التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1642 [ ص: 223 ] حديث ثان وثلاثون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، عن سفيان بن أبي زهير أنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : تفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون .


قد ذكرنا سفيان بن أبي زهير في الصحابة بما يغني عن ذكره هاهنا .

وأما قوله : تفتح اليمن ، فاليمن افتتحت في أيامه - صلى الله عليه وسلم - ، وافتتح بعضها في أيام أبي بكر بمقاتلة الأسود العنسي المتنبي الكذاب بصنعاء ، قتله أبو بكر في خلافته كما قتل مسيلمة في بني حنيفة ، وقد قيل : إن الأسود العنسي قتل والنبي - صلى الله عليه وسلم - مريض مرضه الذي مات منه سنة إحدى عشرة ، وهو الأكثر عند أهل السير .

[ ص: 224 ] وأما الشام والعراق فكان افتتاحهما في زمن عمر - رضي الله عنه - ، وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه غيب كان بعده قد أخبر به ، وهو لا يعلم من الغيب إلا ما أظهره الله عليه وأوحى به إليه ، فقد افتتحت بعده الشام والعراق واليمن بعضها ، وقد خرج الناس من المدينة إلى الشام وإلى اليمن وإلى العراق ، وكان ما قاله - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك لو صبروا بالمدينة لكان خيرا لهم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة .

وفي هذا الحديث فضل المدينة على اليمن وعلى الشام وعلى العراق ، وهو أمر مجتمع عليه لا خلاف بين العلماء فيه ، وفي ذلك دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض ، ولا يوصل إلى شيء من ذلك إلا بتوقيف من جهة الخبر ، وأما القياس والنظر فلا مدخل له في شيء من ذلك ، وقد صحت الأخبار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضل المدينة ، وأجمع علماء الأمة على أن لها فضلا معروفا لمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبره فيها ، وإنما اختلفوا في الأفضل منها ومن مكة ، وقد بينا ذلك كله في مواضع من هذا الكتاب ، والحمد لله ، والله الموفق للصواب .

وأما قوله : يبسون ، فمن رواه يبسون - برفع الياء وكسر الباء - من أبس يبس على الرباعي ، فقال : معناه يزينون لهم البلد الذي جاءوا منه ويحببونه إليهم ، ويدعونهم إلى الرحيل إليه من المدينة ، قالوا : والإبساس مأخوذ من إبساس الحلوبة عند حلابها كي تدر باللبن ، وهو أن تجري يدك على وجهها وصفحة عنقها كأنك تزين ذلك عندها وتحسنه لها .

[ ص: 225 ] ومنه قول عمران بن حطان :


والدهر ذو درة من غير إبساس



وإلى هذا ذهب ابن وهب ، قال : معناه يزينون لهم الخروج من المدينة ، وكذلك رواية ابن وهب يبسون بالرفع من الرباعي ، وكذلك رواية ابن حبيب ، عن مطرف ، عن مالك : يبسون من الرباعي ، وفسر ابن حبيب الكلمة بنحو هذا التفسير ، وأنكر قول من قال : " إنها من السير " كل الإنكار .

وقال ابن بكير : يبسون بفتح الياء ، وكذلك روايته وفسره : يسيرون ، قال : من قوله : ( وبست الجبال بسا ) يعني : سارت ، ويقال : سالت .

وذكر حبيب ، عن مالك مثل تفسير ابن بكير .

وقال ابن القاسم ، عن مالك : يبسون : يدعون ، وأظن رواية ابن القاسم بفتح الباء ، ورواية ابن بكير بكسرها ، وكل ذلك من الثلاثي .

وقال ابن هشام : والبس أيضا : المبالغة في فت الشيء ، ومنه قيل في الدقيق المصنوع بالزيت ونحوه : البسيس ، قال الراجز :


أخبزا خبزا وبسا بسا



يريد عملا بسيسا .

قال أبو عمر : وقال غيره : يبسون يسرعون السير ، وقيل : يزجرون دوابهم ، وقال غيره : يبسون يسألون عن البلدان ويتشفون من أخبارها ليتحملوا إليها ، وهذا [ ص: 226 ] لا يكاد يعرفه أهل اللغة ، وأما الرباعي فلا خلاف فيه وفي معناه ، وليس له إلا وجه واحد ، وأما الثلاثي ففيه لغتان : بس يبس - بكسر الباء - ، ويبس بضمها ، ومثل هذه الكلمة عندي : قتر وأقتر فيه لغتان : قتر على الثلاثي ، وأقتر على الرباعي ، وفي الثلاثي لغتان في المستقبل : منه يقتر بكسر التاء ، ويقتر بضمها ، وقد قرئ قوله - عز وجل - : ( لم يسرفوا ولم يقتروا ) على الثلاثة الأوجه : يقتروا من الرباعي ، ويقتروا من الثلاثي ، ويقتروا منه أيضا ، وأما رواية يحيى بن يحيى في يبسون عند أكثر شيوخنا الذين اعتمدنا عليهم في التقييد ، فعلى فتح الياء وكسر الباء من الثلاثي ، وفسروه : يسيرون على نحو رواية ابن بكير وتفسيره ، ولا يصح في رواية يحيى بن يحيى غير هذا الضبط ، ومن روى في موطأ يحيى غير ذلك فقد روى ما لم يرو يحيى ، والله أعلم .

وكان ابن حبيب ينكر رواية يحيى ويحمل عليه في ذلك ، وقد رواه ابن بكير وابن نافع وحبيب وغيرهم كذلك ، ويقال : إن ابن القاسم رواه : يبسون - بفتح الياء وضم الباء - ، فالله أعلم .

وأما قوله في هذا الحديث : والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، فقيل فيه : خير لهم من أجل أنها لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ، وقد قيل : إن الفتن فيها دونها في غيرها ، وقيل : من أجل فضل مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصلاة فيه ومجاورة قبره - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل في هذا الحديث ينفي خبثها كما قال ذلك في حياته للفار عن صحبته وجواره ، وقد علمنا أن جملة من خرج بعده من أصحابه لم يكونوا خبثا ، بل كانوا دررا رضي الله عنهم أجمعين .

[ ص: 227 ] هشام ، عن زوجه فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وهي بنت عمه ، ثلاثة أحاديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية