التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
572 حديث ثالث عشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات عثمان بن مظعون ومر بجنازته : ذهبت ، ولم تلبس منها بشيء .


هكذا هو في الموطأ عند جماعة الرواة مرسلا مقطوعا ، لم يختلفوا في ذلك ، عن مالك ، وقد رويناه متصلا مسندا من وجه صالح حسن :

[ ص: 224 ] أخبرنا سعيد بن عثمان ، قال أخبرنا أحمد بن دحيم بن خليل ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : لما مات عثمان بن مظعون ، كشف النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوب عن وجهه ، وقبل بين عينيه ، وبكى بكاء طويلا ، فلما رفع على السرير ، قال : طوبى لك يا عثمان ، لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها .

قال أبو عمر :

روى الثوري ، عن عاصم بن عبيد الله ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل عثمان بن مظعون - وهو ميت - حتى رأيت دموعه تسيل على خده .

وروى الثوري أيضا ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، وعائشة : أن أبا بكر قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت .

وأما قوله : ذهبت ولم تلبس منها بشيء ، فكان عثمان بن مظعون أحد الفضلاء العباد الزاهدين في الدنيا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المتبتلين منهم ، وقد كان هو وعلي بن أبي طالب ، هما أن يترهبا ، ويتركا النساء ، ويقبلا على العبادة ، ويحرما طيب الطعام على أنفسهما ، فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) . الآية .

ذكر معمر وغيره ، عن قتادة في هذه الآية ، قال : نزلت في علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ، أرادوا أن يقلوا من الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا .

[ ص: 225 ] وذكر ابن جريج ، عن مجاهد قال : أراد رجال منهم : عثمان بن مظعون ، وعبد الله بن عمر إن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ، ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله ( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) قال ابن جريج : وقال عكرمة : إن علي بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون ، وابن مسعود ، والمقداد بن عمرو ، وسالما مولى أبي حذيفة تبتلوا وجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام ، واللباس ، وهموا بالإخصاء ، وأدمنوا القيام بالليل وصيام النهار فنزلت ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) . الآية ، يعني : النساء والطعام واللباس .

وقال محمد بن المنكدر ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله أبدلنا بالرهبانية الجهاد والتكبير على كل شرف من الأرض .

وذكر سنيد ، حدثنا معمر بن سليمان ، عن إسحاق بن سويد ، عن أبي فاختة مولى جعدة بن هبيرة ، قال : كان عثمان بن مظعون يريد أن ينظر هل يستطيع السياحة ، وكانوا يعدون السياحة صيام النهار ، وقيام الليل ، ففعل ذلك حتى تركت المرأة الطيب والمعصفر والخضاب والكحل ، فدخلت على بعض أمهات المؤمنين ، ورأتها عائشة فقالت : ما لي أراك كأنك مغيبة ، فقالت : إني مشهدة كالمغيبة ، فعرفت ما عنت ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا نبي الله إن امرأة عثمان ، دخلت علي ، فلم أر بها كحلا ، ولا طيبا ، ولا صفرة ، ولا خضابا ، فقلت : مالي أراك كأنك مغيبة ؟ فقالت : إني مشهدة كالمغيبة ، فعرفت ما عنت فأرسل إلى عثمان ، فقال : يا عثمان ، أتؤمن بما نؤمن ؟ قال : نعم ، بأبي أنت وأمي ، قال إن كنت تؤمن بما نؤمن ، فأسوة لك بنا وأسوة ما لدينا .

[ ص: 226 ] قال إسحاق بن سويد : فأتيت خراسان فصادفت يحيى بن معمر يحدث القوم بهذا الحديث ، لم يدع منه حرفا ، غير أنه قال في آخر حديثه : إن كنت تؤمن بما نؤمن ، فاصنع كما نصنع ، قال ذلك مرتين .

حدثنا أحمد بن قاسم ، وأحمد بن محمد ، وسعيد بن نصر قالوا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا رشدين بن سعد ، قال : حدثني ابن أنعم ، عن سعد بن مسعود ، أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ائذن لي في الاختصاء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس منا من اختصى ، إن خصا أمتي الصيام ، قال : يا رسول الله ، ائذن لنا في السياحة ، قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ، قال : يا رسول الله ، ائذن لنا في الترهب ، قال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة .

أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعد قراءة مني عليه أن أحمد بن مطرف حدثهم ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الأيلي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الزهري ، عن خارجة بن زيد ، قال : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، استهم المسلمون المنازل ، فطار سهم عثمان على امرأة منها ، يقال لها : أم العلاء ، فلما حضرته الوفاة ، قالت : شهادتي عليك أبا السائب : أن الله قد أكرمك ، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا رسول الله ، ما أدري ما يفعل بي ، ولا به ، ولكن قد أتاه اليقين ، فنحن نرجو له الخير ، فشق ذلك على المسلمين مشقة شديدة ، وقالوا عثمان في فضله وصلاحه يقال له هذا ؟ فلما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أهله ، قال : رد على سلفنا عثمان بن مظعون ، فقالوا سلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلف الصالح ، قالت أم العلاء : لا أزكي بعده أحدا أبدا .

[ ص: 227 ] قال أبو عمر :

اختلف العلماء في معنى قول الله عز وجل ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) ، فقال منهم قائلون : ذلك في الدنيا وأحكامها نحو الاختبار بالجهاد والفرائض من الحدود والقصاص ، وغير ذلك ، وقالوا : لا يجوز غير هذا التأويل ; لأن الله قد أعلم ما يفعل به وبالمؤمنين ، وما يفعل بالمشركين بقوله ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) وقوله ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) وقوله ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) وقوله ( إني على بينة من ربي وكذبتم به ) .

وروى وكيع ، عن أبي بكر الهذلي ، عن الحسن في قوله ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) . قال : في الدنيا .

وقال آخرون : بل ذلك على وجهه في أمر الدنيا ، وفي ذنوبه ، وما يختم له من عمله ، حتى نزلت ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) ففرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وهذا معنى تفسير قتادة والضحاك والكلبي ، وروى مثله يزيد بن إبراهيم التستري ، عن الحسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية