التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1656 [ ص: 183 ] حديث سابع لأبي النضر مالك

عن محمد بن المنكدر ، وأبي النضر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أسامة بن زيد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الطاعون رجز ، أرسل على طائفة من بني إسرائيل .


مثل حديث محمد بن المنكدر سواء ، إلا أن في حديث أبي النضر إذا وقع بأرض - وأنتم بها - فلا تخرجوا منها ، لا يخرجكم إلا فرارا منه .

هكذا في الموطأ : إلا فرارا ، في حديث أبي النضر ، وقد جعله جماعة من أهل العلم لحنا وغلطا .

والوجه فيه عند أهل العربية : أن دخول إلا في هذا الموضع إنما هو لإيجاب بعض ما نفي بالجملة ، كأنه قال : لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارا ، أي إذا كان خروجكم فرارا ، فلا تخرجوا ، والنصب هنا بمعنى الحال لا بمعنى الاستثناء ، والله أعلم .

وفي ذلك إباحة الخروج ذلك الوقت من موضع الطاعون للسفر على الجاري من العادات إذا لم يكن القصد الفرار من الطاعون ، وقد كان بعض شيوخنا ، وشيوخ شيوخنا يروونه في هذا الحديث : لا يخرجكم إلا فرار منه ( بالرفع ) . وهذا إن صح بمعنى قوله : فلا تخرجوا منها لا يخرجكم إلا فرار منه ، أي لا تخرجوا منها الخروج الذي يخرجكموه إلا فرار منه ، وقد كان بعض الشيوخ ممن رواه بالرفع يرويه لا يخرجكم إلا الإفرار منه ، على المصدر ، [ ص: 184 ] وهذا ينكره أهل النحو في مصدر الفرار ، وأجازه أهل اللغة على لغة شاذة في الفرار ، والله أعلم ، وهذا المصدر خطأ عند أهل النحو واللغة ، وغير معروف في الرواية .

ورواه ابن بكير ، عن مالك ، عن أبي النضر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أسامة بن زيد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث ابن المنكدر ، إلا أن في حديث أبي النضر فإذا وقع بأرض - وأنتم بها - فلا تخرجوا منها إلا فرارا منه وهذا لا وجه له إلا أن يحمل على ما ذكرنا .

وروى القعنبي عن مالك حديث محمد بن المنكدر ، وليس عنده حديث أبي النضر ، وأكثر رواة الموطأ جمعوا في هذا الحديث عن مالك أبا النضر ، ومحمد بن المنكدر جميعا .

ورواه ابن أبي مريم وأبو مصعب عن مالك ، كما رواه يحيى سواء عن محمد بن المنكدر ، وأبي النضر جميعا ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد ، وقالا في آخره : قال أبو النضر : لا يخرجكم إلا الفرار منه ، وهذا معناه كمعنى رواية يحيى سواء في رواية من رواه بالرفع ، وهذا أبين بالألف واللام ، والمعنى سواء ، والله أعلم .

وأما ابن وهب فجوده : ذكر ابن وهب في الموطأ ، عن مالك ، عن أبي النضر ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص : أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد : أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الطاعون ؟ فقال : نعم ، فقال : كنت سمعته ؟ قال : سمعته يقول : هو رجز سلط على بني إسرائيل أو على قوم ، فإذا سمعتم به بأرض ، فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض - وأنتم بها - فلا تخرجوا فرارا منه .

[ ص: 185 ] هكذا قال ابن وهب ، عن مالك في حديث أبي النضر مفردا : لا تخرجوا فرارا منه ، ولم يعطفه على حديث ابن المنكدر ، بل ساقه عن مالك ، عن أبي النضر من أوله إلى آخره ، وقال في آخره : فلا تخرجوا فرارا منه ، وهذا هو الصواب المعروف ، الذي لا إشكال فيه .

وقال ابن وهب أيضا : أخبرني عمرو بن الحارث ، أن أبا النضر حدثه ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أسامة بن زيد يخبر سعد بن أبي وقاص ، وسأله عن الوجع ، فقال أسامة : ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : هو رجز سلط على من قبلكم أو على بني إسرائيل ، فإذا سمعتم به ببلدة ، فلا تدخلوا عليه فيها ، وإذا وقع - وأنتم بها - فلا يخرجنكم منها فرارا أو قال : منه فرارا ، ورواية ابن وهب صحيحة المعنى ، مجتمع عليها .

وفي هذا الحديث إباحة الخبر عن الأمم الماضية من بني إسرائيل وغيرهم .

وروي عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : ما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا عمن خلا من الأمم ، حتى لو مرت عقاب فقلب جناحها فكانت وفاتها ، لأخبرناكم .

وقد مضى تفسير معنى الطاعون في مواضع من هذا الكتاب ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية