التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
136 حديث رابع وثلاثون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : [ ص: 229 ] أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ، ثم لتصل فيه .


وقع في كتاب يحيى ونسخته في رواية أبيه وغيره عنه في هذا الحديث :

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن فاطمة ، وهذا خطأ بين وغلط لا شك فيه ( وهو من خطأ اليد ، وجهل يحيى بالإسناد ) لأن عروة لم يرو قط عن فاطمة هذه ، وهي فاطمة بنت المنذر بن الزبير زوج هشام بن عروة ، وإنما الحديث في الموطأ لهشام ، عن فاطمة امرأته ، وكذلك رواه كل من رواه ، عن هشام بن عروة : مالك وغيره ، وقد روى ابن وضاح من روايته ، عن أبيه .

قال أبو عمر : وروي " فلتقرصه " بفتح أيضا ، ويروى على التكثير : فلتقرصه - بضم التاء وكسر الراء وتشديدها - ، قال أبو عبيد : فلتقرصه ، يقول : فلتقطعه بالماء ، وكل مقطع فهو مقرص ، يقال منه : المرأة قد قرصت العجين إذا قطعته .

[ ص: 230 ] قال أبو عمر : قول أبي عبيد عندي في هذا بعيد ، وخير منه قول الأخفش : سئل ، عن هذه الكلمة فأراهم كيف ( ذلك ) القرص فضم أصبعيه - الإبهام والسبابة - وأخذ بهما شيئا من ثوبه ، فقال : هكذا يفعل بالماء في موضع الدم ثم كما يقرص الرجل جاريته هو كذلك القرص ، قال : وأما القرس - بالسين - فهو قرس البرد .

قال أبو عمر : هؤلاء إنما فسروا اللفظة في اللغة ، وأما المعنى المقصود إليه بهذا الحديث في الشريعة فهو غسل دم الحيض من الثوب إذا أصابه ، والخبر بأنه يجب غسله لنجاسته ، وحكم كل دم كدم الحيض ، إلا أن قليل الدم متجاوز عنه لشرط الله - عز وجل - في نجاسة الدم أن يكون مسفوحا ، فحينئذ هو رجس والرجس النجاسة ، وهذا إجماع من المسلمين أن الدم المسفوح رجس نجس إلا أن المسفوح وإن كان أصله الجاري في اللغة ، فإن المعنى فيه في الشريعة الكثير ، إذ القليل لا يكون جاريا مسفوحا ، فإذا سقطت من الدم الجاري نقطة في ثوب أو بدن لم يكن حكمها حكم المسفوح الكثير ، وكان حكمها حكم القليل ، ولم يلتفت إلى أصلها في اللغة .

ذكر نعيم بن حماد ، ، عن ابن المبارك ، عن ( مبارك ) بن فضالة ، عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقتل القمل في الصلاة أو قتل القمل في الصلاة قال نعيم : هذا أول حديث سمعته من ابن المبارك ، ومعلوم أن في قتل القمل سيل يسير من الدم .

[ ص: 231 ] حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد بن عيسى قال : حدثنا الخضر بن داود قال : أخبرنا أبو بكر الأثرم قال : حدثنا عقبة بن مكرم قال : أخبرنا يونس بن بكير قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري قال : أدركت فقهاءنا يقولون : ما أذهبه الحك من الدم فلا يضر ، وما أذهبه الفتل فيما يخرج من الأنف فلا يضر . قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا شريك ، عن عمران بن مسلم ، عن مجاهد ، ، عن أبي هريرة أنه لم يكن يرى بالقطرة والقطرتين من الدم في الصلاة بأسا .

قال أبو بكر الأثرم : وقيل لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - : إلى أي شيء تذهب في الدم ؟ فقال : إذا كان فاحشا ، قيل له : في الثوب ؟ فقال : في الثوب وإذا خرج من الجرح ، قيل له : السائل أو القاطر ؟ فقال : إذا فحش ، أذهب إلى الفاحش على حديث ابن عباس ، قال : وقال أبو عبد الله : عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلموا فيه : أبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه ، وابن عمر عصر بثرة ، وابن أبي أوفى تنخم دما ، وجابر أدخل أصابعه في أنفه ، وابن عباس قال : إذا كان فاحشا .

قال أبو بكر الأثرم : أخبرنا معاوية بن عمرو ، عن سفيان ، عن عطاء بن السائب أنه رأى عبد الله بن أبي أوفى يتنخم دما عبيطا وهو يصلي ، قال : وحدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا حميد ، عن بكر بن عبد الله المزني ، أن ابن عمر عصر بثرة في وجهه فخرج منها شيء من دم وقيح فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ .

[ ص: 232 ] قال أبو بكر : سمعت أبا عبد الله يقول : البول والغائط غير الدم ؛ لأن البول والغائط تعاد منهما الصلاة ويغسل قليلهما وكثيرهما ، قال : والدم إذا فحش تعاد منه الصلاة في الوقت وغيره كما يعاد من قليل البول والعذرة .

قال أبو عمر : قد أجمع العلماء على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش ، وهذا أصل في هذا الباب ، وهذا الحديث أصل في غسل النجاسات من الثياب ، ولا أعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غسل النجاسات أبين من هذا الحديث ، وعليه اعتمد الفقهاء في غسل النجاسات وجعلوه أصل هذا الباب ، إلا أنهم اختلفوا في وجوب غسل النجاسات : كالدماء ، والعذرات ، والأبوال ، وسائر النجاسات المعروفات من الثياب والأبدان ، فقال منهم قائلون : غسلها فرض واجب ، ولا تجزئ صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا عنه ، واحتجوا بقول الله - عز وجل - : ( وثيابك فطهر ) وظاهره تطهير الثياب المعروفة عند العرب التي نزل القرآن بذكرها في قوله : ( فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) ، ( واستغشوا ثيابهم ) ، وهذا كثير في القرآن وفي أشعار العرب وكلامها ، وإن كانت قد تكنى عن القلب وطهارته وطهارة الجيب بطهارة الثوب فهذه استعارة ، والأصل في الثوب ما قلنا .

وقد روي عن ابن عباس ، والحسن وابن سيرين في قوله : ( وثيابك فطهر ) قالوا : اغسلها بالماء وأنقها من الدرن ومن القذر ، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بغسل النجاسات من الثياب والأرض والبدن ، فمن ذلك [ ص: 233 ] حديث أسماء هذا في غسل الثوب من دم الحيض ، ليس فيه خصوص مقدار درهم ولا غيره ، فهذا الأصل في تطهير الثياب بالماء من النجاسات ، ومنها حديث الصب على بول الأعرابي ، وهو الأصل في تطهير الأرض ، ومنها الصب والنضح على الثوب الذي بال عليه الصبي ، وقد قلنا : إن النضح المراد به الغسل ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : أكثر عذاب القبر في البول ، قال في الذي كان لا يتنزه ولا يستتر من بوله ، والآثار في مثل هذا كله كثيرة جدا .

وقال بعض من يرى غسل النجاسة فرضا : لما أجمعوا على أن الكثير من النجاسة واجب غسله من الثوب والبدن ، وجب أن يكون القليل منها في حكم الكثير كالحدث قياسا ، ونظرا لإجماعهم على أن قليل الحدث مثل كثيره في نقض الطهارة وإيجاب الوضوء فيما عدا النوم ، وكذلك دم البرغوث ومثله خارج عن الدماء بشرط الله في الدم أن يكون مسفوحا ، وهو الكثير الذي يجري ، وهذا كله أصل وإجماع .

قالوا : فلهذا قلنا : إن من صلى وفي ثوبه أو موضع سجوده وركوعه أو في بدنه نجاسة بطلت صلاته ؛ لأن القليل والكثير في ذلك سواء ، قياسا على الحدث ، قالوا : ولما أجمعوا - إلا من شذ ممن لا يعد خلافا على الجميع لخروجه عنهم - على أن من تعمد الصلاة بالثوب النجس تفسد صلاته ويصليها أبدا متى ما ذكرها ، كان من سها عن غسل النجاسة ، ونسيها في حكم من تعمدها ؛ لأن الفرائض لا تسقط بالنسيان في الوضوء والصلاة ، قالوا : ألا ترى أن من نسي مسح رأسه أو غسل وجهه وصلى في حكم من تعمد ترك ذلك في إعادة الصلاة سواء ، وكذلك من نسي سجدة أو ركعة في حكم من تعمد تركها سواء ، وكذلك من نسي الماء في رحله ولم [ ص: 234 ] يطلبه ونسي الثوب وهو معه وصلى عريانا ، ونظائر هذا كثيرة جدا ، إلا أن الناسي غير آثم والمتعمد آثم ، فهذا الفرق بينهما من جهة الإثم ، وأما من جهة الحكم فلا .

قالوا : ولما كان من تعمد ترك سنة من السنن لم تجب عليه بذلك إعادة صلاته كمن ترك رفع اليدين أو قراءة سورة مع أم القرآن أو التسبيح أو الذكر في الركوع والسجود ونحو ذلك من سنن الصلاة وسنن الوضوء ، علمنا أن من ترك غسل النجاسات فقد ترك فرضا ، لإجماعهم على أن من ترك ذلك عامدا وصلى بثوب نجس أن صلاته فاسدة ، قالوا : وبان بهذا كله أن غسل الثياب فرض لا سنة ، والله أعلم .

فإن قيل : لم ادعيت الإجماع فيمن صلى بثوب نجس عامدا أنه يعيد في الوقت وغير الوقت ، وأشهب يقول : لا يعيد العامد وغير العامد إلا في الوقت ، ومنهم من يرويه عنه ، عن مالك ، قيل له ليس أشهب ولا روايته الشاذة عن مالك مما يعد خلافا ، فالصحابة وسائر العلماء يمنع من ادعاء إجماعهم ؛ لأن من شذ عنهم مأمور باتباعهم ، وهو محجوج بهم .

وقال المغيرة وابن دينار وابن القاسم وعبد الملك : يعيد العامد في الوقت وغير الوقت ، وهو الصحيح عن مالك ، قالوا : وقد قال الله - عز وجل - : ( وثيابك فطهر ) فجمعت الآية تطهير الثياب ، وما قاله أهل التفسير من تطهير القلب ، وأفادت المعنيين جميعا ، قالوا : ومن حمل الآية على أكمل الفوائد ، كان أولى ، على أن القرآن ليس فيه آية تنص أن الثياب القلوب ، وقد سمى الله - عز وجل - في كتابه الثياب ثيابا ولم يسم القلوب ثيابا ، فهذه جملة ما احتج به من ذهب إلى إيجاب غسل النجاسات وإزالتها من الثوب والأرض والبدن فرضا ، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور ، وإليه مال أبو الفرج المالكي ، ولا يلتفت الشافعي إلى تفسير يخالف الظاهر ، إلا أن يجمعوا عليه .

[ ص: 235 ] وقال آخرون : غسل النجاسات سنة مسنونة من الثياب والأبدان والأرض ، سن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكروا قول سعيد بن جبير أنه قال لمن خالفه في ذلك : اقرأ علي آية تأمر بغسل الثياب ؟ قالوا : وأما قول الله - عز وجل - : ( وثيابك فطهر ) فهذه كناية عن الكفر وتطهير القلب منه ، ألا ترى أنه عطف على ذلك قوله - عز وجل - : ( والرجز فاهجر ) يعني الأوثان ، فكيف يأمره بتطهير الثياب قبل ترك عبادة الأوثان ؟ قالوا : والعرب تقول : فلان نقي الثوب وطاهر الجيب ، إذا كان مسلما عفيفا ، يكنون بذلك عن سلامته ويريدون بذلك غسل ثوبه من النجاسة ، قالوا : ويبعد أن يكون الله - عز وجل - يعطف النهي عن عبادة الأوثان على تطهير الثياب من النجاسات ، قالوا : ودليل ذلك أن هذه السورة نزلت قبل نزول الشرائع من وضوء وصلاة وغير ذلك ، وإنما أريد بها الطهارة من أوثان الجاهلية وشركها ، ومن الأعمال الخبيثة .

حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أحمد بن دحيم ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن عبد الله ومحمود بن خداش ، قالوا : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، ، عن أبي رزين في قوله : ( وثيابك فطهر ) قال : عملك أصلحه ، قال : كان الرجل إذا كان حسن العمل قيل : فلان طاهر الثياب .

قال : وحدثنا مسدد ، حدثنا يحيى بن سعيد ، ، عن ابن جريج قال : حدثنا عطاء ، ، عن ابن عباس قوله : ( وثيابك فطهر ) قال : في كلام العرب فلان نقي الثياب .

[ ص: 236 ] ورواه بندار ، عن يحيى القطان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، ، عن ابن عباس في قوله : ( وثيابك فطهر ) ، قال : في كلام العرب أنقها ، وهذا خلاف حديث مسدد .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا موسى بن معاوية قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ( وثيابك فطهر ) قال : من الإثم ، قال : وأخبرنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأجلح ، ، عن عكرمة : لا تلبسها على معصية .

وذكر معمر ، عن قتادة في قوله : ( وثيابك فطهر ) قال : كلمة تقولها العرب : طهر ثيابك ؛ أي : من الذنب .

وذكر حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( وثيابك فطهر ) قال : لست بساحر ولا كاهن ، فأعرض عما قالوا .

قال ابن جريج وأخبرني عطاء ، عن ابن عباس أنه سمعه يقول : في ( وثيابك فطهر ) قال : من الإثم ، يقول في كلام العرب .

وذكر إسماعيل قال : حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا أبو أسامة ، عن الأجلح قال : سمعت عكرمة سئل عن قول الله - عز وجل - : ( وثيابك فطهر ) قال : أمر أن لا يلبس ثوبه على غدرة ، أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :


وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع



قال أبو عمر : معروف عند العرب أنها تكني بطهارة الثوب عن العفاف ، وبفضلة الثوب وسعته عن العطاء .

[ ص: 237 ] أخبرنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم الكندي قال : حدثنا موسى بن عبيد الله بن خاقان قال : حدثنا عبد الله بن أبي سعيد الوراق قال : حدثني أحمد بن معاوية قال : سمعت الأصمعي قال : سمعت طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب يحدث عن أعرابي قال : بنو سيار فلان فارسهم ، وفلان لسانهم ، وفلان أوسعهم عليهم ثوبا ، يعني أكثرهم عليهم فضلا ، وهو قول رؤبة لابنه :

وهو عليك واسع العطاف

.

وقال عنترة :


نفى الدم عن أثوابه     مثل ما نفى أذى درنا
عن جلده الماء غاسل



أراد نفي الماء إذا غسل درنا ، قالوا : وأما ما احتج به من خالفنا من إجماعهم على أن من تعمد الصلاة بثوب نجس فيه نجاسة كثيرة أنه عليه إعادتها في ثوب طاهر ، فإنما ذلك لأنه استخف وعاند ، قالوا : وقد وجدنا من السنن ما تفسد الصلاة بتركها عمدا ، من ذلك الجلسة الوسطى هي عندنا سنة وعندكم ، ومن تعمد تركها فسدت صلاته ، فغير نكير أن يكون مثل ذلك من تعمد الصلاة في الثوب النجس .

قال أبو عمر : الفرق بين غسل النجاسة عندنا وبين الجلسة الوسطى أن الصلاة تفسد بالسهو عن الجلسة الوسطى إذا لم يذكر ذلك إلا بعد خروج الوقت ، ولا تفسد صلاة من سها فصلى بثوب نجس إذا خرج الوقت ، فلهذا لا يصح الانفصال بما ذكر هذا القائل على مذهب مالك .

[ ص: 238 ] قال أبو عمر : أما حكاية أقوال الفقهاء في هذا جملة ، فجملة مذهب مالك وأصحابه إلا أبا الفرج : أن إزالة النجاسة من الثياب والأبدان واجب بالسنة وجوب سنة ، وليس بفرض ، قالوا : ومن صلى بثوب نجس أعاد في الوقت ، فإن خرج الوقت فلا شيء عليه .

وقال مالك في يسير الدم : لا تعاد منه الصلاة في وقت ولا بعده ، وتعاد من يسير البول والغائط ، ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث بن سعد ، ومن حجتهم على استحباب الإعادة في الوقت ؛ لأن فاعل ذلك مع بقاء الوقت مستدرك فضل السنة في الوقت ، ألا ترى أن من صلى وحده ثم أدرك الجماعة يصلي تلك الصلاة في وقتها ، يندب إلى إعادة تلك الصلاة معهم إذا كانت ظهرا أو عشاء بإجماع ، وفي غيرهما اختلاف ، ولو وجدهم يجمعون تلك الصلاة بعد خروج الوقت لم يأمره أحد بالدخول معهم ، وفي هذا دليل على أن استدراك فضل السنة في مثل هذا ، إنما ينبغي أن يكون في الوقت لا في بعده ، ومما استدل به من لم يبطل صلاة من صلى وفي ثوبه نجاسة ، وجعل غسل النجاسة سنة لا فرضا ما رواه حماد بن سلمة ، عن أبي نعامة قيس بن عبابة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الصلاة ونعلاه في رجليه ثم خلعهما فخلع الناس نعالهم ، فلما انصرف قال لهم : لم خلعتم نعالكم ؟ قالوا : لما رأيناك خلعت خلعنا ، فقال : إنما خلعتهما لأن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا .

ففي هذا الحديث ما يدل على أن غسل القذر ليس بواجب فرضا ، ولا كونه في الثوب يفسد الصلاة ؛ لأنه لم يذكر إعادة .

[ ص: 239 ] وقال الشافعي : قليل الدم والبول والعذرة ، وكثير ذلك كله سواء تعاد منه الصلاة أبدا ، إلا ما كان نحو دم البراغيث وما يتعافاه الناس ، فإنه لا يفسد الثوب ، ولا تعاد منه الصلاة ، وبنحو قول الشافعي في هذا كله قال أبو ثور وأحمد بن حنبل ، إلا أنهما لا يوجبان غسل الدم حتى يتفاحش ، وهو قول الطبري ، إلا أن الطبري قال : إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا ، ولم يجد أولئك شيئا وكلهم يرى غسل النجاسة فرضا ، وقول أبي حنيفة وأبي يوسف في هذا الباب كقول الطبري في مراعاة قدر الدرهم من النجاسة .

وقال محمد بن الحسن : إن كانت النجاسة ربع الثوب فبما دون جازت الصلاة .

وأما قولهم مفسرا في هذا الباب ، فقال مالك في الدم اليسير : إن رآه في ثوبه وهو في الصلاة مضى فيها ، وفي الكثير ينزعه ويستأنف الصلاة ، وإن رآه بعد فراغه أعاد ما دام في الوقت ، وقال في البول والرجيع والمني والمذي وخرو الطير التي تأكل الجيف : إن ذكره وهو في الصلاة في ثوبه قطعها واستقبلها ، وإن صلى أعاد ما دام في الوقت ، فإذا ذهب الوقت لم يعد .

قال ابن القاسم : والقيء عند مالك ليس بنجس إلا أن يكون القيء قد تغير في جوفه ، فإن كان كذلك فهو نجس .

وقال الشافعي في الدم والقيح : إذا كان قليلا كدم البراغيث وما يتعافاه الناس لم يعد ، ويعيد في الكثير من ذلك ، قال : وأما البول والعذرة والخمر فإنه يعيد في القليل من ذلك والكثير ، والإعادة عنده واجبة لا يسقطها خروج الوقت .

[ ص: 240 ] وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في الدم والعذرة والبول ونحوه : إن صلى وفي ثوبه من ذلك مقدار الدرهم جازت صلاته ، وكذلك قال أبو حنيفة في الروث حتى يكون كثيرا فاحشا ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في بول ما يؤكل لحمه : حتى يكون كثيرا فاحشا .

وذهب محمد بن الحسن إلى أن بول كل ما يؤكل لحمه طاهر كقول مالك ، وقال الشافعي : بول ما يؤكل لحمه نجس .

قال أبو عمر : اختلاف العلماء في أبوال ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل من البهائم ليس هذا موضع ذكره ، ولا موضع اختلاف الحجة فيه .

وقال زفر في البول : قليله وكثيره يفسد الصلاة ، وفي الدم حتى يكون أكثر من قدر الدرهم .

وقال الحسن بن حي في الدم في الثوب : يعيد إذا كان مقدار الدرهم ، وإن كان أقل من ذلك لم يعد ، وكان يقول : إن كان في الجسد أعاد ، وإن كان أقل من قدر الدرهم ، وقال في البول والغائط : يفسد الصلاة في القليل والكثير إن كان في الثوب ، وقال الثوري : يغسل الروث والدم ولم يعرف قدر الدرهم .

وقال الأوزاعي في البول في الثوب : إذا لم يجد الماء تيمم وصلى ولا إعادة عليه إن وجد الماء .

وروي عن الأوزاعي أنه إن وجد الماء في الوقت أعاد ، وقال في القيء يصيب الثوب ولا يعلم به حتى يصلي : مضت صلاته ، وقال : إنما جاءت [ ص: 241 ] الإعادة في الرجيع ، قال : وكذلك في دم الحيض لا يعيد ، وقال في البول : يعيد في الوقت ، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه .

قال أبو عمر : أقاويل الأوزاعي في هذا الباب مضطربة لا يضبطها أصل ، وقال الليث في البول والروث والدم وبول الدابة ودم الحيض والمني : يعيد ؛ فات الوقت أو لم يفت . وقال في يسير الدم في الثوب : لا يعيد في الوقت ولا بعده ، قال : وسمعت الناس لا يرون في يسير الدم يصلي به وهو في الثوب بأسا ، ويرون أن تعاد الصلاة في الوقت من الدم الكثير ، قال : والقيح مثل الدم .

قال أبو عمر : هذا أصح عن الليث مما قدمنا عنه ، وقد أوردنا في هذا الباب أقاويل الفقهاء وأهل الفتيا مجملة ومفسرة بعد إيراد الأصل الذي منه تفرعت أقوالهم من الكتاب والسنة والإجماع ، والذي أقول به أن الاحتياط للصلاة واجب ، وليس المرء على يقين من أدائها إلا في ثوب طاهر ، وبدن طاهر من النجاسة ، وموضع طاهر على حدودها ، فلينظر المؤمن لنفسه ويجتهد .

وأما الفتوى بالإعادة لمن صلى وحده وجاء مستفتيا ، فلا إذا كان ساهيا ناسيا ؛ لأن إيجاب الإعادة فرضا يحتاج إلى دليل لا تنازع فيه ، وليس ذلك موجودا في هذه المسألة .

وقد روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وسالم وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري في الذي يصلي بالثوب النجس ، وهو لا يعلم ثم علم بعد الصلاة أنه لا إعادة عليه ، وبهذا قال إسحاق ، واحتج بحديث أبي سعيد المذكور في هذا الباب .

[ ص: 242 ] قال أبو عمر والحديث حدثناه عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي نعامة السعدي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره ، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم ، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال : ما حملكم على إلقاء نعالكم ؟ قالوا : رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا ، وقال : إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر ، فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسح وليصل فيهما وهكذا رواه أبو الوليد الطيالسي ويزيد بن هارون وعفان بن مسلم ، عن حماد بن سلمة بإسناده مثله .

ورواه حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي نضرة مرسلا ، ورواه أبان ، عن قتادة ، عن بكر المزني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

ففي هذا الحديث ما يدل على جواز صلاة من صلى وفي ثوبه نجاسة إذا كان ساهيا عنها غير عالم بها على ما ذهب إليه هؤلاء من التابعين وغيرهم ، وفي ذلك دليل على أن غسل النجاسات ليس بفرض ، والله أعلم .

وقد احتج بعض أصحابنا بحديث ابن مسعود ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو يصلي ، فلم يقطع لذلك صلاته ، كان ذلك دليلا على أن النجاسة ليس بفرض غسلها ، ولو سلم له ظاهر هذا الحديث بأن يكون السلا من جزور غير مذكى ، لما كان غسل النجاسات سنة ولا فرضا ، وقد أجمعوا أن من شرط الصلاة طهارة الثياب ظاهرا والبدن ، فدل على نسخ هذا الخبر .

[ ص: 243 ] وقد روي عن ابن مسعود في ذلك نحو حديث أبي سعيد الخدري .

حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد بن وضاح ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو غسان خالد بن إسماعيل النمري ، عن زهير بن معاوية قال : أخبرنا أبو ضمرة ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود قال : خلع النبي - صلى الله عليه وسلم - نعليه وهو يصلي فخلع من خلفه ، فقال : ما حملكم على خلع نعالكم ؟ قالوا : يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا ، قال : إن جبريل أخبرني أن في إحداهما قذرا ، فإنما خلعتهما لذلك ، فلا تخلعوا نعالكم .

وأما قول من قال بالإعادة في الوقت لمن صلى بثوب نجس ، فإنما ذلك استحباب واستحسان لتدرك فضل السنة والكمال في الوقت على ما تقدم ذكرنا له .

وروى حماد بن زيد ، عن هشام بن حسان والأشعث الحمراني أن الحسن كان يقول : إذا رأى في ثوبه دما بعدما صلى أنه يعيد ما كان في الوقت ، وإن كان في جلده أعاد وإن ذهب الوقت ، قال حماد : وقال هشام : إذا رأى دما أو جنابة أو نجسا أعاد وإن ذهب الوقت ، وقاله أبو قلابة ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأبي ثور والطبري ؛ لأن الإعادة إذا وجبت لم يسقطها خروج الوقت ، ولا فرق في القياس بين البدن والثوب ، وقد تقدمت الحجة في هذا الباب لكلا القولين ، وأما قول من راعى في النجاسات قدر الدرهم فقول لا أصل له ولا معنى يصح ؛ لأن التحديد لا يثبت إلا من جهة التوقيف لا من جهة الرأي ، والذي يصح عندي في مذهب مالك بما أقطع على صحته عنه فيما دل عليه عظم مذهبه في أجوبته ، أنه من صلى بثوب [ ص: 244 ] نجس فيه نجاسة ظاهرة لا تخفى ، فإنه يعيد أبدا ، كمن صلى بماء قد ظهرت فيه النجاسة فغيرته ، أو تيمم على موضع النجاسة فيه ظاهرة غالبة ، ومن صلى بثوب قد استيقن فيه نجاسة إلا أنها غير ظاهرة فيه ، أعاد في الوقت وعليه أن يغسله كله لما يستقبل ، كمن توضأ بماء لم تغيره النجاسة أو تيمم على موضع لم تظهر فيه نجاسة ، هذا عندي أصح ما يجيء على مذهب مالك ، وما أستوحش ممن خالفني عنه في ذلك ، وبالله العصمة والتوفيق لا شريك له .

وقياسهم ذلك على حلقة الدبر في الاستنجاء مع إقرارهم أن ذلك موضع مخصوص بالأحجار ؛ لأنها لا تزيل النجاسة إزالة صحيحة كالماء ، وإن ما عدا المخرج لا يطهره إلا الماء أو ما يعمل عمل الماء عندهم في إزالة عين النجاسة قياسا على غير نظير ولا علة معلولة ، وبالله التوفيق .

وأما قوله : ثم تنضحه بالماء ثم لتصل فيه ، فيحتمل أن يكون النضح هاهنا الغسل على ما بينا في غير موضع من كتابنا هذا ، ويحتمل أن يكون النضح الرش لما شك فيه ولا يرى ، فيقطع بذلك الوسوسة ، إذ الأصل في الثوب الطهارة حتى تستيقن النجاسة ، فإذا استوقنت لزم الغسل والتطهير ، وأما الرش فلا يزيل نجاسة في النظر ، وقد بينا أيضا هذا المعنى في مواضع من هذا الكتاب ، ولولا أن السلف جاء عنهم النضح ما قلنا بشيء منه ، ولكن قد جاء عن عمر حين أجنب في ثوبه : أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره . وعن أبي هريرة وغيره مثل ذلك ، وذلك عندي - والله أعلم - قطع لحزازات النفوس ووساوس الشيطان .

روى الأوزاعي ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، ، عن عائشة قالت : إذا حاضت المرأة في الثوب ثم طهرت ، فلتتبع ما أصاب ثوبها من الدم فلتغسله وتنضح باقيه ثم تصلي فيه .

[ ص: 245 ] وفي هذا الحديث وحديث أسماء المذكور في هذا الباب دليل على أن قليل الماء يطهر النجاسة إذا غلب عليها واستهلكها ، ومعلوم أن دم الحيض في ذلك الثوب قد طهره ما دون القلتين ، وقد بينا الصحيح عندنا في الماء من مذاهب العلماء في باب إسحاق بن أبي طلحة ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية