التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
86 [ ص: 202 ] حديث عاشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر ، مولى عمر بن عبيد الله ، عن سليمان بن يسار ، عن المقداد بن الأسود ، أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه ؟ فإن عندي ابنته ، وأنا أستحي أن أسأله ، قال المقداد : فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة .


هذا إسناد ليس بمتصل ; لأن سليمان بن يسار لم يسمع من المقداد ، ولا من علي ، ولم ير واحدا منهما .

ومولد سليمان بن يسار سنة أربع وثلاثين ، وقيل : سنة سبع وعشرين ، ولا خلاف أن المقداد توفي سنة ثلاث وثلاثين ، وهو المقداد بن عمرو الكندي ، يكنى أبا معبد ، تبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري ، فنسب إليه .

وقد ذكرنا أخبار المقداد وسنه في كتاب الصحابة بما يغني ، عن ذكره هاهنا ، وبين سليمان بن يسار وعلي في هذا الحديث ابن عباس ، وسماع سليمان بن يسار من ابن عباس غير مرفوع .

[ ص: 203 ] حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن ناصح ، قال : حدثنا أحمد بن علي بن سعيد ، قال : حدثنا أحمد بن عيسى ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني مخرمة بن بكير ، عن أبيه ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس ، قال : قال علي بن أبي طالب : أرسلت المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن المذي يخرج من الإنسان كيف يفعل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ، وانضح فرجك . وقد روي هذا الخبر عن ابن عباس ، عن علي من غير هذا الوجه .

حدثنا خلف بن القاسم ، حدثنا الحسين بن جعفر ، حدثنا يوسف بن يزيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أنه سمع علي بن أبي طالب بالكوفة ، يقول : كنت رجلا أجد من المذي أذى ، فأمرت عمارا يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن ابنته كانت تحتي ، فقال : يكفيك منه الوضوء . هكذا قال عطاء ، عن ابن عباس ، عن علي ، وخالفه الحميدي وغيره فجعله عن عطاء ، عن عائش البكري ، عن علي :

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، قال : أخبرني عطاء ، قال : سمعت عائش بن أنس ، يقول : سمعت عليا على المنبر ، يقول : كنت أجد من المذي شدة ، فأردت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت ابنته عندي - فاستحييت أن أسأله ، فأمرت عمارا فسأله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنما يكفي منه الوضوء . وهكذا رواه معمر ، عن عمرو بن دينار ، عن عائش بن أنس ، عن علي .

[ ص: 204 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن جريج قال أخبرني عطاء ، عن عائش بن أنس البكري ، قال : تذاكر علي والمقداد وعمار بن ياسر المذي ، فقال علي : إني رجل مذاء ، وأنا أستحيي أن أسأله ; من أجل ابنته تحتي ، فقال لأحدهما : سله - قال عطاء : سماه لي عائش ، ونسيت اسمه - فسأله ، فقال : ذلك المذي ، ليغسل ذاك منه . قال عطاء : ما ذاك منه ؟ قال : ذكره ، ويتوضأ فيحسن وضوءه ، أو يتوضأ مثل وضوئه للصلاة وينضح فرجه .

ففي هذا الحديث بيان أن عليا ، والمقداد ، وعمار بن ياسر ، تذاكروا المذي ، فلذلك ما يجيء في بعض الآثار ، عن علي ( فأمرت المقداد ) ، وفي بعضها ( فأمرت عمارا ) ، وجائز أن يأمر أحدهما ، وجائز أن يأمر كل واحد منهما أن يسأل له فسأل ، فكان الجواب واحدا ، فحدث به مرة عن عمار ، ومرة عن المقداد ، هذا كله مرفوع ; لإمكانه وصحته في المعنى ، وحسبك أنهم ثلاثتهم قد اشتركوا في المذاكرة بهذا الحديث وعلمه والخبر عنه .

وذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : قال قيس لعطاء : أرأيت المذي ؟ أكنت ماسحه مسحا ؟ قال : لا ، المذي أشد من البول يغسل غسلا ، ثم أنشأ يحدثنا حينئذ ، قال : أخبرني عائش بن أنس أخو بني سعد بن ليث ، قال : تذاكر علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود المذي ، فقال علي : إني رجل مذاء فاسألوا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني استحيي أن أسأله عن ذلك لمكان ابنته مني ، ولولا مكان ابنته مني لسألته ، قال عائش : فسأله أحد الرجلين عمار أو المقداد ، فسمى لي عائش الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك منهما فنسيته ، فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم : ذلكم المذي إذا وجده أحدكم فليغسل ذلك منه ، ثم ليتوضأ فيحسن وضوءه ، ثم لينتضح في فرجه .

[ ص: 205 ] قال ابن جريج : فسألت عطاء عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل ذلك منه قال : حيث المذي يغسل منه ، أم ذكره كله ؟ فقال : بل حيث المذي منه فقط ، فقلت لعطاء أرأيت إن وجدت مذيا فغسلت ذكري كله أنضح في ذلك فرجي ؟ قال : لا حسبك ، وقال مالك : المذي عندنا أشد من الودي ; لأن الفرج يغسل من المذي ، والودي عندنا بمنزلة البول ، قال مالك : وليس على الرجل أن يغسل أنثييه من المذي إلا أن يظن أنه قد أصابهما منه شيء ، قال مالك : والودي من الجمام يأتي بإثر البول أبيض خاثرا قال ، والمذي : تكون معه شهوة ، وهو رقيق إلى الصفرة يكون ، عند ملاعبة الرجل أهله ، وعند حدوث الشهوة له .

قال أبو عمر :

يحتمل قول مالك المذي عندنا أشد من الودي ; لأن الودي يستنجى منه بالأحجار ، والمذي لا بد من غسله ، ولا تطهر منه الأحجار ، فقد قال بهذا قوم من أصحاب مالك وغيرهم ، وقال بعضهم : تطهره الأحجار إلا عند وجود الماء خاصة ، وفي هذا القول ضعف ، والأول أولى بقول مالك ; لأن الفرج يغسل من المذي ، ولأن الأصل في النجاسات الغسل إلا ما خصت السنة من المعتادات بالاستنجاء ، ولما لم يتعد بالأحجار إلى غير المخرج ، وجب أن لا يتعدى بها غير المعتادات .

وقال الشافعي : لا يجوز الاستنجاء من الدم الخارج من الدبر ، ولا من المذي ، كما لا يجوز للمستحاضة أن تستنجي بغير الماء .

وأبو حنيفة على أصله في جواز إزالة النجاسات بكل ما أزالها .

[ ص: 206 ] وقال بعض أصحاب مالك : المذي يغسل منه الذكر كله ، ولا يغسل من الودي إلا المخرج وحده ، وما مسه .

وعلى الوجهين قد تنازع فيه العلماء ، فمن ذهب إلى غسل الذكر قد جعله عبادة تعبد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله يغسل ذكره ، ولم يقل بعض ذكره ; لأن عموم هذا اللفظ يوجب غسل الذكر كله ما يبين منه الأذى من أجل الأذى ، ويكون غسل سائره عبادة كسائر العبادات في الغسل وغيره ، وسنذكر اختلاف الآثار بذلك في آخر هذا الباب وماذا عن السلف ، إن شاء الله .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن المفسر ، قال : حدثنا أحمد بن علي بن سعيد القاضي ، وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، وأبو معاوية ، وهشيم ، عن الأعمش ، عن منذر بن يعلى الثوري - يكنى أبا يعلى - عن ابن الحنفية ، عن علي ، قال : كنت رجلا مذاء فكنت أستحيي أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته فأمرت المقداد بن الأسود فسأله ، فقال : يغسل ذكره ويتوضأ .

قال أبو عمر :

هذا حديث مجتمع على صحته ، لا يختلف أهل العلم فيه ، ولا في القول به ، والمذي عند جميعهم يوجب الوضوء ، ما لم يكن خارجا عن علة أبردة وزمانة ، فإن كان كذلك ، فهو أيضا كالبول عند جميعهم ، فإن كان سلسا لا ينقطع ، فحكمه كحكم سلس البول عند جميعهم أيضا ، إلا أن طائفة توجب [ ص: 207 ] الوضوء على من كانت هذه حاله لكل صلاة ، قياسا على الاستحاضة عندهم ، وطائفة تستحبه ولا توجبه ، وقد ذكرنا هذا المعنى ، وأوضحنا القول فيه في باب المستحاضة عند ذكر حديث نافع ، عن سليمان بن يسار من هذا الكتاب .

وأما المذي المعهود المعتاد المتعارف وهو الخارج عند ملاعبة الرجل أهله لما يجده من اللذة أو لطول عزوبة ، فعلى هذا المعنى خرج السؤال في حديث علي هذا ، وعليه وقع الجواب ، وهو موضع إجماع ، لا خلاف بين المسلمين في إيجاب الوضوء منه ، وإيجاب غسله لنجاسته .

أخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا هشيم بن بشير ، عن يزيد بن أبي زياد ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي - رضي الله عنه - قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي ، فقال : فيه الوضوء ، وفي المني الغسل .

وقد روى سهل بن حنيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المذي مثل حديث علي ، قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك وإسماعيل بن علية ، قالا : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن عبيد بن السباق ، عن أبيه ، عن سهل بن حنيف ، قال : كنت ألقى من المذي شدة ، وكنت اغتسل ، فسألت رسول الله عن ذلك ، فقال : يجزئك من ذلك الوضوء ، قلت : يا رسول الله ، فكيف بما أصاب ثوبي ، قال : تأخذ كفا من ماء فانضح به ثوبك حيث ترى أنه أصابك .

[ ص: 208 ] وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن محمد بن إسحاق ، عن سعيد بن عبيد ، عن أبيه أن سهل بن حنيف سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المذي ، فقال : يكفيك منه الوضوء ، قلت : أرأيت ما أصاب ثوبي منه ، فذكر الحديث مثل ما تقدم سواء .

وأما قوله : فلينضح فرجه وليتوضأ ، فإن النضح عني به هاهنا الغسل ، وقد فسرنا ذلك من جهة اللغة ، والمعنى في باب ابن شهاب ، عن عبيد الله من هذا الكتاب ، ومما يدلك على أن قوله في حديث مالك ومن تابعه في هذا الباب : فلينضح ذكره وليتوضأ ، أنه أريد بالنضح الغسل ; لأنه قد روي منصوصا : ليغسل ذلك منه ويغسل ذكره ، وهذا معروف قد أوضحناه فيما مضى ، وفي أمره بغسل الفرج من المذي ، وغسل ما مس منه ، دليل على أن ذلك لا يجوز فيه الاستنجاء بالأحجار ، كما يجوز في البول والغائط ; لأن الآثار كلها على اختلاف ألفاظها وأسانيدها ليس في شيء منها ذكر استنجاء بالأحجار ، فاستدل بهذا من قال إن الاستنجاء بالأحجار لا يكون إلا في المعتاد عند الغائط ، وهو الرجيع والبول ، وهو استدلال صحيح ، والله الموفق للصواب ، فعلى هذا من خرج من أحد مخرجيه دم أو ودي لم يجزه إلا الماء ، والله أعلم .

وأما إيجاب الوضوء من المذي ، فبالسنة المجتمع عليها على ما ذكرنا من حديث هذا الباب ، وأما معنى غسل الذكر من المذي ، فإنه يريد غسل مخرجه ، وما مس الأذى منه ، وهذا الأصح عندي في النظر ، والله أعلم .

وقد قالت طائفة من أصحابنا وغيرهم : بوجوب غسل الذكر كله من المذي على ظاهر الخبر في ذلك اتباعا ، وجعلوا ذلك من باب التعبد ، وذهب غيرهم إلى أن قوله في المذي : يغسل ذكره ويتوضأ وضوءه للصلاة يحتمل أن يكون [ ص: 209 ] أراد يغسل ما مس الأذى منه ، وقالوا ألا ترى أن أحدا لا يقتصر على غسل الذكر وحده إذا كان المذي قد مس موضعا من الجسد غيره ، فلا بد من غسل كل ما مس المذي منه ، وفي هذا ما يستدل به على أن المراد غسل ما مس المذي من الذكر ، والله أعلم .

ذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في المذي والودي والمني ، قال : في المني الغسل ، ومن المذي والودي الوضوء ، يغسل حشفته ويتوضأ .

وعن الثوري ، عن زياد بن الفياض ، قال سمعت سعيد بن جبير يقول في المذي : يغسل حشفته .

وعن هشيم ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس في المذي قال : اغسل ذكرك وما أصابك ، ثم توضأ وضوءك للصلاة ، فهذا ابن عباس يقول في هذا الخبر : اغسل ذكرك ، وقد تقدم عنه فيه غسل الحشفة ، فدل على أن مراده ما وصفنا بلفظه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية