التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1424 حديث حاد وثلاثون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إلي ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ ( منه شيئا ) ، فإنما أقطع له قطعة من النار .


[ ص: 216 ] هذا حديث لم يختلف ، عن مالك في إسناده فيما علمت ، ورواه كما رواه مالك سواء ، عن هشام بإسناده هذا جماعة من الأئمة الحفاظ ، منهم الثوري ، وابن عيينة ، والقطان وغيرهم ، وقد رواه معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث هشام سواء ، وقد روى هذا المعنى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة كما روته أم سلمة .

وفي هذا الحديث من الفقه أن البشر لا يعلمون ما غيب عنهم وستر من الضمائر وغيرها ؛ لأنه قال - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : إنما أنا بشر أي : إني من البشر ، ولا أدري باطن ما تتحاكمون فيه عندي وتختصمون فيه إلي ، وإنما أقضي بينكم على ظاهر ما تقولون وتدلون به من الحجاج ، فإذا كان الأنبياء لا يعلمون ذلك ، فغير جائز أن يصح دعوى ذلك لأحد غيرهم من كاهن أو منجم ، وإنما يعلم الأنبياء من الغيب ما أعلموا به بوجه من وجوه الوحي .

وفيه أن بعض الناس أدرى بموقع الحجة وتصرف القول من بعض ، قال أبو عبيد : معنى قوله : ألحن بحجته ، يعني : أفطن لها وأحدى بها . قال أبو عبيدة : اللحن - بفتح الحاء - الفطنة ، واللحن - بالجزم - الخطأ في القول .

وفيه أن بعض الناس أدرى بموقع الحجة وتصرف القول من بعض ، قال أبو بينات : على حسبما أحكمته السنة في ذلك ، وفي ذلك رد وإبطال للحكم بالهوى ، قال الله - عز وجل - : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) الآية .

وقد احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في رد حكم القاضي بعلمه لقوله : فأقضي له على نحو ما أسمع منه ولم يقل على نحو ما علمت منه ، قال : وإنما تعبدنا بالبينة والإقرار ، وهو المسموع الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي على نحو ما أسمع قال : والعلة في القضاء بالبينة دون [ ص: 217 ] العلم التهمة ؛ لأنه يدعي ما لا يعلم إلا من جهته ، وقد أجمعوا أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قتل من لم يجب قتله من المسلمين لم يرثه ، وهذا لموضع التهمة ، وأجمعوا على أنه لا يقضي بعلمه في الحدود .

قال أبو عمر : من أفضل ما يحتج به في أن القاضي لا يقضي بعلمه ، حديث معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم على صدقة ، فلاجه رجل في فريضة ، فوقع بينهم شجاج ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وخبروه فأعطاهم الأرش ثم قال : إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم ؟ قالوا : نعم ، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( المنبر ) فخطب وذكر القصة ، وقال : أرضيتم ؟ قالوا : لا ، فهم بهم المهاجرون ، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم ثم صعد فخطب ، فقال : أرضيتم ؟ فقالوا : نعم وهذا بين ؛ لأنه لم يؤاخذهم بعلمه فيهم ، ولا قضى بذلك عليهم وقد علم رضاهم .

ومن حجة من ذهب إلى أن القاضي له أن يقضي بما علمه ؛ لأن البينة إنما تعلمه بما ليس عنده ليعلمه فيقضي به ، وقد تكون كاذبة وواهمة وعلمه بالشيء أوكد ، وقد أجمعوا على أن له أن يعدل لبعض العدول بعلمه ، فكذلك ما علم صحته ، وأجمعوا أيضا على أنه إذا علم أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به أنه ينفذ علمه في ذلك دون شهادتهم ولا يقضي .

[ ص: 218 ] واحتج بعضهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة زوجه أن تحتجب من ابن وليدة زمعة لما علمه ورآه من شبهه بعتبة ، وقالوا : إنما يقضي بما يسمع فيما طريقه السمع من الإقرار أو البينة ، وفيما طريقه علمه قضى بعلمه ، ولهم في هذا الباب منازعات أكثرها تشغيب ، والسلف من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاء القاضي بعلمه على حسب اختلاف فقهاء الأمصار في ذلك .

ومما احتج به من ذهب إلى أن القاضي يقضي بعلمه مع ما قدمنا ذكره ما رويناه من طرق عن عروة ، عن مجاهد جميعا بمعنى واحد ، أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا من مكة ، فقال عمر : إني لأعلم الناس بذلك ، وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان ، فإذا قدمت مكة فائتني بأبي سفيان ، فلما قدم مكة أتاه المخزومي بأبي سفيان ، فقال له عمر : يا أبا سفيان ، انهض إلى موضع كذا ، فنهض ونظر عمر ، فقال : يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا . فقال : والله لا أفعل ، فقال : والله لتفعلن ، فقال : لا أفعل . فعلاه عمر بالدرة وقال : خذه لا أم لك وضعه هاهنا ، فإنك ما علمت قديم الظلم ، فأخذ الحجر أبو سفيان ووضعه حيث قال عمر ، ثم إن عمر استقبل القبلة فقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام ، قال : فاستقبل أبو سفيان القبلة وقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر .

ففي هذا الخبر قضى عمر بعلمه فيما قد علمه قبل ولايته ، وإلى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي وأبو ثور سواء عندهم علمه قبل أن يلي القضاء أو بعد ذلك ، في مصره كان أو في غير مصره ، له أن يقضي في ذلك [ ص: 219 ] كله عندهم بعلمه ؛ لأن يقينه في ذلك أكثر من شهادة الشهود الذين لا يقطع على غيب ما شهدوا به كما يقطع على صحة ما علموا .

وقال أبو حنيفة : ما علمه قبل أن يلي القضاء أو رآه في غير مصره لم يقض فيه بعلمه ، وما علمه بعد أن استقضى أو رآه بمصره قضى في ذلك بعلمه ولم يحتج في ذلك إلى غيره ، واتفق أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يقضي القاضي بعلمه في شيء من الحدود لا فيما علمه قبل ولا بعد ، ولا فيما رآه بمصره ولا بغير مصره .

وقال الشافعي وأبو ثور : حقوق الناس وحقوق الله سواء في ذلك ، والحدود وغيرها سواء في ذلك ، وجائز أن يقضي القاضي في ذلك كله بما علمه .

وقال مالك وأصحابه : لا يقضي القاضي في شيء من ذلك كله بما علمه ، حدا كان أو غير حد ، لا قبل ولايته ولا بعدها ، ولا يقضي إلا بالبينات والإقرار ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ، وهو قول شريح والشعبي ، وفي قوله - عليه السلام - : فأقضي له على نحو ما أسمع منه دليل على إبطال القضاء بالظن والاستحسان وإيجاب القضاء بالظاهر ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في المتلاعنين بظاهر أمرهما وما ادعاه كل واحد منهما ونفاه ، فأحلفهما بأيمان اللعان ولم يلتفت إلى غير ذلك بل قال : إن جاءت به على كذا وكذا فهو للزوج ، وإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به ، فجاءت به على النعت المكروه ، فلم يلتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك ، بل أمضى حكم الله فيهما بعد أن سمع منهما ولم يعرج على الممكن ، ولا أوجب بالشبهة حكما ، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي على نحو ما أسمع .

[ ص: 220 ] وأما قوله - عليه السلام - : فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، فإنه بيان واضح في أن قضاء القاضي بالظاهر الذي تعبد به لا يحل في الباطن حراما قد علمه الذي قضى له به ، وأن حكمه بالظاهر بينهم لا يحل لهم ما حرم الله عليهم ، مثال ذلك : رجل ادعى على رجل بدعوى وأقام عليه بينة زور كاذبة ، فقضى القاضي بشهادتهم بظاهر عدالتهم عنده وألزم المدعى عليه ما شهدوا به ، فإنه لا يحل ذلك للمدعي إذا علم أنه لا شيء له عنده ، وأن بينته كاذبة ، إما من جهة تعمد الكذب أو من جهة الغلط .

ومما احتج به الشافعي وغيره لقضاء القاضي بعلمه حديث عبادة : وأن تقوم بالحق حيث ما كنا لا تخاف في الله لومة لائم ، وقوله : ( كونوا قوامين بالقسط ) ، وحديث عائشة في قصة هند بنت أبي سفيان قوله : خذي ما يكفيك وولدك . وكذلك لو ثبت على رجل لرجل حق بإقرار أو بينة فادعى دفعه إليه والبراءة منه ، وهو صادق في دعواه ولم يكن له بينة وجحده المدعي الدفع إليه ، وحلف له عليه وقبض منه ذلك الحق مرة أخرى بقضاء قاض ، فإن ذلك ممن قطع له أيضا قطعة من النار ، ولا يحل له قضاء القاضي بالظاهر ما حرم الله عليه في الباطن ، ومثل هذا كثير . قال الله - عز وجل - : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ) وهذه الآية في معنى هذا الحديث سواء .

[ ص: 221 ] قال معمر ، عن قتادة في قوله : ( وتدلوا بها إلى الحكام ) قال : لا تدلي بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك له ظالم ، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك .

قال أبو عمر : وعلى هذه المعاني كلها المذكورة في هذا الحديث المستنبطة منه جرى مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور وداود وسائر الفقهاء ، كلهم قد جعل هذا الحديث أصلا في هذا الباب .

وجاء عن أبي حنيفة وأبي يوسف ، وروي ذلك عن الشعبي قبلهما في رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته فقبل القاضي عدالتهما عنده وهما قد تعمدا الكذب في ذلك أو غلطا أو وهما ، ففرق القاضي بين الرجل وامرأته بشهادتهما ، ثم اعتدت المرأة ، أنه جائز لأحدهما أن يتزوجها وهو عالم أنه كاذب في شهادته وعالم بأن زوجها لم يطلقها ؛ لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج كان الشهود وغيرهم في ذلك سواء ، وهذا إجماع أنها تحل للأزواج غير الشهود مع الاستدلال بفرقة المتلاعنين من غير طلاق يوقعه .

وقال من خالفهم من الفقهاء : هذا خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله : فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، ومن حق هذا الرجل عصمة زوجته التي لم يطلقها .

وقال مالك والشافعي وسائر من سميناه من الفقهاء في هذا الباب : لا يحل لواحد من الشاهدين أن يتزوجها إذا علم أن زوجها لم يطلقها وأنه كاذب أو غالط في شهادته ، وهذا هو الصحيح من القول في هذه المسألة ، وبالله التوفيق .

[ ص: 222 ] أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا الربيع بن نافع ، حدثنا ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أم سلمة قالت : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان يختصمان في مواريث لهما ، فلم تكن لهما بينة إلا دعواهما ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار . فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما لصاحبه : حقي لك ، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - : أما إذ فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحللا .

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه مع الأحكام التي قدمنا في حديث مالك الصلح على الإنكار خلاف قول الشافعي ، وفيه أن للشريكين أن يقتسما من غير حكم حاكم ، وأن الهبة تصح ، ولا يحتاج إلى قبض في الوقت لقوله : حقي لك ، ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصح لك حتى تقبضه ، ومن هاهنا قال مالك : تصح المطالبة بالهبة قبل القبض لتقبض .

وفيه جواز البراءة من المجهول والصلح منه وهبته .

وفيه جواز الاجتهاد للحاكم فيما لم يكن فيه نص .

وفيه جواز التحري في أداء المظالم .

وفيه استعمال القرعة عند استواء الحق .

وفيه جواز ترديد الخصوم حتى يصطلحوا ، وقد جاء ذلك عن عمر - رحمه الله - ، وذلك فيما أشكل لا فيما بان ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية