( أو لامستم النساء ) ولم يقل لشهوة ، ولا من شهوة ، قال : وكذلك الذين أوجبوا في ذلك الوضوء من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشترطوا الشهوة ، قال : وكذلك عامة التابعين ، قال : وقد احتج بعض من ذهب هذا المذهب بأن قال : قد اجتمعت الأمة أن رجلا لو استكره امرأة فمس ختانه ختانها - وهي لا تلتذ بذلك أو كانت نائمة ، فلم تلتذ ، ولم تشته - أن [ ص: 181 ] الغسل واجب عليهما ، قالوا : فكذلك من مس امرأته لشهوة ، أو لغير شهوة ، أو قبلها لشهوة ، أو لغير شهوة ، انتقضت طهارته ووجب عليه الوضوء ; لأن المعنى في الجسة واللمس والقبلة ، للفعل لا للذة .

قال أبو عمر :

القول الصحيح في هذا الباب ما ذهب إليه مالك والقائلون بقوله ، والله أعلم ; لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يأت عنهم في معنى الملامسة إلا قولان : أحدهما الجماع ، والآخر ما دون الجماع ، والقائلون منهم : بأنه ما دون الجماع إنما أرادوا ما يلتذ به مما ليس بجماع ، ولم يريدوا من اللمس اللطم ، واللمس بغير لذة ; لأن ذلك ليس من الجماع ولا يشبهه ، ولا يؤول إليه ، ولما لم يجز أن يقال : إن اللمس أريد به اللطم وغيره ، لتباين ذلك من الجماع ، لم يبق إلا أن يقال : إنه ما وقع به الالتذاذ ; لإجماعهم على أن من لطم امرأته أو داوى جرحها أو المرأة ترضع ولدها ، لا وضوء على هؤلاء ، والله أعلم .

قال أبو عبد الله بن نصر : فأما ما ذهب إليه مالك من مراعاة الشهوة واللذة لمن لمس امرأته من فوق الثوب وتلذذ بمسها ، أنه قد وجب عليه الوضوء ، فقد وافقه على ذلك الليث بن سعد ، قال المروزي : ولا نعلم أحدا قال ذلك غيرهما ، قال : ولا يصح ذلك في النظر ; لأن من فعل ذلك فهو غير لامس لامرأته ، وغير مماس لها في الحقيقة ، إنما هو لامس لثوبها .

وقد أجمعوا أنه لو تلذذ واشتهى دون أن يلمس لم يجب عليه وضوء ، فكذلك من لمس فوق الثوب ، لأنه غير لامس للمرأة . هذا جملة ما احتج به [ ص: 182 ] المروزي لمذهب الشافعي الذي اختاره في ذلك ، وفي المسألة نظر ، ومن تدبر ما أوردناه اكتفى بما وصفنا ، والله الموفق للصواب ، والهادي إليه لا شريك له .

وفي هذا الحديث ما كانوا عليه من ضيق العيش ، والصبر على الإقلال ، ألا ترى أنهم كانت يومئذ بيوتهم دون مصابيح ، وفي قول عائشة رحمها الله : والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ، دليل على أنها إذ حدثت بهذا الحديث ، كانت بيوتهم فيها المصابيح ، وذلك أن الله فتح عليهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ، فوسعوا على أنفسهم إذ وسع الله عليهم ، وقولها : يومئذ ، تريد : حينئذ ، لأنا لو جعلنا اليوم النهار على المعهود ، استحال أن تكون المصابيح نهارا في بيوتهم ، فعلمنا أنها أرادت بقولها يومئذ أي حينئذ ، وهذا مشهور في لسان العرب أنها كانت تعبر باليوم عن الحين والوقت ، كما تعبر به عن النهار واليوم وهو النهار كما قال الشاعر :


أجدي هذا الليل لا يتردد وأي نهار لا يكون له غد

يقول : إذا طال عليه الليل أجدي أن يكون ليل لا يتردد ، أو أن يكون يوم لا يكون له غد ، أو ليل لا يكون له غد ، وهذا أشهر عندهم من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية