التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1004 [ ص: 228 ] حديث رابع عشر لأبي النضر

مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لشهداء أحد : هؤلاء أشهد عليهم ، فقال أبو بكر الصديق : ألسنا يا رسول الله بإخوانهم : أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى ، ولكن لا أدري ما تحدثون بعدي ؟ قال : فبكى أبو بكر ، وقال : أئنا لكائنون بعدك ؟ .


هذا الحديث مرسل هكذا منقطع عند جميع الرواة للموطأ ، ولكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة ، ومعنى قوله : أشهد عليهم ، أي أشهد لهم بالإيمان الصحيح ، والسلامة من الذنوب الموبقات ، ومن التبديل ، والتغيير ، والمنافسة في الدنيا ، ونحو ذلك ، والله أعلم .

وفيه من الفقه دليل على أن شهداء أحد ومن مات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبله أفضل من الذين تخلفهم بعده ، والله أعلم ، وهذا عندي في الجملة المحتملة للتخصيص ; لأن من أصحابه من أصاب من الدنيا بعده ، وأصابت منه ، وأما الخصوص والتعيين ، فلا سبيل إليه إلا بتوقيف يجب التسليم له .

وأما أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تخلفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده ، فأفضلهم أبو بكر وعمر ، على هذا جماعة علماء المسلمين إلا من شذ ، وقد قالت طائفة كثيرة من أهل العلم : إن أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر لم يستثنوا من مات قبله ممن مات بعده .

[ ص: 229 ] وأما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشهداء أحد : أنا أشهد لهؤلاء ، أو أنا شهيد لهؤلاء ، ونحو هذا ، فقد روي هذا اللفظ ، ومعناه من وجوه :

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن يحيى بن عمر ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، قال سفيان وثبته معمر ، عن ابن أبي الصعير ، قال : أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد ، فقال : إني قد شهدت على هؤلاء فزملوهم بكلومهم ودمائهم .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن ، قال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا البخاري ، قال : حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما ، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر ، فقال : إني فرط لكم ، وأنا شهيد عليكم ، وإني لأنظر إلى حوضي الآن ، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، وإني - والله - ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، حدثنا أحمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن ربان ، حدثنا محمد بن رمح ، حدثنا الليث بن سعد حدثني ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب ، عن جابر قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ، ثم يقول : أيهم أكثر أخذا للقرآن ، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم بدمائهم ، ولم يصل عليهم .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الواحد ، قال : حدثنا سليمان بن [ ص: 230 ] سلمة ، قال : حدثنا أحمد بن خالد قال حدثني أسامة بن زيد ، قال أخبرني ابن شهاب الزهري ، عن أنس بن مالك ، قال : لم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - على شهداء أحد ، وقال : أنا الشاهد عليكم اليوم ، وكان يجمع بين الثلاثة نفر والاثنين ، ثم يسأل : أيهما أكثر قرآنا فيقدمه في اللحد ، ويكفن الرجلين والثلاثة في الثوب الواحد .

قال أبو عمر :

اختلف على ابن شهاب في هذا الحديث اختلافا كثيرا ، ورواية الليث عندهم بالصواب أولى .

وأخبرنا خلف بن القاسم ، قال : حدثنا ابن أبي العقب ، حدثنا أبو زرعة ، حدثنا الحكم بن نافع أبو اليمان ، حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أيوب بن بشير الأنصاري ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج تلك الخرجة ، استوى على المنبر ، فتشهد ، فلما قضى تشهده كان أول كلام تكلم به : أن استغفر للشهداء الذين قتلوا يوم أحد ، ثم قال : إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند ربه ، فاختار ما عند ربه ، ففطن بها أبو بكر الصديق أول الناس ، وعرف إنما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه ، فبكى أبو بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلك ، سدوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر ، فإني لا أعلم امرأ أفضل عندي في الصحبة من أبي بكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية