التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1318 [ ص: 313 ] حديث ثان لداود بن الحصين متصل صحيح

مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة والمحاقلة . والمزابنة اشتراء التمر بالتمر في رءوس لنخل ، والمحاقلة كراء الأرض بالحنطة .


قد جاء في هذا الحديث مع جودة إسناده تفسير المزابنة والمحاقلة وأقل أحواله إن لم يكن التفسير مرفوعا فهو من قول أبي سعيد الخدري ، وقد أجمعوا أن من روى شيئا وعلم مخرجه سلم له في تأويله ; لأنه أعلم به ، وقد جاء عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله في تفسير المزابنة نحو ذلك . روى ابن جريج ، قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة ، قال عبد الله بن عمر : والمزابنة أن يبيع الرجل ثمر حائطه بتمر كيلا إن كانت نخلا ، أو زبيبا إن كانت كرما ، أو حنطة إن كانت زرعا .

قال أبو عمر : هذا أبين شيء وأوضحه في ذلك .

وروى حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار أن ابن عمر سئل عن رجل باع ثمر أرضه من رجل بمائة فرق يكيل له منها ، فقال ابن عمر : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، وهو المزابنة .

وروى ابن عيينة ، عن ابن جريح ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ، وألا يباع إلا بالدنانير والدراهم ، إلا العرايا ، قال سفيان : [ ص: 314 ] المخابرة كراء الأرض بالحنطة ، والمزابنة بيع ما في رءوس النخل بالتمر ، والمحاقلة بيع السنبل من الزرع بالحب المصفى ، فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد فسروا المزابنة بما تراه ، ولا مخالف لهم علمته ، بل قد أجمع العلماء على أن ذلك مزابنة ، وكذلك أجمعوا على أن كل ما لا يجوز إلا مثلا بمثل أنه لا يجوز منه كيل بجزاف ، ولا جزاف بجزاف ; لأن في ذلك جهل المساواة ، ولا يؤمن مع ذلك التفاضل ، ولم يختلفوا أن بيع الكرم بالزبيب والرطب بالتمر المعلق في رءوس النخل والزرع بالحنطة مزابنة ، إلا أن بعضهم قد سمى بيع الحنطة بالزرع محاقلة أيضا ، وسنذكر مذاهبهم في المحاقلة ومعانيهم فيها بعد الفراغ من القول في معنى المزابنة عندهم في هذا الباب إن شاء الله .

أما مالك رحمه الله فمذهبه في المزابنة أنها بيع كل مجهول بمعلوم من صنف ذلك كائنا ما كان ، سواء كان مما يجوز فيه التفاضل أم لا ; لأن ذلك يصير إلى باب المخاطرة والقمار ، وذلك داخل عنده في معنى المزابنة ، وفسر المزابنة في الموطأ تفسيرا يوقف به على المراد من مذهبه في ذلك ، وبينه بيانا شافيا يغني عن القول فيه ، فقال : كل شيء من الجزاف لا يعلم كيله ، ولا وزنه ، ولا عدده ، فلا يجوز ابتياعه بشيء من الكيل ، أو الوزن ، أو العدد . يعني من صنفه ، ثم شرح ذلك بكلام معناه : كرجل قال لرجل له تمر في رءوس شجر ، أو صبرة من طعام ، أو غيره من نوى ، أو عصفر ، أو بزر كتان ، أو حب بان ، أو زيتون ، أو نحو ذلك ، أنا آخذ زيتونك بكذا وكذا ربعا ، أو رطلا من زيت أعصرها ، فما نقص فعلي ، وما زاد فلي ، وكذلك حب البان ، أو السمسم بكذا وكذا رطلا من البان ، أو الجلجلان ، أو كرمك بكذا وكذا [ ص: 315 ] من الزبيب كيلا معلوما ، فما زاد فلي ، وما نقص فعلي ، وكذلك صبر العصفر ، أو الطعام ، وما أشبه هذا كله ، قال مالك : فليس هذا ببيع ، ولكنه من المخاطرة والغرر والقمار فيضمن له ما سمى من الكيل ، أو الوزن ، أو العدد على أن له ما زاد وعليه ما نقص ، فهذا غرر ومخاطرة ، وعند مالك أنه كما لم يجز أن يقول له : أنا أضمن لك من كرمك كذا وكذا من الزبيب معلوما ، أو من زيتونك كذا وكذا من الزيت معلوما ، ومن صبرتك في القطن ، أو العصفر ، أو الطعام كذا وكذا وزنا ، أو كيلا معلوما فكذلك لا يجوز أن يشتري شيئا من ذلك كله مجهولا بمعلوم من صنفه مما يجوز فيه التفاضل ومما لا يجوز . وقد نص على أنه لا يجوز بيع الزيتون بالزيت ، ولا الجلجلان بدهن الجلجلان ، ولا الزبد بالسمن ، قال : لأن المزابنة تدخله ، ومن المزابنة عنده بيع اللحم بالحيوان من صنفه ، ولو قال رجل لآخر : أنا أضمن لك من جزورك هذه ، أو من شاتك هذه كذا وكذا رطلا ما زاد فلي ، وما نقص فعلي ، كان ذلك مزابنة ، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يشتروا الجزور ، ولا الشاة بلحم ; لأنهم يصيرون عنده إلى ذلك المعنى ، وسنذكر ما للعلماء في بيع اللحم بالحيوان في باب زيد بن أسلم إن شاء الله .

وقال إسماعيل بن إسحاق : لو أن رجلا قال لصاحب البان : أعصر حبك هذا ، فما نقص من مائة رطل فعلي ، وما زاد فلي ، فقال له : إن هذا لا يصلح ، فقال : أنا أشتري منك هذا الحب بكذا وكذا رطلا من البان لدخل في المزابنة ; لأنه قد صار إلى معناها إذا كان البان الذي اشترى به حب البان قد قام مقاما لم يكن يجوز له من الضمان الذي ضمنه في عصر البان .

قال إسماعيل : ولو أن صاحب البان اشترى معلوما بمعلوم من البان متفاضلا لجاز عند مالك ; لأنه اشترى شيئا عرفه بشيء قد عرفه ، فخرج من باب القمار ، قال أبو الفرج : وكذلك السمسم بدهنه إذا كانا معلومين ، فإن كان معلوما بمجهول لم يجز . وقد اختلف قول مالك في غزل الكتان بثوب الكتان وغزل الصوف بثوب الصوف .

[ ص: 316 ] وتحصيل مذهبه أن ذلك يجوز نقدا إذا كان معلوما بمعلوم .

وقال أبو الفرج : إذا أريد بابتياع شيء من المجهول الانتفاع به لوقته ، وكان ذلك مما جرت به العادة جاز بيعه كلبن الحليب بالمخيض إذا أريد بالحليب وقته وكالقصيل بالشعير إذا أريد قطع القصيل لوقته وكالتمر بالبلح إذا جد البلح لوقته ، قال : وكذلك لا بأس ببيع كل ما خرج عن أن يكون مضمونا من المجهول كدهن البان المطيب بحبه وكالشعير بالقصيل الذي لا يكون منه شعير .

واختلف قول مالك في النوى بالتمر فيما ذكر ابن القاسم ، فمرة كرهه وجعله مزابنة .

وقال في موضع آخر : لا بأس بذلك ، قال ابن القاسم : لأنه ليس بطعام ، قال أبو الفرج : ظن ابن القاسم أنه ليس من باب المزابنة فاعتل أنه ليس بطعام والمنع منه أشبه بقوله .

قال أبو عمر : لم يختلف قول مالك أنه لا يجوز شراء السمسم ، أو الزيتون على أن على البائع عصره ، قال مالك : لأنه إنما اشترى منه ما يخرج من زيته ودهنه . وأجاز بيع القمح على أن على البائع طحنه ، قال ابن القاسم : قال لي مالك : فيه غرر وأرجو أن يكون خفيفا .

وقال إسماعيل : كأن مالكا كان عنده ما يخرج من القمح معلوما لا يتفاوت إلا قريبا ، فأخرجه من باب المزابنة وجعله من باب بيع وإجارة كمن ابتاع من رجل ثوبا على أن يخيطه له .

قال أبو عمر : قد أوردنا من أصول مذهب مالك في المزابنة ما يوقف به على المراد والبغية ، والله أعلم .

وأما الشافعي ، فقال : جماع المزابنة أن ينظر كل ما عقد بيعه ، وفي الفضل في بعضه ببعض يدا بيد ربا ، فلا يجوز منه شيء يعرف بشيء منه جزافا ، ولا جزافا بجزاف من صنفه .

وأما أن يقول : أضمن لك صبرتك هذه بعشرين صاعا ، فما زاد فلي ، وما نقص فعلي تمامها ، فهذا من القمار والمخاطرة ، وليس من المزابنة .

[ ص: 317 ] قال أبو عمر : ما قدمنا عن أبي سعيد الخدري وابن عمر وجابر في تفسير المزابنة يشهد لما قاله الشافعي ، وهو الذي تدل عليه الآثار المرفوعة في ذلك ويشهد لقول مالك ، والله أعلم .

أصل معنى المزابنة في اللغة المخاطرة ; لأنه لفظ مأخوذ من الزبن ، وهو المقامرة والدفع والمغالبة ، وفي معنى القمار والزيادة والنقصان أيضا حتى لقد قال بعض أهل اللغة : إن القمر مشتق من القمار لزيادته ونقصانه فالمزابنة والقمار والمخاطرة شيء متداخل حتى يشبه أن يكون أصل اشتقاقهما واحدا ، والله أعلم .

تقول العرب حرب زبون أي ذات دفع وقمار ومغالبة .

وقال أبو الغول الطهوي :


فوارس لا يملون المنايا إذا دارت رحى الحرب الزبون

وقال معمر بن لقيط الإيادي :

عبل الذراع أبياذا مزابنة     في الحرب يختتل الرئال والسقبا

وقال معاوية :

ومستعجب مما رأى من أناتنا     ولو زبنته الحرب لم يترمرم

وروى مالك ، عن داود بن الحصين أنه سمع سعيد بن المسيب ، يقول : كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين ، فأخبر سعيد بن المسيب أن ذلك ميسر والميسر القمار فدخل في معنى المزابنة .

قال أبو عمر : من أحسن ما روي في تفسير المزابنة وأرفعه ما ذكرناه ، ما رواه حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عمر .

قال أبو عمر : فهذا جليل من الصحابة قد فسر المزابنة على نحو ما فسرها [ ص: 318 ] مالك في موطئه سواء ، فأما المحاقلة فللعلماء فيها ثلاثة أقوال ، منهم من قال : معناها ما جاء في هذا الحديث من كراء الأرض بالحنطة ، قالوا : وفي معنى كراء الأرض بالحنطة في تأول هذا الحديث كراؤها بجميع أنواع الطعام على اختلاف ، قالوا : فلا يجوز كراء الأرض بشيء من الطعام ، سواء كان مما يخرج منها ويزرع فيها ، أو من سائر صنوف الطعام المأكول كله والمشروب نحو العسل والزيت والسمن وكل ما يؤكل ويشرب ; لأن ذلك عندهم في معنى بيع الطعام بالطعام نساء ؟ .

وكذلك لا يجوز كراء الأرض عندهم بشيء مما يخرج منها ، وإن لم يكن طعاما مأكولا ، ولا مشروبا سوى الخشب والقصب والحطب ; لأنه عندهم في معنى المزابنة وأصله عندهم النهي عن كراء الأرض بالحنطة ، هذا هو المحفوظ ، عن مالك وأصحابه ، وقد ذكر ابن سحنون ، عن المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني أنه لا باس بكراء الأرض بطعام ، لا يخرج منها .

وروى يحيى بن عمر ، عن المغيرة أن ذلك ، لا يجوز كقول سائر أصحاب مالك ، ومن قال بالجملة التي قدمنا عن مالك وأصحابه : ابن القاسم وابن وهب وأشهب ومطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ . كلهم يقولون : لا تكرى الأرض بشيء مما يخرج منها أكل ، أو لم يؤكل ، ولا بشيء مما يؤكل ويشرب ، خرج منها أو لم يخرج منها .

وذكر ابن حبيب أن ابن كنانة كان يقول : لا تكرى الأرض بشيء إذا أعيد فيها نبت ، ولا بأس أن تكرى بما سوى ذلك من جميع الأشياء مما يؤكل ومما لا يؤكل ، خرج منها أو لم يخرج منها ، قال : وكان ابن نافع ، يقول : لا بأس أن تكرى الأرض بكل شيء من طعام وغيره ، خرج منها أو لم يخرج منها ، ما عدا الحنطة وأخواتها ، فإنها محاقلة .

وأجمع مالك وأصحابه كلهم أن الأرض لا يجوز كراؤها ببعض ما يخرج منها مما يزرع فيها ثلثا كان ، أو ربعا ، أو جزافا كان ; لأنه غرر ومحاقلة ، وقد نهى عن ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال جماعة من أهل العلم : معنى المحاقلة دفع الأرض على الثلث والربع ، وعلى جزء مما [ ص: 319 ] يخرج منها ، قالوا : وهي المخابرة أيضا ، فلا يجوز لأحد أن يعطي أرضه على جزء مما يخرج منها لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ; لأنه مجهول ، ولا يجوز الكراء بشيء معلوم ، قالوا : وكراء الأرض بالذهب والورق وبالعروض كلها الطعام وغيره مما ينبت في الأرض ، ومما لا ينبت فيها جائز ، كما يجوز كراء المنازل وإجارة العبيد ، هذا كله قول الشافعي ، ومن تابعه ، وهو قول أبي حنيفة وداود ، وإليه ذهب ابن عبد الحكم .

وقال آخرون : المحاقلة بيع الزرع في سنبله بعد أن يشتد ويستحصد بالحنطة .

ذكر الشافعي ، عن ابن عيينة ، عن ابن جريح ، قال : قلت لعطاء : ما المحاقلة ؟ ، قال : المحاقلة في الحرث كهيئة المزابنة في النخل سواء ، وهو بيع الزرع بالقمح ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : فسر لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني ؟ ، قال : نعم .

قال أبو عمر : وكذلك فسر المحاقلة سعيد بن المسيب في حديثه المرسل في الموطأ ، إلا أن سعيد بن المسيب جمع في تأويل الحديث الوجهين جميعا ، فقال : والمحاقلة اشتراء الزرع بالحنطة واستكراء الأرض بالحنطة ، وإلى هذا التفسير في المحاقلة أنه بيع الزرع في سنبله بالحنطة دون ما عداه ذهب الليث بن سعد والثوري والأوزاعي والحسن بن حي وأبو يوسف ومحمد ، وهو قول ابن عمر وطاوس ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وكل هؤلاء لا يرون بأسا أن يعطي الرجل أرضه على جزء مما تخرجه نحو الثلث والربع ; لأن المحاقلة عندهم في معنى المزابنة وأنها في بيع الثمر بالثمر والحنطة بالزرع ، قالوا : ولما اختلف في المحاقلة كان أولى ما قيل في معناها ما تأولناه من بيع الزرع بالحنطة .

واحتجوا على صحة ما تأولوه وذهبوا إليه من إجازة كراء الأرض ببعض ما يخرج منها بقصة خيبر ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهلها على شطر ما تخرجه أرضهم [ ص: 320 ] وثمارهم ، وقد قال أحمد بن حنبل : حديث رافع بن خديج في النهي عن كراء المزارع مضطرب الألفاظ ، ولا يصح ، والقول بقصة خيبر أولى . واحتج بعض من لم يجز كراء الأرض ببعض ما يخرج منها أن قصة خيبر منسوخة بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة ; لأن لفظ المخابرة مأخوذ من خيبر . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عامل أهل خيبر على ما ذكرنا ، قيل : خابر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر ، أي عاملهم في أرض خيبر .

وقال الشافعي في قول ابن عمر : كنا نخابر ، ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها - أي كنا نكري الأرض ببعض ما يخرج منها ، قال : وفي ذلك نسخ لسنة خيبر ، قال : وابن عمر روى قصة خيبر وعمل بها حتى بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عنها .

قال أبو عمر :

أما المحاقلة فمأخوذة عند أهل اللغة من الحقل وهي الأرض البيضاء المزروعة تقول له العرب البراح والحقل ، يقال حاقل فلان فلانا إذا زارعه كما خاضره إذا باعه شيئا أخضر ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخاضرة ، ونهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، وكذلك يقال حاقل فلان فلانا إذا بايعه زرعا بحنطة ، وحاقله أيضا إذا أكرى منه الأرض ببعض ما يخرج منها كما يقال زارعه إذا عامله في زرع ، وهذا يكون من اثنين في أمرين مختلفين ، مثل بيع الزرع بالحنطة واكتراء الأرض بالحنطة لأنك لا تستطيع أن تشتق من الاسمين جميعا اسما واحدا للمفاعلة ، وإن اشتققت من أحدهما للمفاعلة لم تستدل على الآخر فلم يكن بد من الاثنين ، هذا قول ابن قتيبة وغيره .

وأما المخابرة ، فقال قوم : اشتقاقها من خيبر على ما قدمنا ذكره .

وقال آخرون : هي مشتقة من [ ص: 321 ] الخبر والخبر حرث الأرض وحملها . وزعم من تأول في المخابرة هذا التأويل أن لفظ المخابرة كان قبل خيبر ، ولا دليل على ما ادعى من ذلك ، والله أعلم .

حدثنا محمد بن محمد بن نظير وخلف بن أحمد و عبد الرحمن بن يحيى ، قالوا : حدثنا أحمد بن مطرف ، قال : حدثنا سعيد بن عثمان ، قال : حدثنا نصر بن مروان ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة وهي بيع السنين ، قال : والمخابرة أن يدفع الرجل أرضه بالثلث والربع .

قال أبو عمر :

المخابرة عند جمهور أهل العلم على ما في هذا الحديث من كراء الأرض بجزء مما تخرجه وهي المزارعة عند جميعهم . فكل حديث يأتي فيه النهي عن المزارعة ، أو ذكر المخابرة فالمراد به دفع الأرض على الثلث والربع ، والله أعلم .

فقف على ذلك واعرفه ، وسيأتي القول مستوعبا في كراء الأرض بما للعلماء في ذلك من أقاويل ، وما رووا في ذلك من الآثار ممهدة في باب ربيعة من كتابنا هذا إن شاء الله

.

والبيع في المزابنة إذا وقع كتمر بيع برطب وزبيب بيع بعنب ، وكذلك المحاقلة كزرع بيع بحنطة صبرة ، أو كيل معلوم ، أو تمر بيع في رءوس النخل جزافا بكيل من التمر معلوم ، فهذا كله إذا وقع فسخ إن أدرك قبل القبض ، أو بعده ، فإن قبض وفات رجع صاحب التمر بمكيلة تمره وجنسه على صاحب الرطب ورجع صاحب الرطب على صاحب التمر بقيمة رطبه يوم قبضه بالغا ما بلغ ، وكذلك يرجع صاحب النخل وصاحب الزرع بقيمة تمره وقيمة زرعه على صاحب المكيلة يوم قبضه ذلك بالغا ما بلغ ، ويرجع صاحب المكيلة بمكيلته في مثل صفة ما قبض منه .

[ ص: 322 ] قال أبو عمر :

كل من ذكرنا في هذا الباب من العلماء على اختلاف مذاهبهم ، من كره المزارعة منهم ، ومن أجازها ، كلهم متفقون على جواز المساقاة في النخل والعنب ، إلا أبا حنيفة وزفر فإنهما كرهاها وزعما أن ذلك منسوخ بالنهي عن المخابرة ، وخالف أبا حنيفة أصحابه وغيرهم ، إلا زفر . وسيأتي ذكر المساقاة في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية