التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
538 حديث ثاني عشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها أمرت أن يمر عليها سعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له ، فأنكر ذلك الناس عليها ، فقالت عائشة : ما أسرع الناس ! ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد .


[ ص: 217 ] هكذا هو في الموطأ عند جمهور الرواة منقطعا ، ورواه حماد بن خالد الخياط ، عن مالك ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، فانفرد بذلك عن مالك .

حدثنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن أحمد القاضي ، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، حدثنا محمد بن خديمة الواسطي ، حدثنا حماد بن خالد الخياط ، عن مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : ما أسرع الناس إلى الشر ! ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا محمد بن قاسم ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثني جدي أحمد بن منيع ، قال : حدثنا حماد بن خالد الخياط ، قال : حدثنا مالك ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد .

وكذلك رواه الضحاك بن عثمان ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا هارون بن عبد الله ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، عن الضحاك يعني ابن عثمان ، عن أبي النضر ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، قالت : والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا سعيد بن منصور ، قال : حدثنا فليح بن سليمان ، عن صالح ، عن ابن عجلان ، ومحمد بن عبد الله بن عباد ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن البيضاء إلا في المسجد .

[ ص: 218 ] قال أبو عمر :

أما قول عائشة في هذا الحديث : ما أسرع الناس ! ففيه عندهم قولان : أحدهما ما أسرع النسيان إلى الناس ، أو ما أسرع ما نسي الناس ، والقول الآخر : ما أسرع الناس إلى إنكار ما لا يعرفون ، أو إنكار ما لا يحبون ، أو إنكار ما قد نسوه ، أو جهلوه ، أو ما أسرع الناس إلى العيب ، والطعن ، ونحوه هذا ، ثم احتجت عليهم بالحجة اللازمة لهم ، إذ أنكروا عليها أمرها بأن يمر بسعد عليها ، فيصلى عليه في المسجد .

وكان سعد بن أبي وقاص هذا قد مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ، فحمل إلى المدينة على رقاب الرجال ، ودفن بالبقيع ، وقد ذكرنا خبره في بابه من كتاب الصحابة .

وكان سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد قد عهدا أن يحملا من العقيق إلى البقيع : مقبرة المدينة ، فيدفنا بها ، وذلك - والله أعلم - لفضل علموه هناك ، فإن فضل المدينة غير منكور ولا مجهول ، ولو لم يكن إلا مجاورة الصالحين والفضلاء من الشهداء وغيرهم ، وليس هذا مما اجتمع عليه العلماء ، ألا ترى أن مالكا ذكر عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، أنه قال : ما أحب أن أدفن في البقيع ، لأن أدفن في غيره أحب إلي ، ثم بين العلة ; مخافة أن ينبش له عظام رجل صالح ، أو يجاور فاجرا ، وهذا يستوي فيه البقيع وغيره ، ولو كان له فضل عنده ، لأحبه ، والله أعلم .

وقد يستحسن الإنسان أن يدفن بموضع قرابته وإخوانه وجيرانه ، لا لفضل ولا لدرجة ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول : اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك ووفاة ببلد رسولك . وهذا يحتمل [ ص: 219 ] الوجهين : مذهب سعد وسعيد ، ومذهب عروة ، والأظهر فيه تفضيل البلد ، والله أعلم .

وقد احتج قوم بهذا الحديث في إثبات عمل المدينة ، وأن العمل أولى من الحديث عندهم ; لأنهم أنكروا على عائشة ما روته لما استفاض عندهم .

واحتج آخرون بهذا الخبر في دفع الاحتجاج بالعمل بالمدينة ، وقالوا : كيف يحتج بعمل قوم تجهل السنة بين أظهرهم ، وتعجبت أم المؤمنين من نسيانهم لها ، أو جهلهم ، وإنكارهم لما قد صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنه فيها ، وصنعه الخلفاء الراشدون ، وجلة الصحابة بعده ، وقد صلي على أبي بكر وعمر في المسجد ، قالوا فكيف يصح مع هذا ادعاء عمل ؟ أو كيف يسوغ الاحتجاج به ، وكثير ما كان يصنع عندهم مثل هذا حتى يخبره الواحد بما عنده في ذلك فينصرفوا إليه ، وقالوا : ألا ترى أن عائشة أم المؤمنين لم تر إنكارهم حجة ، وإنما رأت الحجة فيما علمته من السنة .

قال أبو عمر :

القول في هذا الباب يتسع وقد أكثر فيه المخالفون ، وليس هذا موضع تلخيص حججهم ، وللقول في ذلك موضع غير هذا ، وأما اختلاف الفقهاء في الصلاة على الجنائز في المسجد ، فروى ابن القاسم ، عن مالك ، أنه قال : لا يصلى على الجنائز في المسجد ، ولا يدخل بها المسجد ، قال : وإن صلي عليها عند باب المسجد وتضايق الناس وتزاحموا ، فلا بأس أن يكون بعض الصفوف في المسجد .

وقد قال في كتاب الاعتكاف من المدونة في صلاة المعتكف على [ ص: 220 ] الجنازة في المسجد : ما يدل على أنه معروف عندهم الصلاة على الجنازة في المسجد ، قال ابن نافع : قال مالك في المعتكف : وإن انتهى إليه زحام الناس الذين يصلون على الجنازة وهو في المسجد ، فإنه لا يصلي عليها ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن : إنه لا يصلى على الجنائز في المسجد ، وأجاز ذلك أبو يوسف .

وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو ثور وداود : لا بأس أن يصلى على الجنائز في المسجد من ضيق وغير ضيق ، على كل حال ، وهو قول عامة أهل الحديث .

واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على ابني بيضاء في المسجد ، وأن أبا بكر صلي عليه في المسجد ، وأن عمر صلي عليه في المسجد ، ومن حجة داود في ذلك : أن الله لم ينه عن ذلك ، ولا رسوله ، ولا اتفق الجميع عليه ، والأصل إباحة فعل الخير في كل موضع ، إلا موضع تقوم بالمنع من ذلك فيه حجة لا معارض لها .

وحجة من قال بقول مالك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفظ عنه أنه صلى على غير ابن بيضاء في المسجد ، وأن إنكار من أنكره على عائشة ، لا يكون إلا لأصل عندهم ; لأنهم يستحيل عليهم أن يروا رأيهم حجة عليها .

واحتجوا من الأثر بما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قالا : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، عن ابن أبي ذئب ، قال حدثني [ ص: 221 ] صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلى على جنازة في المسجد ، فلا شيء له .

وحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى ، قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ، قال : حدثنا البغوي ، قال : حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من صلى على جنازة في المسجد ، فلا شيء له .

قال البغوي : وقد روى هذا الحديث سفيان الثوري ، عن ابن أبي ذئب ، حدثني به أحمد بن محمد القاضي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ذئب ، عن صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلى على جنازة في المسجد فليس له أجر .

واحتج من ذهب مذهب مالك بحديث صالح مولى التوأمة هذا ، مع ما ذكرنا من إنكار من أنكر ذلك على عائشة .

وقال الآخرون : أما رواية أبي حذيفة عن الثوري لهذا الحديث ، وقوله فيه : فليس له أجر فخطأ لا إشكال فيه ، ولم يقل أحد في هذا الحديث ما قاله أبو حذيفة .

قالوا : والصحيح في هذا الحديث ما قاله يحيى القطان ، وسائر رواة هذا الحديث ، عن ابن أبي ذئب بإسناده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك قوله : من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له .

هذا هو الصحيح في هذا الحديث ، قالوا : ومعنى قوله : لا شيء له يريد لا شيء عليه ، قالوا : وهذا صحيح معروف في لسان العرب ، قال الله عز [ ص: 222 ] وجل ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) بمعنى فعليها ، ومثله كثير .

قالوا : وصالح مولى التوأمة من أهل العلم بالحديث من لا يقبل شيء من حديثه لضعفه ، ومنهم من يقبل من حديثه ما رواه ابن أبي ذئب عنه خاصة ; لأنه سمع منه قبل الاختلاط ، ولا خلاف أنه اختلط ، فكان لا يضبط ولا يعرف ما يأتي به ، ومثل هذا ليس بحجة فيما انفرد به ، وليس يعرف هذا الحديث من غير روايته البتة ، فإن صح ، فمعناه ما ذكرنا ، وبالله توفيقنا .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أحمد بن زهير ، قال : حدثنا إبراهيم بن عرعرة ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : لقينا صالحا مولى التوأمة ، وهو مختلط .

قال أبو عمر :

حديث عائشة صحيح ، نقله الثقات من وجهين صحيحين ، وحديث أبي هريرة انفرد به صالح بن أبي صالح مولى التوأمة ، وليس بحجة لضعفه ، ولو صح حديثه لم يكن فيه حجة للتأويل الذي ذكرنا ، وعلى هذا التأويل لا يكون معارضا لحديث عائشة ، وهو أولى ما حملت عليه الأحاديث التي جاءت معارضة له ، ويدل على صحة ذلك : أن أبا بكر صلى عليه عمر في المسجد ، وصلى صهيب على عمر في المسجد بمحضر جلة الصحابة من غير نكير منهم ، وليس من أنكر ذلك بعدهم بحجة عليهم ، فصار بما ذكر هنا سنة يعمل بها قديما ، فلا يجوز مخالفتها ، وبالله التوفيق .

[ ص: 223 ] قال أبو عمر :

احتج بعض من لا يرى الصلاة في المسجد على الجنائز من أصحابنا بحديث سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس إلى المصلى حين صلى على النجاشي ، قال : فالخروج بالجنازة إلى الجنازة أحرى بذلك ، ولا يصلى عليها في المسجد ، قال : وإنما صلي على أبي بكر وعمر في المسجد ; لأنهما دفنا فيه ، وهذا لا يلزم إلا لمن قال : لا يصلى على الجنائز إلا في المسجد ، ولم يقله أحد ، وأما من قال : يصلى عليها في المسجد وفي غير المسجد ، فغير لازم له ما ذكر من ذكرنا قوله ، وقد مضى القول في هذا المعنى في باب ابن شهاب من هذا الكتاب ، والحمد لله ، وإن أولى الناس بإجازة الصلاة في المسجد على الجنازة من زعم أن الثوب الذي يجفف فيه الميت ويغسل طاهر يستغني عن الغسل .

التالي السابق


الخدمات العلمية