التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
137 حديث ثان لهشام بن عروة

مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : قالت فاطمة ابنة أبي حبيش : يا رسول الله ، إني لا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما ذلك عرق ، وليس [ ص: 103 ] بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي .


هكذا روى هذا الحديث عن مالك جماعة رواة الموطأ فيما علمت ، لم يختلفوا في إسناده ولفظه ، وكذلك لم يختلف الرواة عن هشام في إسناده ، واختلفوا عنه في بعض ألفاظه ، وممن رواه عن هشام بهذا الإسناد حماد بن زيد وأبو حنيفة وأبو معاوية وابن عيينة وحماد بن سلمة ومحمد بن كناسة ، وبعضهم يذكر فيه ألفاظا لا يذكرها غيره منهم ، وربما أوجبت تلك الألفاظ أحكاما ، فرواية حماد بن زيد عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش استفتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ فقال : إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي ، فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة فقيل لحماد : فالغسل ؟ فقال : ومن يشك في ذلك غسلا واحدا بعد الحيضة .

وأما رواية أبي حنيفة فحدثنا خلف بن قاسم بن سهل الحافظ قال : حدثنا محمد بن الحسين بن صالح السبيعي قال : حدثنا محمد بن الحسين بن سماعة قال : حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ، واسم دكين عمرو ، قال : حدثنا أبو حنيفة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت : يا رسول الله ، إني أحيض في الشهر والشهرين ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : هذا عرق من دمك ، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي لطهرك .

[ ص: 104 ] وأما رواية أبي معاوية فحدثنا أحمد بن قاسم بن عيسى قال : حدثنا عمر بن إبراهيم قال : حدثني الحسن بن إسماعيل المحاملي قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال : حدثنا أبو معاوية قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله ، إني امرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : لا ، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة ، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم اغتسلي قال هشام : أي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن فاطمة ابنة أبي حبيش الأسدية كانت تستحاض فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : إنما ذلك عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ، أو قال : اغسلي عنك الدم وصلي قالت عائشة وهي إحدى نسائنا .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن فاطمة قالت : يا رسول الله ، إني مستحاضة أفأترك الصلاة ؟ قال : إنما ذلك عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، وإذا ذهب وقتها فاغسلي عنك الدم ، ثم تطهري وصلي قال هشام : كان عروة يقول : الغسل الأول ثم الطهر بعد .

وحدثنا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن سعيد الجمال قالا : حدثنا محمد بن كناسة قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أتت [ ص: 105 ] فاطمة بنت أبي حبيش النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : إنما ذلك ليس بحيض ولكنه عرق ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي .

ورواه يحيى بن هشام عن هشام بن عروة بإسناده مثله ، وقال فيه : إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي عند كل صلاة وصلي .

ورواه الزهري عن عروة فاختلف فيه عليه اختلافا كثيرا ، قال فيه الأوزاعي عن الزهري عن عروة وعمرة أن عائشة قالت : استحيضت أم حبيبة بنت جحش وهي تحت عبد الرحمن بن عوف سبع سنين ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي .

قال أبو داود : ولم يذكر هذا الكلام أحد من أصحاب الزهري غير الأوزاعي ، رواه عن الزهري عمرو بن الحارث ويونس بن يزيد وابن أبي ذئب ومعمر وإبراهيم بن سعد وسليمان بن كثير وابن إسحاق وابن عيينة ولم يذكروا هذا الكلام ، وإنما هذا لفظ حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قال أبو داود : وزاد ابن عيينة فيه أمرها أن تدع الصلاة أيام أقرائها ، وهو وهم من ابن عيينة ، قال : وحديث محمد بن عمرو عن الزهري فيه شيء يقرب من الذي روى الأوزاعي في حديثه .

حدثنا محمد بن المثنى قال : حدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن عمرو قال : حدثني ابن شهاب عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما ذلك عرق .

[ ص: 106 ] قال أبو داود : قال ابن المثنى : هكذا حدثنا به ابن أبي عدي من كتابه ، ثم حدثنا بعد حفظا فقال : حدثنا محمد بن عمرو عن الزهري عن عروة ، عن عائشة أن فاطمة كانت تستحاض فذكره .

قال أبو عمر : روى هذا الحديث سهيل بن أبي صالح عن الزهري عن عروة بن الزبير قال : حدثتني فاطمة بنت أبي حبيش أو أسماء ، حدثتني أن فاطمة ، فلم يقم الحديث .

وقال فيه : إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة تقول : جاءت أم حبيبة بنت جحش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت قد استحيضت سبع سنين ، فاشتكت ذلك إليه واستفتته ، فقال لها : إن هذا ليس بالحيضة ، وإنما هو عرق فاغتسلي ثم صلي ، قالت عائشة : فكانت أم حبيبة تغتسل لكل صلاة وتصلي .

وقال فيه عمرو بن الحارث عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة ، عن عائشة ، أن أم حبيبة بنت جحش ختنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذه ليست بالحيضة ، ولكن هذا عرق فاغتسلي وصلي ، وقد ذكرنا الآثار وما لعلماء الأمصار من المذاهب في هذا الباب ممهدا في باب نافع من هذا الكتاب والحمد لله .

وأما حديث مالك عن هشام ففيه من الفقه أن الحيض يمنع المرأة الحائض من الصلاة ، وأن من الدم الخارج من الرحم دما لا تمتنع معه المرأة من الصلاة وهو العرق الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنى قوله : إنما ذلك عرق يريد عرق انفجر أو انقطع ، وهي الاستحاضة ، ولهذا سألته فاطمة إذ أشكل [ ص: 107 ] عليها ذلك ، فأجابها بجواب يدل على أنها كانت تميز انفصال دم حيضها من دم استحاضتها ، فلهذا قال لها : إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي ، وهذا نص صحيح في أن الحائض تترك الصلاة ، ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب أثبت منه من جهة نقل الآحاد العدول ، والأمة مجمعة على ذلك ، وعلى أن الحائض بعد طهرها لا تقضي صلاة أيام حيضتها لا خلاف في ذلك بين علماء المسلمين ، فلزمت حجته وارتفع القول فيه .

وقد روى أبو قلابة وقتادة جميعا عن معاذة العدوية ، عن عائشة ، أن امرأة سألتها أتقضي الحائض الصلاة ؟ فقالت لها عائشة : أحرورية أنت ؟ قد كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نطهر فلا نؤمر بقضاء الصلاة . وزاد بعضهم : ونؤمر بقضاء الصوم . وهذا إجماع أن الحائض لا تصوم في أيام حيضتها وتقضي الصوم ، ولا تقضي الصلاة لا خلاف في شيء من ذلك والحمد لله .

وما أجمع المسلمون عليه فهو الحق والخبر القاطع للعذر ، وقال الله - عز وجل - : ( ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) والمؤمنون هنا الإجماع ; لأن الخلاف لا يكون معه اتباع غير سبيل المؤمنين ; لأن بعض المؤمنين مؤمنون ، وقد اتبع المتبع سبيلهم ، وهذا واضح يغني عن القول فيه .

وأما قوله : فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي في رواية مالك فقد فسره غيره ممن ذكرنا روايته هاهنا ، وهو أن تغتسل عند إدبار حيضتها وإقبال دم استحاضتها كما تغتسل الحائض عند رؤية طهرها سواء ; لأن المستحاضة طاهر ، ودمها دم عرق كدم جرح سواء فيلزمها عند انقطاع دم حيضتها الاغتسال كما يلزم الطاهر التي ترى دما .

[ ص: 108 ] وفي هذا الحديث دليل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بغيره ، وفيه رد لقول من رأى عليها الغسل لكل صلاة , ورد لقول من رأى عليها الجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد والمغرب والعشاء بغسل واحد وتغتسل للصبح ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرها بشيء من ذلك في هذا الحديث ، وهو أصح حديث روي في هذا الباب ، وهو رد لقول من قال بالاستظهار يومين أو ثلاثا ، أو أقل أو أكثر ، وقد استدل بعض من يرى الاستظهار من أصحابنا بقوله - عليه السلام - في هذا الحديث : فإذا ذهب قدرها ، قال : لأن قدر الحيض قد يزيد مرة وينقص أخرى ، فلهذا رأى مالك الاستظهار ثلاثة أيام ليستبين فيها انقضاء دم الحيض من دم الاستحاضة ، واقتصر على القضاء ثلاثة أيام استدلالا بحديث المصراة إذ حد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام في انفصال اللبن .

وقال غيره ممن يخالفه في الاستظهار : معنى قوله : فإذا ذهب قدرها تقول : إذا ذهبت وأدبرت وخرج وقتها ولم يكن في تقديرك أنه بقي شيء منه فاغتسلي حينئذ ، ولا تمكثي وأنت غير حائض دون غسل ودون صلاة . قال : ومحال أن يأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي قد ذهبت حيضتها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء .

ومعنى قوله : فإذا ذهب قدرها لا يخلو من أن يكون أراد انقضاء أيام حيضتها ، أو انفصال دم حيضتها من دم استحاضتها وأي ذلك كان فقد أمرها أن تغتسل وتصلي ، ولم يأمرها باستظهار ، ولو كان واجبا عليها لأمرها به ، قالوا : والسنة تنفي الاستظهار ; لأن دم نجاسة جائز أن يكون استحاضة وجائز أن يكون حيضا ، والصلاة فرض بيقين ، فلا يجوز لامرأة أن تدع الصلاة حتى تستيقن أنها حائض .

[ ص: 109 ] وذكروا أن مالكا وغيره من العلماء قد جاء عنهم أنهم قالوا : لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك ، خير من أن تدع الصلاة وهي واجبة عليها .

وفي هذا الحديث أيضا رد على من أوجب الوضوء على المستحاضة لكل صلاة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : إذا ذهبت الحيضة فاغتسلي وصلي ولم يقل : توضئي لكل صلاة ، وقد ذكرنا القائلين بها في باب الوضوء عليها لكل صلاة ، والقائلين بإيجاب الغسل ، ووجه قول كل واحد منهم مبسوطا ممهدا في باب نافع عن سليمان بن يسار ، والحمد لله .

قال أبو عمر : إذا أحدثت المستحاضة حدثا معروفا معتادا لزمها له الوضوء ، وأما دم استحاضتها فلا يوجب وضوءا ; لأنه كدم الجرح السائل ، وكيف يجب من أجله وضوء وهو لا ينقطع ، ومن كانت هذه حاله من سلس البول والمذي والاستحاضة لا يرفع بوضوئه حدثا ; لأنه لا يتمه إلا وقد حصل ذلك الحدث في الأغلب ، وإلى هذا المذهب ذهب مالك وأصحابه ، وهو ظاهر حديث هشام بن عروة هذا في قصة فاطمة بنت أبي حبيش ، إلا أن عروة كان يفتي بأن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة وذلك عند مالك على الإيجاب ، وقد ذكرنا ما في هذا الباب من الآثار المرفوعة وغيرها على اختلافها وذكرنا من تعلق بها وذهب إليها من علماء الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين ، وذكرنا اختلافهم في ذلك وأصل كل واحد منهم في الحيض والطهر والاستحاضة ممهدا مبسوطا في باب نافع عن سليمان من هذا الكتاب ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا والحمد لله .

[ ص: 110 ] روى مالك في موطئه عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا ، ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة . قال مالك : الأمر عندنا على حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، وهو أحب ما سمعت إلي ، ومن معاني هذا الحديث وجه آخر أخرنا القول فيه في ذلك الباب إلى هذا الموضع ، وهو قول العلماء في المرأة التي لم تحض قط فحاضت يوما وطهرت يوما ، أو حاضت يومين وطهرت يوما أو يومين ونحو هذا ، فأما مالك وأصحابه فقالوا : تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتطرح أيام التطهر وتغتسل عند كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه ، وتصلي ما دامت طاهرا ، وتكف عن الصلاة في أيام الدم اليوم واليومين وتحصي ذلك ، فإذا كان ما اجتمع لها من أيام الدم خمسة عشر يوما اغتسلت وصلت ، وإن زاد على خمسة عشر يوما فهي مستحاضة ، وإن كانت خمسة عشر يوما أو أقل تقطعت ، هذه رواية المدنيين عن مالك .

وروى ابن القاسم وغيره عنه أنها تضم أيام الدم بعضها إلى بعض ، فإن دام بها ذلك أيام عادتها استظهرت ثلاثة أيام على أيام حيضتها ، فإن رأت في خلال أيام الاستظهار أيضا طهرا ألغته حتى تجعل ثلاثة أيام للاستظهار وأيام الطهر ، وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها ، ويكون ما جمعت من أيام الدم بعضه إلى بعض حيضة واحدة ، ولا تعد أيام الطهر في عدة من طلاق ، فإذا استظهرت بثلاثة أيام بعد أيام حيضتها توضأت لكل صلاة وتغتسل كل يوم من أيام الطهر عند انقطاع الدم ، وإنما أمرت بالغسل لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها .

[ ص: 111 ] ورواية الربيع عن الشافعي مثل رواية المدنيين عن مالك في هذه المسألة اعتبارا لخمسة عشر يوما بلا استظهار ، وكذلك قال محمد بن مسلمة ، ولم يختلف مالك والشافعي إذا كان تقطع حيضتها يوما كاملا أو يوما وليلة أنها في يوم الحيض حائض لا مستحاضة ، وفي يوم الطهر طاهر أو متقطعة ، وقال محمد بن مسلمة : إذا كان طهرها يوما وحيضها يوما ، فطهرها أقل الطهر وحيضها أكثر الحيض ، فكأنها قد حاضت خمسة عشر يوما متوالية وطهرت خمسة عشر ، فحال حيضتها لا يضرها واجتماع الأيام وافتراقها سواء ، ولا يكون مستحاضة .

وأما أبو حنيفة وأصحابه فمذهبهم في هذه المسألة اعتبار أقل الطهر وأقل الحيض ، فأما أبو يوسف فاعتبر أقل الطهر خمسة عشر يوما وجعله كدم متصل ، وأما محمد بن الحسن فاعتبر مقدار الدم والطهر ، فإذا كان بين الدمين من الطهر أقل من ثلاثة أيام ، فإن ذلك كله كدم متصل ، سواء كان الحيض أكثر أو الطهر أكثر ، نحو أن ترى يوما حيضا أو يومين ، ويومين طهرا وساعة دما فيكون جميع ذلك حيضا .

وقال أبو جعفر الطحاوي قد اتفقوا أنه لو انقطع ساعة أو نحوها أنه كدم متصل ، فكذلك اليوم واليومين ; لأنه لا يعتد به من طلاق .

وقد قال أبو الفرج ليس بنكير أن تحيض يوما وتطهر يوما فتتقطع الحيضة عليها ، كما لا ينكر أن يتأخر حيضها عن وقته أن تأخير بعضه عن اتصاله كتأخيره كله ، فمن أجل ذلك كانت بالقليل أيضا ، ثم لم يكن لأن الحيضة لا تكون إلا بأن يقضى لها وقت تام وطهر تام ، أقله فيما روى عبد الملك خمسة أيام ، قال : ولو أن قلة الدم يخرجه من أن يكون حيضا لأخرجته من أن تكون استحاضة ; لأن الدم العرق هو الكثير الزائد على ما يعرف .

[ ص: 112 ] قال أبو عمر : راعى عبد الملك وأحمد بن المعذل في هذه المسألة ما أصلاه في أقل الطهر خمسة أيام ، وراعى محمد بن مسلمة خمسة عشر طهرا ، وجعل كل ما يأتي من الدم قبل تمام الطهر عرقا لا تترك فيه الصلاة ، وكذلك يلزم كل من أصل في أقل الطهر أصلا بعدة معلومة أن يعتبرها في هذه المسألة ، وقد ناقض الكوفيون لأنهم قالوا في هذه المسألة بمراعاة ثلاثة أيام طهرا ، وقولهم في أقل الطهر إنه خمسة عشر يوما ، وقد ذكرنا في باب نافع من أصول العلماء وأكثرهما ، واختلاف العلماء في ذلك في باب نافع من هذا الكتاب والحمد لله .

قال أبو عمر : إنما أجرينا هذه المسألة هاهنا ، وإن كانت قد مرت في باب نافع لأنها داخلة في معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها وأدبرت فاغتسلي وصلي ، وقد ذكرنا حكم أقل الحيض والطهر وأكثرهما واختلاف العلماء في ذلك في باب نافع من هذا الكتاب والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية