التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1498 حديث موفي أربعين لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن مخنثا كان عند أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لعبد الله بن أبي أمية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع : يا عبد الله ، إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على ابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخلن هؤلاء عليكم .


هكذا روى هذا الحديث جمهور الرواة ، عن مالك مرسلا ، ورواه سعيد بن أبي مريم ، عن مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن أم سلمة ، والصواب عن مالك ما في الموطأ ولم يسمعه عروة من أم سلمة ، وإنما رواه عن زينب ابنتها عنها ، كذلك قال ابن عيينة وأبو معاوية ، عن هشام ، فأما حديث ابن أبي مريم ، عن [ ص: 270 ] مالك فحدثناه أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا يحيى بن أيوب قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم قال : أخبرنا مالك قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عندها ، وكان مخنث عندهم جالسا ، فقال المخنث لعبد الله بن أبي أمية أخي أم سلمة : إن فتح الله عليكم الطائف غدا فأنا أدلك على ابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلن هؤلاء عليكم .

وأما حديث ابن عيينة فحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، ، عن أمها أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله بن أبي أمية : يا عبد الله ، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا ، فعليك بابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلن هؤلاء عليكم قال : سفيان : قال ابن جريج : اسمه هيت ، يعني المخنث .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم وإبراهيم بن شاكر قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب بن حبيب الرقي قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق قال : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، ، عن أم سلمة ، فذكرا الحديث بتمامه .

قال أبو عمر : ذكر عبد الملك بن حبيب ، عن حبيب كاتب مالك ، قلت لمالك : إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان : أن مخنثا يقال له هيت ، وليس في كتابك [ ص: 271 ] هيت ، فقال مالك : صدق ، وهو كذلك . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - غربه إلى الحمى ، وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها ، قال حبيب : وقلت لمالك : وقال سفيان في الحديث : إذا قعدت تثنت ، وإذا تكلمت تغنت . قال مالك : صدق ، كذلك هو في الحديث . قال : وقلت لمالك : قال سفيان في تفسير تقبل بأربع وتدبر بثمان ، يعني مظلة الأعراب ، مقدمها أربع ، ومدبرها ثمان ، فقال مالك : لم تصنع شيئا ، إنما هي عكن أربع إذا أقبلت وثمان إذا أدبرت ، وذلك أن الظهر لا تنكسر فيه العكن .

قال أبو عمر : كل ما ذكره حبيب كاتب مالك ، عن سفيان بن عيينة أنه قال في الحديث - يعني حديث هشام بن عروة هذا - فغير معروف فيه عند أحد من رواته ، عن هشام لا ابن عيينة ولا غيره ، ولم يقل سفيان في نسق الحديث إن مخنثا يدعى هيت ، وإنما ذكره ، عن ابن جريج بعد تمام الحديث على ما ذكرناه ، عن الحميدي عنه ، وهو أثبت الناس في ابن عيينة ، وكذلك قوله ، عن سفيان أنه كان يقول في الحديث : إذا قعدت تثنت ، وإذا تكلمت تغنت . هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره فيما علمت في حديث هشام بن عروة ، وهذا اللفظ لا يحفظ إلا من رواية الواقدي ، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ، ويحكي عن مالك أنه كذلك ، فصارت رواية عن مالك ولم يرو ذلك عن مالك ( أحد ) غير حبيب ، ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا ، والله أعلم .

وحبيب كاتب مالك [ ص: 272 ] متروك الحديث ضعيف عند جميعهم ، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الجبار العطاردي قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب ابنة أم سلمة ، ، عن أم سلمة قالت : كان عندي مخنث فقال لعبد الله أخي : إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله فقال : لا يدخلن هؤلاء عليكم .

قال : وحدثنا يونس بن بكير ، عن أبي إسحاق قال : وقد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولى لخالته فاختة ابنة عمرو بن عائذ مخنث يقال له ماثع ، يدخل على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكون في بيته ، ولا يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يفطن لشيء من أمر النساء مما يفطن إليه الرجال ، ولا يرى أن له في ذلك أربا ، فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد : يا خالد ، إن فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطائف ، فلا تنفلتن منك بادية ابنة غيلان بن سلمة ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع هذا منه : ألا أرى الخبيث يفطن لما أسمع ، ثم قال لنسائه : لا يدخل عليكم ، فحجب ، عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي هذا الحديث من الفقه إباحة دخول المخنثين من الرجال على النساء ، وإن لم يكونوا منهن بمحرم ، والمخنث الذي لا بأس بدخوله على النساء هو المعروف عندنا اليوم بالمؤنث ، وهو الذي لا أرب له في النساء ، ولا يهتدي إلى [ ص: 273 ] شيء من أمورهن ، فهذا هو المؤنث المخنث الذي لا بأس بدخوله على النساء ، فأما إذا فهم معاني النساء والرجال كما فهم هذا المخنث وهو المذكور في هذا الحديث ، لم يجز للنساء أن يدخل عليهن ، ولا جاز له الدخول عليهن بوجه من الوجوه ؛ لأنه حينئذ ليس من الذين قال الله - عز وجل - فيهم : ( غير أولي الإربة من الرجال ) ، وليس المخنث الذي تعرف فيه الفاحشة خاصة وتنسب إليه ، وإنما المخنث شدة التأنيث في الخلقة حتى يشبه المرأة في اللين والكلام والنظر والنغمة ، وفي العقل والفعل ، وسواء كانت فيه عاهة الفاحشة أم لم تكن ، وأصل التخنث التكسر واللين ، فإذا كان كما وصفنا لك ولم يكن له في النساء أرب ، وكان ضعيف العقل لا يفطن لأمور الناس أبله ، فحينئذ يكون من غير أولي الإربة الذين أبيح لهم الدخول على النساء ، ألا ترى أن ذلك المخنث لما فهم من أمور النساء قصة بنت غيلان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ، عن دخوله على النساء ونفاه إلى الحمى فيما روي ؟

واختلف العلماء في معنى قوله - عز وجل - : ( أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) اختلافا متقارب المعنى لمن تدبر .

ذكر ابن أبي شيبة قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن ( أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) قال : هم قوم طبعوا على التخنيث ، فكان الرجل منهم يتبع الرجل يخدمه ليطعمه وينفق عليه ، لا يستطيعون غشيان النساء ولا يشتهونه .

قال : وحدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : ( غير أولي الإربة من الرجال ) قال : هو الأبله الذي لا يعرف أمر النساء .

[ ص: 274 ] قال : وأخبرنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : هو الذي لم يبلغ أربه أن يطلع على عورات النساء . وذكر محمد بن ثور وعبد الرزاق جميعا ، عن معمر ، عن قتادة ( أو التابعين غير أولي الإربة ) قال : هو التابع الذي يتبعك فيصيب من طعامك غير أولي الإربة ، يقول : لا أرب له ، ليس له في النساء حاجة .

وعن علقمة قال : هو الأحمق الذي لا يريد النساء ولا يردنه . وعن طاوس وعكرمة مثله ، وعن سعيد بن جبير : هو الأحمق الضعيف العقل . وعن عكرمة أيضا : هو العنين . ووكيع ، عن سفيان ، ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هو الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ، ليس له هم إلا بطنه . وعن الشعبي أيضا وعطاء مثله ، وعن الضحاك : هو الأبله ، وقال الزهري : هو الأحمق الذي لا همة له في النساء ولا أرب . وقيل : كل من لا حاجة له في النساء من الأتباع ، نحو الشيخ ، والهرم ، والمجبوب ، والطفل ، والمعتوه ، والعنين .

قال أبو عمر : هذه أقاويل متقاربة المعنى ، ويجتمع في أنه لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء ، وبهذه الصفة كان ذلك المخنث عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن النساء أمر بالاحتجاب منه .

[ ص: 275 ] وذكر معمر ، عن الزهري وهشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث ، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة ، فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال : لا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا يدخلن هذا عليكم . فحجبوه .

وأما قوله : تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فالذي ذكر حبيب ، عن مالك هو كذلك أو قريب منه ، وإنما وصف امرأة لها في بطنها أربع عكن ، فإذا بلغت خصريها صارت أطراف العكن ثمانيا ، أربعا من هاهنا ، وأربعا هاهنا .

فإذا أقبلت إليك واستقبلتك ببطنها رأيت لها أربعا ، فإذا أدبرت عنك صارت تلك الأربع ثمانيا من جهة الأطراف المجتمعة ، وهذا فسره كل من تكلم في هذا الحديث ، واستشهد عليه بعضهم بقول النابغة في قوائم ناقته :


على هضبات بينما هن أربع أنخن لتعريس فعدن ثمانيا



يعني أن هذه الناقة إذا رفعت قوائمها أربع ، فإذا انحنت قوائمها وانطوت صارت ثمانيا .

وقد روي هذا الخبر عن سعد بن أبي وقاص بخلاف هذا اللفظ .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا بكر بن عبد الرحمن قال : حدثنا عيسى بن المختار ، ، عن ابن أبي ليلى ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن عامر بن سعد ، عن سعد بن مالك ، أنه خطب امرأة وهو بمكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ليت عندي من رآها ، ومن يخبرني عنها ، فقال رجل مخنث يدعى هيت : أنا أنعتها لك ، إذا أقبلت قلت تمشي على ست ، وإذا أدبرت قلت تمشي على أربع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى هذا إلا منكرا ، ما أراه إلا يعرف أمر النساء . وكان يدخل على سودة ، فنهاه أن يدخل عليها ، فلما قدم المدينة نفاه .

[ ص: 276 ] فكان كذلك حتى أمر عمر فجلد ، فكان يرخص له يدخل المدينة يوم الجمعة فيتصدق ، يعني يسأل الناس ، قاله ابن وضاح .

وأما الواقدي وابن الكلبي فإنهما قد ذكرا أن هيتا المخنث قال لعبد الله بن أبي أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها ، وأمه عاتكة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع : إن افتتحتم الطائف فعليك ببادية ابنة غيلان بن سلمة الثقفي ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كالأقحوان ، إن جلست تثنت ، وإن تكلمت تغنت ، بين رجليها مثل الإناء المكفو ، وهي كما قال قيس بن الخطيم :


تغترق الطرف وهي لاهية     كأنما شف وجهها نزف
بين شكول النساء خلقتها     قصد فلا جبلة ولا قصف
تنام عن كبر شأنها فإذا     قامت رويدا تكاد تنقصف



فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد غلغلت النظر إليها يا عبد الله ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى ، قال : فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له بريهة في قول ابن الكلبي ، قال : ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده ، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى ، ثم كلم فيه بعد ، وقيل له : إنه قد كبر وضعف ، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه ، قال : وكان هيت مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وكان مونا له أيضا ، فمن ثم قيل : الخنث .

[ ص: 277 ] قال أبو عمر : يقال بادية ابنة غيلان بالياء ، وبادنة بالنون ، والصواب عندهم بالياء بادية ، وهو قول أكثرهم ، وكذلك ذكره الزبير بالياء ، فالله أعلم .

وأما قوله : تغنت ، فقالوا : إنه من الغنة لا من الغناء ، أي : كانت تتغنن في كلامها من لينها ورخامة صوتها ، يقال من هذه الكلمة : تغنن الرجل وتغنى ، مثل تظنن وتظنى .

قال ابن إسحاق : وممن استشهد يوم الطائف عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخو سلمة من زمعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية