التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
61 حديث تاسع وعشرون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمران مولى عثمان بن عفان ، أن عثمان بن عفان جلس على المقاعد فجاء المؤذن فآذنه بصلاة العصر ، فدعا بماء فتوضأ ثم قال : والله لأحدثنكم حديثا لولا أنه في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من امرئ يتوضأ فيحسن [ ص: 211 ] وضوءه ، ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها قال مالك : أراه يريد هذه الآية : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) .

وحمران مولى عثمان هو حمران بن أعين بن خالد بن عبد عمرو بن عقيل بن كعب بن سعد بن جندلة بن مسلم بن أوس بن زيد مناة بن النمر بن قاسط ، وهو ابن عم صهيب بن سنان ، يلتقي هو وصهيب في خالد بن عبد عمرو ، وكان حمران من سبي عين النمر ، وهو أول سبي دخل المدينة في خلافة أبي بكر الصديق ، سباه خالد بن الوليد فرآه غلاما أحمر مختونا كيسا فتوجه به إلى عثمان - رضي الله عنه - فأعتقه ، ودار حمران بالبصرة مشرفة على رحبة المسجد الجامع ، وكان عثمان أقطعه إياها وأقطعه أيضا أرضا على فراسخ من الأيلة فيما يلي البحر ، ذكر ذلك أهل السير والعلم بالخبر ، قالوا : وكان حمران أحد العلماء الجلة أهل الوداعة والرأي والشرف بولائه ونسبه ، وهو أحد الشاهدين على الوليد بن عقبة بشرب الخمر فجلده بشهادته علي ، جعل ذلك إليه عثمان ، وتولى ضرب الوليد بيده عبد الله بن جعفر بأمر علي له بذلك ، وكان جلده له أربعين جلدة .

وهكذا روى هذا الحديث عن مالك جماعة رواة الموطأ وغيره ، وليس فيه صفة الوضوء ثلاثا ولا اثنتين ، وقد رواه جماعة ، عن هشام بن عروة بإسناده ، عن [ ص: 212 ] عروة ، عن حمران ، عن عثمان ، فذكروا فيه صفة الوضوء ؛ المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين ثلاثا ثلاثا ، واختلفوا في ألفاظه ، منهم شعبة وأبو أسامة وابن عيينة وجماعة ، ورواه عن عروة جماعة أيضا منهم أبو الزناد وأبو الأسود وعبد الله بن أبي بكر ، وفي حديثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا ثلاثا .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمدان قال : توضأ عثمان بن عفان على المقاعد ثلاثا ثلاثا وقال : هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ، ثم قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من رجل يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها .

ففي هذا الحديث - والحمد لله - أن الصلاة تكفر الذنوب ، وهو تأويل قول الله - عز وجل - : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) على حسبما نزع به مالك - رحمه الله - والقول في هذا عندي كالقول في حديثه - صلى الله عليه وسلم - : الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ، والعمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما فسبحان المتفضل المنعم المحسن هو الله وحده لا شريك له .

وقد روى هذا الحديث - أعني حديث الوضوء - عن حمران جماعة كثيرة من الجلة ومن دونهم ، منهم عروة ، وعطاء بن يزيد الليثي ، وجامع بن شداد أبو صخرة ، ومعبد الجهني ، وشقيق بن سلمة أبو وائل ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، ومسلم بن يسار ، ومحمد بن كعب القرظي ، وموسى بن طلحة ، وزيد [ ص: 213 ] بن أسلم ، ومحمد بن المنكدر ، ومجاهد بن جبير ، ومعاذ بن عبد الرحمن ، وعبد الملك بن عمير وغيرهم ، كلهم ، عن حمران ، عن عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن ألفاظهم عن حمران مختلفة ، ولكنها متقاربة المعنى .

وأما قوله : لولا أن في كتاب الله ، فاختلف في هذه اللفظة ، فطائفة روت " لولا أنه في كتاب الله " بالنون وهاء الضمير ، وطائفة روت " لولا آية في كتاب الله " بالياء وتاء التأنيث ، وقد روي عن عروة أن الآية قوله : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) الآية ، وروى آخرون كما قال مالك : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) الآية ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن تكون الرواية " لولا أنه " بالنون وهاء الضمير ، والله أعلم .

وقول مالك أراه يريد هذه الآية يحتمل الوجهين جميعا أيضا .

وأما قوله : على المقاعد ، فقيل : هي الدكاكين كانت عند باب دار عثمان كانوا يجلسون عليها فسميت المقاعد ، والله أعلم .

وقوله : آذنه بصلاة العصر ، يريد أعلمه بحضورها ، ومن هذا قول الحارث بن حلزة :


آذنتنا ببينها أسماء



حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا الحسن بن رشيق قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال : حدثنا أحمد بن سليمان بن نوفل المعمري قال : حدثنا مالك بن يحيى بن عمرو بن مالك البكري ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لم أر شيئا أحسن طلبا ولا أحسن إدراكا من حسنة حديثة لذنب قديم ، ثم قرأ : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية