التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
862 حديث تاسع وثلاثون لهشام .

مالك ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه أن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل بدنة عطبت من الهدي فانحرها ثم ألق قلائدها في دمها ، ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها .


هذا حديث مرسل في الموطأ ، وهو في غير الموطأ مسند ؛ لأن جماعة من الحفاظ رووه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية الأسلمي صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغير نكير أن يسمع عنه عروة .

حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال : حدثنا الفضل بن الحباب القاضي بالبصرة أبو خليفة قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معه بهدي قال : إن عطب فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس .

[ ص: 264 ] حدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المدني قال : حدثنا الشافعي قال : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ قال : انحره ثم اغمس قلائده في دمه ، ثم اضرب بها صفحة عنقه ، ثم خل بينه وبين الناس .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا وهب بن خالد قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن ناجية صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف يصنع بما عطب من الهدي ؟ فأمره أن ينحر كل بدنة عطبت ثم يلقي حبلها في دمها ويخلي بينها وبين الناس يأكلونها كذا وقع عنده حبلها في دمها ، وإنما هو نعلها في دمها .

وناجية هذا هو ناجية بن جندب الأسلمي ، وقد ذكرناه ورفعنا في نسبه في كتاب الصحابة .

وروى ابن عباس هذا الحديث ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزاد فيه : ولا تأكل منها أنت ، ولا أحد من رفقتك وسنذكره هاهنا إن شاء الله .

وفي هذا الحديث من الفقه أن الهدي يقلد ، وأن التقليد من شأنه وسنته ، والتقليد أن يعلق في عنق البدن نعل علامة ليعرف أنها هدي .

وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلد هديه نعلين ، وكذلك كان ابن عمر يفعل ، وبه قال الشافعي واستحسنه ، والنعل عندي تجزئ ، وهو قول مالك والزهري وجماعة العلماء ، كلهم لا يختلفون في تقليد الهدي ويجزئ عند جميعهم نعل واحدة ، والذي أجمعوا عليه من تقليد الهدي الإبل والبقر ، واختلفوا في [ ص: 265 ] تقليد الغنم ، فكان مالك وأبو حنيفة وأصحابهم ينكرون تقليد الغنم ، وأجاز تقليده الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور لقول عائشة : كنت أقلد الغنم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قول عطاء وجماعة ، وقد مضى في هذا الكتاب في باب عبد الله بن أبي بكر القول في تقليد الهدي ، هل يوجب على صاحبه أن يكون محرما لذلك أم لا ؟ والصحيح في ذلك حديث عائشة على ما ذكرناه هناك من أحسن طرقه ما أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا يزيد بن خالد وقتيبة بن سعيد أن الليث حدثهم ، عن ابن شهاب ، عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم .

وأما قوله : كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ فجاوبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر في حديث هشام هذا ، فإن هذا محمله عند العلماء على الهدي التطوع ، وكذلك كان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطوعا ؛ لأنه كان في حجته مفردا ، والله أعلم .

وقد ذكرنا الاختلاف عنه في ذلك في باب ابن شهاب وغيره ، والهدي التطوع لا يجوز لأحد ساقه أكل شيء منه إذا عطب قبل أن يبلغ محله ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى أكل الهدي قبل محله ، من أجل أنه تطوع فينصرف من الناس من لم تصح نيته فيما أخرجوه لله ، ويعتلون بأنه عطب .

ذكر أبو ثابت وأسد وسحنون وابن أبي الغمر ، ، عن ابن القاسم قلت لابن القاسم : أرأيت هدي التطوع إذا عطب كيف يصنع به صاحبه في قول مالك ؟ قال : قال مالك : يرمي بقلائده في دمه إذا نحره ويخلي بين الناس وبينه ، ولا يأمر أحدا أن يأكل منه فقيرا ولا غنيا ، فإن أكل هو أو أمر أحدا من الناس [ ص: 266 ] بأكله أو حز شيئا من لحمه ، كان عليه البدل . قال ابن القاسم : وقال مالك : كل هدي إذا عطب فليأكل منه صاحبه وليطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب ، ولا يبيع من لحمه ولا من جلده ولا من قلائده شيئا .

قال مالك : ومن الهدي المضمون ما إن عطب قبل أن يبلغ محله جاز له أن يأكل منه ، وهو إن بلغ محله لم يأكل منه ، وهو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين ، فهذا إن عطب قبل محله جاز له أن يأكل منه ؛ لأن عليه بدله ، وإذا بلغ محله أجزأه عن الذي ساقه ، ولا يجزيه أن يأكل منه .

قال إسماعيل بن إسحاق : لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدنة ، وبذلك جاز له أن يأكل منه ولا يطعم ؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب ، فاحتيط على الناس ، وبذلك مضى العمل في هدي التطوع إذا عطب في الطريق ؛ نحره صاحبه وخلى بينه وبين الناس .

وذكر إسماعيل بن إسحاق حديث هشام هذا عن أبيه ، عن ناجية وحديث ابن عباس ، عن ذؤيب الخزاعي .

قال أبو عمر : أما حديث ناجية فقد تقدم ذكره ، وأما حديث ابن عباس فاختلف فيه عنه ، فطائفة روت عنه ما يدل على أن ناجية الأسلمي حدثه ، وطائفة روت عنه أن ذؤيبا الخزاعي حدثه ، وذؤيب هذا هو والد قبيصة بن ذؤيب ، وربما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا معه هديا فسأله كما سأله ناجية ، فالله أعلم .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم - يعني ابن علية - قال : حدثنا أبو التياح ، عن موسى بن سلمة ، ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بثمان عشرة مع رجل فأمره فيها [ ص: 267 ] بأمر ، فانطلق ثم رجع إليه فقال : أرأيت إن عطب منه شيء ؟ قال : فانحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ، ثم اجعلها على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك .

أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد قال : حدثنا أبو التياح ، عن موسى بن سلمة قال : خرجت أنا وسنان بن سلمة ومعنا بدنتان ، فأزحفتا علينا بالطريق ، فلما قدمنا مكة أتينا ابن عباس فسألناه ، فقال : على الخبير سقطت بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلانا الأسلمي وبعث معه بثمان عشرة ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت إن أزحف علي منها شيء بالطريق ؟ قال : تنحرها وتصبغ نعلها ، أو قال : تغمس نعلها في دمها فتضرب بها على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك .

وروى شعبة وسعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سنان بن سلمة ، ، عن ابن عباس أن ذؤيبا الخزاعي حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن ثم يقول : إذا عطب شيء منها فخشيت عليه موتا فانحره ثم اغمس نعله في دمه ، ثم اضرب صفحته ولا تطعم منها ولا أحد من أهل رفقتك .

قال أبو عمر : ( قوله ) ولا أحد من أهل رفقتك ، لا يوجد إلا في حديث ابن عباس هذا بهذا الإسناد ، عن موسى بن سلمة وسنان بن سلمة ، وليس ذلك في حديث هشام بن عروة ، عن أبي ، عن ناجية ، وهذا عندنا أصح من حديث ابن عباس ، عن ذؤيب وعليه العمل عند الفقهاء ، ومن جهة النظر أهل رفقته وغيرهم في ذلك [ ص: 268 ] سواء ، ويدخل في قوله - عليه السلام - : وخل بين الناس وبينه يأكلونه أهل رفقته وغيرهم ، وإنما الضمان على من أكل من هديه التطوع وإن لم يكن موجودا في الحديث المسند ، فإن ذلك عن الصحابة والتابعين ، وعليه جماعة فقهاء الأمصار .

وروي عن عمر وعلي وابن مسعود إن أكل من الهدي التطوع غرم ، وعن ابن عباس : إن اختلفا أو أمرت بأكله غرمت ، وعن ابن المسيب مثله سواء من رواية مالك ، عن ابن شهاب .

وروى ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، ، عن ابن المسيب قال : مضت السنة إذا أصيبت البدنة تطوعا في الطريق أن ينحرها ويغمس قلائدها ( في دمها ) ثم لا يأكل منها ، ولا يطعم ، ولا يقسم ، فإن فعل شيئا من ذلك ضمن .

وعن ابن عمر وابن عباس وعطاء والنخعي في الهدي الواجب يعطب قالوا : كل إن شئت إذا نحرته وعليك البدل .

وأما اختلاف الفقهاء في هذه المسألة ، فقال مالك : ما عطب من الهدي قبل أن يبلغ محله ، فإن كان واجبا أكل منه إن شاء وأبدله ، وإن كان تطوعا نحره ثم صبغ قلائده في دمه وخلى بين الناس وبينه ولم يأكل ولم يطعم ولم يتصدق ، فإن أكل أو أطعم أو تصدق ضمن ، وهو قول الشافعي والأوزاعي والثوري إلا أنهم قالوا : يضمن ما أكل أو أطعم أو تصدق ، وليس عليه البدل إلا لما أتلف ، فإن أتلفه كله ضمنه كله . وكذلك قال أبو حنيفة أيضا ، إلا أنه قال : يتصدق بالهدي التطوع إذا عطب أفضل من أن يتركه فتأكله السباع ، قال : ولو أطعم منه غنيا ضمن ، وقال في الهدي الواجب : لا بأس أن [ ص: 269 ] يبيع لحمه . وهو قول عطاء يستعين به في ثمن هدي ، وهؤلاء لا يرون بيعه .

واختلفوا فيما يؤكل من الهدي إذا بلغ محله ، فقال مالك : يؤكل من الهدي كله إذا بلغ محله إلا جزاء الصيد ونسك الأذى وما نذر للمساكين ، وقال الشافعي : لا يؤكل من الهدي كله شيء إذا بلغ محله إلا بالتطوع وحده ، فأما الهدي الواجب فلا يأكل شيئا منه ، وقال أبو حنيفة : يؤكل من هدي المتعة والقران والتطوع ، ولا يؤكل مما سواه ، وقال الثوري : يؤكل من هدي المتعة والإحصار والوصية والتطوع .

التالي السابق


الخدمات العلمية