التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1192 [ ص: 48 ] حديث ثالث لربيعة بن أبي عبد الرحمن مسند صحيح

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : كانت في بريرة ثلاث سنن ، وكانت إحدى السنن الثلاث أنها أعتقت فخيرت في زوجها ، وقال النبي عليه السلام : الولاء لمن أعتق ، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والبرمة تفور بلحم ، فقرب إليه خبز ، وأدم ( ( من أدم ) ) البيت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألم أر البرمة فيها لحم ؟ فقيل : بلى يا رسول الله ، لحم تصدق به على بريرة ، وأنت لا تأكل الصدقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عليها صدقة ، وهو لنا هدية .


قال أبو عمر :

قد أكثر الناس في تشقيق معاني الأحاديث المروية في قصة [ ص: 49 ] بريرة ، وتفتيقها ، وتخريج وجوهها :

فلمحمد بن جرير في ذلك كتاب ، ولمحمد بن خزيمة في ذلك كتاب ، ولجماعة في ذلك أبواب ، أكثر ذلك تكلف ، واستنباط ، واستخراج محتمل ، وتأويل ممكن لا يقطع بصحته ، ولا يستغنى عن الاستدلال عليه .

والذي قصدته عائشة - رضي الله عنها - في هذا الحديث هو عظم الأمر في قصة بريرة ; لأن ذلك أصول ، وأحكام ، وأركان من الحلال والحرام ، وأنا أورد في تلك المعاني من البيان ما يوقف الناظر على بلوغ المراد منها ، وبالله التوفيق .

وقد تقصينا القول فيما توجبه ألفاظ حديث بريرة من الأحكام والمعاني في باب حديث هشام بن عروة من هذا الكتاب ، والحمد لله .

وقد روي عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في بريرة بأربع قضايا ، وهو على نحو ما قلنا في حديث عائشة هذا .

وحديث ابن عباس : حدثناه سعيد بن نصر ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وأخبرنا عبيد الله بن محمد ، ومحمد بن عبد الملك قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور العسال ، قال : حدثنا عيسى بن مسكين ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر ، قالا : [ ص: 50 ] حدثنا قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا ، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بأربع قضيات ، وذلك أن مواليها شروها واشترطوا الولاء ، فقضى أن الولاء لمن أعطى الثمن ، وخيرها ، وأمرها أن تعتد ، وتصدق عليها بصدقة فأهدت منها إلى عائشة فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : هو لها صدقة ، ولنا هدية .

فأما قول عائشة : إن بريرة أعتقت فخيرت في زوجها فكانت سنة ، ولكن من ذلك سنة مجتمع عليها ، ومنها ما اختلف فيه : فأما المجتمع عليه الذي لا خلاف بين العلماء فيه ، فهو أن الأمة إذا أعتقت تحت عبد قد كانت زوجت منه ; فإن لها الخيار في البقاء معه أو مفارقته ، فإن اختارت المقام في عصمته لزمها ذلك ، ولم يكن لها فراقه بعد ، وإن اختارت مفارقته فذلك لها ، هذا ما لا خلاف علمته فيه .

واختلف الفقهاء في وقت خيار الأمة إذا أعتقت .

فقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وسائر العراقيين : إذا علمت بالعتق ، وبان لها الخيار ، فخيارها على المجلس .

وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي : إذا جامعها ( ( وهي لا تعلم بالعتق فلها الخيار لأنها جومعت ولا تعلم ، فإن علمت فجامعها ) ) بعد العلم فلا خيار لها .

[ ص: 51 ] قال الثوري : فإن ادعت الجهالة حلفت ، ثم يكون لها الخيار .

( ( وقال مالك ، وأصحابه ، والشافعي ، ومن سلك سبيله ، والأوزاعي : لها الخيار ) ) ما لم يمسها زوجها .

قال الشافعي : لا أعلم في ذلك وقتا إلا ما قالته حفصة - رضي الله عنها - .

قال أبو عمر :

روي عن حفصة ، وعبد الله ابني عمر رضي الله عنهما : أن للأمة الخيار إذا أعتقت ما لم يمسسها زوجها .

( ( قال مالك : فإن مسها زوجها فادعت أنها جهلت أن لها الخيار ، فإنها تتهم ولا تصدق بما ادعت من الجهالة ، ولا خيار لها بعد أن يمسها ) ) هذا قوله في الموطأ .

وجملة قوله ، وقول أصحابه : لا ينقطع خيارها إذا أعتقت حتى يطأها زوجها بعد علمها بعتقها ، أو توقف فتختار ، ولا توقف بعد المسيس ، ولا يمين عليها ، وإذا صحت جهالتها بعتقها ، فلا يضرها مسه لها .

وقال الشافعي : إن أصابها زوجها ، فادعت الجهالة ففيها قولان :

[ ص: 52 ] أحدهما : لا خيار لها .

والآخر : أن لها الخيار ، وتحلف ، وهو أحب إلينا .

وقال الأوزاعي : إذا لم تعلم أن لها الخيار حتى غشيها زوجها ، ثم علمت ، فلها الخيار ، وهذا كقول مالك .

وروى مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير : أن مولاة لبني عدي ، يقال لها زبراء أخبرته أنها كانت تحت عبد ، وهي أمة يومئذ ، فعتقت ، قالت : فأرسلت إلي حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فدعتني فقالت : إني مخبرتك خبرا ، ولا أحب أن تصنعي شيئا ، إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك ، فإن مسك فليس لك من الأمر شيء ، قالت : فقلت : هو الطلاق ، ثم الطلاق ، ثم الطلاق ، ففارقته ثلاثا . وحدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يقول في الأمة تكون تحت العبد فتعتق : إن لها الخيار ما لم يمسها .

قال أبو عمر :

لا أعلم لابن عمر ، وحفصة في ذلك مخالفا من الصحابة ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة بريرة من حديث ابن عباس ما فيه دليل واضح على ما ذهبنا إليه .

وروى سعيد بن منصور ، عن هشيم ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما خيرت بريرة ، رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ، ودموعه تسيل على لحيته ، فكلم الناس له رسول [ ص: 53 ] الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب إليها ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : زوجك وأبو ولدك ، فقالت : أتأمرني يا رسول الله فقال : إنما أنا شافع فقالت : إن كنت شافعا فلا حاجة لي فيه ، واختارت نفسها ، وكان يقال له مغيث ، وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم .

ففي هذا الحديث مرورها في السكك ، ومراجعتها النبي عليه السلام ، ولم يبطل ذلك خيارها ، فبطل قول من قال : إن خيارها إنما هو ما داما في مجلسهما .

واختلف الفقهاء أيضا في فرقة المعتقة إذا اختارت فراق زوجها .

فقال مالك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد : هو طلاق بائن .

قال مالك : هي تطليقة بائنة إلا أن تطلق نفسها ثلاثا ، فإن طلقت نفسها ثلاثا فذلك لها ، ولها أن تطلق نفسها ما شاءت من الطلاق ، فإن طلقت نفسها واحدة فهي بائنة .

قال أبو عمر :

حديث ابن شهاب ، عن عروة في قصة بريرة دليل على صحة ما قلنا ، وما ذهب إليه مالك في أن لها أن توقع من الطلاق ما [ ص: 54 ] شاءت ، وقد قال قوم من العلماء : إنها لا تطلق نفسها إلا واحدة بائنة ، وقد روي ذلك عن مالك ، وقال به بعض أصحابه .

والمشهور عنه وعن جملة أصحابه ما قدمنا من مذهبه على حديث زبراء ، وهو أصل لا يدفع ; لأنه لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة أنكر عليها ذلك ، وقد كان كثير من الصحابة في حياة حفصة متوافرين ، وفي القياس : من كان له أن يوقع طلقة كان له أن يوقع ثلاثا .

قال أبو عمر :

قد احتج بهذا الحديث من أصحابنا من أجاز لها أن توقع الثلاث تطليقات ( ( في اختيارها نفسها ، وليس ذلك على أصل مذهب مالك ) ) من وجهين :

أحدهما : إنه لا يجب لأحد إيقاع الثلاث مجتمعات ؟

والثاني : إنه طلاق معلق بعبد ، لا مدخل فيه للثلاث ; لأن الطلاق منوط بأحوال الرجال لا بالنساء ، وطلاق العبد إنما هو تطليقتان .

وقد حكى أبو الفرج أن مالكا لا يجيز لها أن توقع إلا واحدة فتكون بائنة ، أو تطليقتين ، فلا تحل له إلا بعد زوج ، وهو أصل مالك .

وروي عن بعض العلماء أنها طلقة رجعية .

قال الأوزاعي : لو أعتق زوجها في عدتها ، فإن بعض شيوخنا يقول : هو أملك بها ، وبعضهم يقول : هي بائنة .

[ ص: 55 ] وقد روى ابن نافع ، عن مالك : أن للعبد الرجعة إن أعتق ، قال ابن نافع : ولا أرى ذلك ، ولا رجعة له وإن أعتق .

وروى عيسى ، عن ابن القاسم في الأمة تعتق ، وهي حائض قال : لا تختار نفسها حتى تطهر ، قال : وإن أعتق زوجها قبل أن تطهر فلا أرى ذلك يقطع خيارها ; لأنه قد وجب لها الخيار ، وإنما منعها منه الحيض .

وقال ابن عبدوس : لا خيار لها إذا أعتق قبل أن تطهر وتختار نفسها .

قال أبو عمر :

لا معنى لقول من قال : إنها طلقة رجعية ; لأن زوجها لو ملك رجعتها لم يكن لاختيارها معنى ، وأي شيء كان يفيدها فرارها عن زوجها ، ومفارقتها إياه بتطليقها نفسها ، وهو يملك رجعتها ، هذا ما لا معنى له ; لأنها إنما اختارت نفسها لتخلصها من عصمته ، فلو ملك رجعتها لم تتخلص منه ، وإذا استحال ذلك فمعلوم أن الطلاق إذا وقع بائنا لم يكن رجعيا بعد ، وكيف يكون بائنا عند وقوعه ، وتكون لزوجها رجعتها إن أعتق ؟ هذا محال ، ومثله في الضعف قول ابن القاسم أن لها الخيار ، وزوجها قد أعتق ، وكيف يكون ذلك ، والعلة الموجبة لها الاختيار قد ارتفعت ؟ ألا ترى أنها لو أعتقت تحت حر لم يكن لها عنده وعند جمهور أهل المدينة خيار ، فكذلك إذا لم تختر نفسها حتى عتق فلا خيار لها ; لأن الرق قد زال .

وقال الثوري ، والحسن بن حي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وأصحابه : إن اختارت الأمة المعتقة نفسها فهو فسخ بغير طلاق ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وإسحاق .

[ ص: 56 ] وقال ابن أبي أويس : سئل مالك عن الجارية ، نصفها حر ، ونصفها مملوك ، يخطبها العبد فتأبى أن تتزوجه ، فيسألها سيدها ذلك فتطاوعه ، ثم تعتق بعد ذلك ، أترى لها الخيار ؟ قال : نعم إني لأرى ذلك لها ، فقيل : إنه لم يكن لها أن تأبى التزويج ، ولا يكرهها سيدها على ذلك ، قال : بلى ، قيل له : فكيف يكون لها الخيار ؟ قال : هي في حالها حال أمة ، وإنما ذلك بمنزلة ما لو أن أمة ليس فيها عتق ، طلبت إلى سيدها أن يزوجها عبدا ففعل ، فزوجها ، فلها الخيار ، فقيل له : إن هذه لو شاءت لم تفعل ، والأخرى لم يكن لها أن تأبى ، وهذه قد طاوعت ، ولم يكن ليجبرها على النكاح قال : لكنها في حالها كلها في حدودها ، وكشف شعرها كالأمة ، فما أرى إلا أن يكون لها الخيار .

واختلفوا أيضا في الأمة تعتق تحت الحر ، فقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والحسن بن صالح : لها الخيار حرا كان زوجها أو عبدا ، ومن حجتهم أن الأمة لم يكن لها في إنكاحها رأي من أجل أنها كانت أمة ، فلما عتقت كان لها الخيار ، ألا ترى إلى إجماعهم على أن الأمة يزوجها سيدها بغير إذنها من أجل أموتها ، فإذا كانت حرة كان لها الخيار .

قالوا : وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخيير بريرة ثم عتقها ما فيه كفاية ، ولم يقل لها : إن خيارك إنما وجب لك من أجل أن زوجك عبد ، فواجب لها الخيار أبدا متى ما عتقت تحت حر ، وتحت عبد ، على عموم الحديث .

[ ص: 57 ] ورووا عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة : أن زوج بريرة كان حرا ، وعن سعيد بن المسيب مثله .

واحتجوا أيضا بما روي في بعض الآثار في قصة بريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها : قد ملكت نفسك فاختاري قالوا : فكل من ملكت نفسها اختارت ، وسواء كانت تحت حر أو عبد ، وادعوا أن قول من قال : إن زوج بريرة كان حرا أولى ; لأن الرق ظاهر بزعمهم ، والحرية طارئة .

ومن أنبأ عن الباطن كان أولى .

وقال مالك ، وأهل المدينة ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، والشافعي ، وابن أبي ليلى : إذا أعتقت الأمة تحت حر فلا خيار لها ، وهو قول أحمد ، وإسحاق ، ومن حجتهم : أنها لم يحدث لها حال ترتفع بها عن الحر ، فكأنهما لم يزالا حرين ، ولما لم ينقص حال الزوج عن حالها ، ولم يحدث به عيب لم يكن لها خيار .

وقد أجمع الفقهاء أن لا خيار لزوجة العنين إذا ذهبت العنة ، وكذلك زوال سائر العيوب تنفي الخيار .

وأما حجتهم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبريرة : قد ملكت نفسك فاختاري فإنه خطاب ورد فيمن كانت تحت عبد ; فأما من أعتقت تحت حر فلا تملك بذلك نفسها ; لأنه ليس هناك شيء يوجب ملكها لنفسها .

وأما رواية الأسود بن يزيد ، عن عائشة : أن زوج بريرة كان حرا فقد عارضه عن عائشة من هو مثله ، وفوقه ، وذلك القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير رويا عن عائشة : أن زوج بريرة كان [ ص: 58 ] عبدا ، والقلب إلى رواية اثنين أشد سكونا منه إلى رواية واحد ، فكيف وقد روي عن ابن عباس ، وابن عمر أن زوج بريرة كان عبدا .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : ( ( أن زوج بريرة كان عبدا حين أعتقت ) ) .

وذكر ابن أبي شيبة ، عن عفان ، عن همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا يسمى مغيثا .

وقال : أبو بكر أيضا ، عن الحسين بن علي ، عن زائدة ، عن سماك بن حرب ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة : أن زوج بريرة كان عبدا .

حدثني عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا إبراهيم بن [ ص: 59 ] طيفور ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، عن أسامة بن زيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة : أن زوج بريرة كان عبدا .

وذكر حديث عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : إذا أعتقت تحت حر فلا خيار لها .

وفي تخيير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة بعد أن بيعت من عائشة دليل على أن بيع الأمة ليس بطلاق لها ، وفي ذلك بطلان قول من قال : بيع الأمة طلاقها ; لأن بيعها لو كان طلاقا لم يخيرها [ ص: 60 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن تبقى مع من طلقت عليه أو تطلق نفسها ; لأنه محال أن تخير وهي مطلقة ، وهذا واضح يغني عن الإكثار فيه ، وهذا القول يروى عن بعض الصحابة ، وأكثر الفقهاء على خلافه بحديث بريرة هذا - والله أعلم - ، وقد وضحنا هذا المعنى في باب هشام بن عروة .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : الولاء لمن أعتق فإنه يدخل في قوله من أعتق : كل مالك نافذ أمره ، مستقر ملكه ، من الرجال والنساء البالغين ، إلا أن النساء ليس لهن من الولاء إلا ما أعتقن ، أو الولاء عتق من أعتق ; لأن الولاء للعصبات ، وليس لذوي الفروض مدخل في ميراث الولاء ، إلا أن يكونوا عصبة ، وليس النساء بعصبة .

روى ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري أنه أخبره عن سالم أن ابن عمر : كان يورث موالي عمر دون بنات عمر ، وروي عن زيد بن ثابت معناه ، وعليه جماعة أهل العلم ، ولا يستحق الولاء من العصبات إلا الأقرب فالأقرب ، ولا يدخل بعيد على قريب ، وإن قربت قراباتهم ، فأقرب العصبات الأبناء ثم بنوهم ، وإن سفلوا ، ثم الأب ; لأنه ألصق الناس به بعد ولده وولد ولده ، ثم الإخوة لأنهم بنو الأب ، ثم بنو الإخوة ، وإن سفلوا ، ثم الجد أب الأب ، ثم العم ; لأنه ابن الجد ، ثم بنو العم ; فعلى [ ص: 61 ] هذا التنزيل ميراث الولاء ، وعلى هذا المجرى يجري ميراث الولاء ، وما أحرز الأبناء والآباء من الولاء ، فهو لعصبتهم .

حدثني سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو أسامة ، عن حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : تزوج زياد بن حذيفة بن سعيد بن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية ، فولدت ثلاثة أولاد ، فتوفيت أمهم فورثها بنوها رباعها ، وولاء مواليها ، فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام ، فماتوا في طاعون عمواس ، فورثهم عمرو ، ( ( وكان عصبتهم ) ) فلما رجع عمرو جاءه بنو معمر يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب ، فقال عمر : أقضي بينكم بما سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما أحرز الولد أو الوالد فهو لعصبته من كان فقضى لنا ، وكتب بذلك كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وآخر ، حتى إذا استخلف عبد الملك بن مروان توفي مولى لها ، وترك ألف دينار ، وبلغني أن ذلك القضاء قد غير فخاصموه إلى هشام [ ص: 62 ] بن إسماعيل فرفعه إلى عبد الملك بن مروان ، فأتيناه بكتاب عمر فقال : إن كنت لأرى أن هذا من القضاء الذي لا يشك فيه ، وما كنت أرى أمرا بالمدينة بلغ هذا أن يشكوا في القضاء به ، فقضى لنا به فلم ننازع فيه بعد .

وهذا صحيح حسن غريب ، فقال يعقوب بن شيبة : ما رأيت أحدا من أصحابنا ممن ينظر في الحديث ، وينتقي الرجال ، يقول في عمرو بن شعيب شيئا ، وحديثه عندهم صحيح ، وهو ثقة ثبت ، والأحاديث التي أنكروا من حديثه إنما هي لقوم ضعفاء زوروها عنه ، وما روى عنه الثقات فصحيح قال : وسمعت علي بن المديني يقول : قد سمع أبوه شعيب من جده عبد الله بن عمرو قال علي : وعمرو بن شعيب عندنا ثقة ، وكتابه صحيح ، وحسين المعلم ثقة عندهم جميعهم .

وأما اختلافهم في الولاء للكبير ، فذكر إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا هشام قال : حدثنا المغيرة ، عن إبراهيم أن عليا ، وابن مسعود ، وزيدا كانوا يقولون : الولاء للكبير .

قال : وحدثنا حجاج قال : حدثنا هشام ، عن الأشعث ، عن الشعبي ، عن علي ، وابن مسعود ، وزيد مثل ذلك .

قال إسماعيل : فأوجب هؤلاء الولاء للأقرب فالأقرب خاصة ، ولم يجعلوه مشتركا على طريق الفرائض .

[ ص: 63 ] قال : وحدثنا حجاج قال : حدثنا أبو عوانة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في أخوين ورثا مولى كان أعتقه أبوهما ، فمات أحد الأخوين ، وترك ولدا قال : كان شريح يقول : من ملك شيئا حياته ، فهو لورثته من بعده ، قال : وكان علي ، وعبد الله ، وزيد يقولون : الولاء للكبير .

قال أبو عمر :

على قول علي ، وعبد الله ، وزيد جمهور فقهاء الأمصار ، وأكثر أهل العلم يقولون : إن الولاء لا يجوز في الميراث إلا لأقرب الناس للمعتق يوم يموت الموروث المعتق ، وأنه ينتقل أبدا لهذه الحال .

قال إسماعيل : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد ، عن قتادة أن شريحا قال في رجل ترك جده ، وابنه ، ومولى قال : للجد السدس من الولاء ، وما بقي فللابن .

قال قتادة ، وقال زيد : الولاء للابن كله .

قال أبو عمر :

وعليه الناس اليوم .

وقال إسماعيل : وحدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : سألت إياس بن معاوية عن رجل ترك جده ، وابنه ، ومولاه ، فقال : الولاء للابن ، وقال : كل إنسان له فريضة مسماة ، فليس له من الولاء شيء قال إسماعيل : يعني إياس لا يكون له شيء من الولاء في هذه الحال التي له فيها فريضة مسماة ; لأنه لم يرث في هذا [ ص: 64 ] الموضع من طريق العصبة ، وإن كان قد يكون عصبة في موضع آخر ، فيكون له الولاء .

قال أبو عمر :

أجمع المسلمون على أن المسلم إذا أعتق عبده المسلم عن نفسه ; فإن الولاء له ، هذا ما لا خلاف فيه .

واختلفوا فيمن أعتق عن غيره رقبة بغير إذن المعتق عنه ، ودون أمره ، وكذلك اختلفوا في النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه ، وفي ولاء المعتق سائبة ، وفي ولاء الذي يسلم على يد رجل ، فقالوا في ذلك كله أقاويل شتى :

منهم من قاد أصله فيها اعتمادا على قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الولاء لمن أعتق .

ومنهم من نزع به رأيه ذلك ، وأداه اجتهاده إلى غير ذلك .

وأنا أبين أقوال الفقهاء : فقهاء الأمصار في هذه المسائل ، وأقتصر على ذكرهم في ذلك دون ذكر من قال بقولهم من التابعين قبلهم ، والخالفين بعدهم ، على ما اعتمدنا عليه من أول تأليفنا هذا وقصدناه لئلا نخرج عن شرطنا ذلك إذ كان مرادنا فيه الفرار من التخليط ، والإكثار ، وبالله التوفيق .

فأما عتق الرجل عن غيره فإن مالكا وأصحابه ، إلا أشهب قالوا : الولاء للمعتق عنه ، وسواء أمر بذلك ، أو لم يأمر إذا كان [ ص: 65 ] مسلما ، وإن كان نصرانيا فالولاء لجماعة المسلمين ، وكذلك قال الليث بن سعد في ذلك كله .

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : من أعتق عن غيره فالولاء للمعتق عنه كقول مالك .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : إن قال : أعتق عبدك عني ( ( على مال ذكره ، فالولاء للمعتق عنه ; لأنه بيع صحيح فإذا قال : أعتق عبدك عني بغير مال فأعتقه فالولاء للمعتق ; لأن الآمر لم يملك منه شيئا ، وهي هبة باطل ; لأنها لا يصح فيها القبض .

وقال الشافعي : إذا أعتقت عبدك عن رجل حي أو ميت بغير أمره ، فولاؤه لك ، وإن أعتقته عنه بأمره بعوض أو بغير عوض ، فولاؤه له دونك ، ويجزئه بمال وبغير مال ، وسواء قبله المعتق عنه بعد ذلك أو لم يقبله .

قال الشافعي : ولا يكون ولاء لغير معتق أبدا ، وكذلك قال أحمد ، وداود .

وقال الأوزاعي فيمن أعتق عن غيره : الولاء لمن أعتق .

وأجمعوا أن الوكالة في العتق وغيره جائزة .

وأما أشهب فيجيز كفارة الإنسان عن غيره بأمره ، ولا يجيزها بغير أمره في العتق ، وغير العتق ، وسنذكر ذلك في باب سهيل إن شاء الله .

فأما حجة مالك ، ومن ذهب مذهبه : فمنها ما حدثناه أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، وأحمد بن محمد بن أحمد ، قالا : حدثنا [ ص: 66 ] قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا نعيم بن حماد قال : حدثنا ابن المبارك قال : حدثنا يونس بن يزيد ، عن عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ذكره فيه طول : إن نبي الله أيوب عليه السلام قال في بلائه : إن الله ليعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، ويذكران الله ، فأرجع إلى بيتي ، فأكفر عنهما كراهة أن يذكرا الله إلا في حق .

قال أبو عمر :

هكذا روى هذا الحديث يونس ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ( ( مرسلا ، ورواه نافع بن يزيد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ) ) عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوصله ، وفيه : أن أيوب كان يكفر عن غيره بغير أمره ، ولو لم يجز عند أيوب لم يكفر عنه ، والكفارة قد تكون بالعتق وغيره ; لأنه لم يبلغنا أن شريعة أيوب كانت في كفارة الأيمان على غير شريعتنا ، وإذا جاز العتق للإنسان عن غيره في شريعة أيوب عليه السلام لم ينسخ ذلك في شريعتنا ، إلا بأمر بين ، فالواجب الاقتداء به ; لقول الله عز وجل أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، وقال ابن القاسم : من أعتق عن رجل بغير أمره في كفارة أنه يجزئه .

[ ص: 67 ] قال أبو عمر :

( ( حجتهم في ذلك ما تقدم ) ) ، والقياس على أداء الدين عن غيره بغير إذنه أنه براءة صحيحة .

قال أبو عمر :

إذا صح هذا الأصل صح الولاء للمعتق عنه ; لأنه يستحيل أن تجزئ عنه الكفارة فيما قد وجب عليه والولاء لغيره ، فإذا أجزأت عنه كفارة فالولاء له .

وذكر القاسم بن خلف ، عن أبي بكر الأبهري أنه قال في مسألة ابن القاسم هذه : القياس أن لا يجوز ; لأنه غير جائز أن يفعل الإنسان عن غيره شيئا واجبا عليه لا يصح إلا بنية منه بغير أمره كالحج ، والزكاة ، وكذلك الكفارات ; لأنها أفعال تعبد بها الإنسان ، وليس كذلك الدين لأنه قد يزول عن الإنسان بغير أداء ، وهو أن يبرأ منه .

قال أبو عمر :

ومن حجة من لم يجز العتق عن غيره بغير أمره قوله - صلى الله عليه وسلم - : الولاء لمن أعتق . هذا معناه عندهم أن الولاء لا يكون إلا لمعتق ، والمعتق عنه غير المعتق ، فبطل ذلك عندهم ; لأن الولاء لا ينتقل ، وهو لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ، وغير جائز في الحقيقة أن يضاف إلى الإنسان فعل لم يقصده ، ولم يعلم به ، فلهذا يستحيل أن يقال : إنه وهبه له ، ثم أعتقه عنه من غير توكيل منه ، وأما إذا أمره أن يعتق عبده عنه فأجابه المأمور [ ص: 68 ] إلى ذلك ، ثم أعتق عنه من غير توكيل ، وإنما هي هبة مقبوضة ينفذ فيها التوكيل ، والتسليط ، والمال في ذلك وغير المال سواء ; لأن الهبة والبيع في ذلك سواء .

وأما النصراني يعتق عبده المسلم قبل أن يباع عليه ، فإن مالكا وأصحابه يقولون : ليس له من ولائه شيء ، وولاؤه لجماعة المسلمين ، ولا يرجع إليه الولاء أبدا ، وإن أسلم ، ولا إلى ورثته ، وإن كانوا مسلمين ، وحجة من قال بهذا القول : أن إسلام عبد النصراني يرفع ملكه عنه ، ويوجب إخراجه عن يده ، فلما كان ملكه يرتفع بإسلامه لم يثبت الولاء له بعد عتقه ، وإذا لم يثبت له ثبت لجماعة المسلمين ، وإذا ثبت لهم الولاء لم ينتقل عنهم ; لأنه لحمة كلحمة النسب ، وسواء أسلم سيده بعد ذلك أو لم يسلم ; لأن الولاء قد ثبت لجماعة المسلمين قالوا : والدليل على ارتفاع ملك النصراني عن عبده المسلم عموم قول الله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، وقوله تعالى وأنتم الأعلون ، والحديث : الإسلام يعلو ، ولا يعلى عليه .

[ ص: 69 ] وقال الشافعي ، والعراقيون ، وأصحابهم : إذا أسلم عبد النصراني فأعتقه قبل أن يباع عليه فولاؤه له ، ولورثته من بعده ، فإن أسلم مولاه ، ثم مات المعتق ، ولم يكن له وارث بالنسب ، ورثه معتقه ، وإن لم يسلم لم يرثه لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ، وحجتهم في أن الولاء له عموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الولاء لمن أعتق . لم يخص مسلما من كافر ، ولو لم يكن له عليه ملك ما بيع عليه ، ودفع ثمنه إليه ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ، ولا يوهب .

قال أبو عمر :

روي في هذا الباب حديث ليس بالقوي من جهة الإسناد ، ولكنه قد احتج به من ذهب هذا المذهب ، وهو ما حدثناه إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب الرقي قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : [ ص: 70 ] حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال : حدثنا عمرو بن خالد قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب أن عروة بن غيلان الثقفي أخبره عن أبيه : أن نافع بن السائب كان لغيلان بن سلمة ، ففر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حاصر الطائف ، فأعتقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أسلم غيلان رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولاء نافع إليه .

قال أبو عمر :

كان أهل الطائف حربيين يومئذ ، وما خرج عنهم من أموالهم إلى المسلمين كان للمسلمين ، وجائز أن يكون هذا قبل ( ( نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وهبته ) ) ( ( ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وهبته أقوى من هذا [ ص: 71 ] وبالله التوفيق ) ) ، وقال الشافعي في قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما الولاء لمن أعتق : بيان أن الولاء لا يكون إلا لمعتق ، وهو يوجب أن يكون الولاء لكل معتق كافرا كان أو مسلما ; لأنه قد جعله - صلى الله عليه وسلم - كالنسب ، فكما منع اختلاف الأديان من التوارث مع صحة النسب ، فكذلك منع اختلاف الأديان من التوارث مع صحة الولاء وثبوته ، فإذا اتفقا على الإسلام توارثا ، وليس اختلاف الأديان مما يمنع من الولاء ولا يدفعه ، كما أن اختلاف الأديان لا يمنع النسب ، ولكنه يمنع التوارث كما تمنعه العبودية والقتال عمدا ، قالوا : فولاء المسلم على الكافر ثابت ، وولاء الكافر على المسلم ثابت إذا أعتقه ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الولاء لمن أعتق . قالوا : ولا يزيل إسلام عبد النصراني ملكه عنه ، وإنما يمنع استقراره واستدامته ، ألا ترى أنه إذا بيع عليه ملك ثمنه ، ولو ارتفع ملكه عنه لم يبع عليه ، ولا ملك المبدل منه ، ونظير ذلك ملك الرجل لمن يعتق عليه يمنع من استدامة الرق ، ويعتق عليه بالملك ، فيكون له ولاؤه ، وهذا ما لا خلاف فيه .

ومالك ، وأصحابه يقولون في العبد إذا اشتري اشتراء فاسدا ، فأعتقه المشتري : إن العتق واقع ، والولاء ثابت له ، وإن كان ملكه غير تام ، ولا مستقر .

[ ص: 72 ] قال أبو عمر :

أما المسلم إذا أعتق عبده النصراني ، فلا خلاف بين العلماء أن له ولاءه ، وأنه يرثه إن أسلم إذا لم يكن له وارث من نسبه يحجبه ، فإن مات العبد وهو نصراني ، فلا خلاف علمته أيضا بين الفقهاء أن ماله يوضع في بيت مال المسلمين ، ويجري مجرى الفيء إلا ما ذكره أشهب عن المخزومي ، فإنه قال عنه : إن ميراثه لأهل دينه ، قال : فإن أسلم النصراني ميراثه ، ولم يطلبوه ، ولا طلبه منهم طالب ، أدخلناه بيت مال المسلمين معزولا ، ولا يكون فيئا حتى يرثه الله ، أو يأتي له طالب ، وهذا عندي لا وجه له إلا كون الكفار بعضهم أولياء بعض كما أن المسلمين بعضهم أولياء بعض ، والصحيح في ذلك ما قاله جمهور العلماء أنه يوضع في بيت المال ; لأن ولاءه قد ثبت للمسلمين ولاية نسب ، وهي أقعد من ولاية الدين في وجه المواريث ، إلا أن الشريعة منعت من التوارث بين المسلمين والكفار ، فكان هذا النصراني المعتق قد ترك مالا لا وارث له ، وله أصل في المسلمين عدم مستحقه بعينه ، فوجب أن يصرف في مصالح المسلمين ، ويوقف في بيت مالهم - والله أعلم - .

وأما الحربي يعتق مملوكه ، ثم يخرجان مسلمين ، فإن أبا حنيفة ، وأصحابه قالوا : للعبد أن يوالي من شاء ، ولا يكون ولاؤه للمعتق ، وكذلك عندهم كل كافر أعتق كافرا ، وقال الشافعي : مولاه يرثه إذا أسلم ، واستحسنه أبو يوسف ، وهو قياس قول [ ص: 73 ] مالك في الذمي يعتق ذميا ، ثم يسلمان - وقولهم جميعا وبالله التوفيق .

وأما المعتق سائبة ; فإن ابن وهب روى عن مالك قال : لا يعتق أحد سائبة : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء ، وعن هبته ، وهذا عند كل من ذهب مذهب مالك إنما هو على كراهية السائبة ; لأن كل من أعتق عندهم سائبة نفذ عتقه ، وكان ولاؤه لجماعة المسلمين ، هكذا روى ابن القاسم ، وابن عبد الحكم ، وأشهب ، وغيرهم ، عن مالك ، وكذلك ذكر ابن وهب ، عن مالك في موطئه ، وهو المشهور من مذهبه عند أصحابه ، وقد يحتمل أن يكون قول مالك : لا يعتق أحد سائبة رجوعا عن قوله المعروف - والله أعلم - ولكن أصحابه على المشهور من قوله .

قال مالك في موطئه : ( ( وأحسن ما سمعت في السائبة أنه لا يوالي أحدا ، وأن ولاءه لجماعة المسلمين ، وعقله عليهم ) ) ، وهذا يدلك على تجويزه لعتق السائبة .

وقال ابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك : أنا أكره عتق السائبة ، وأنهى عنه ، فإن وقع نفذ ، وكان ميراثه لجماعة المسلمين ، وعقله عليهم .

[ ص: 74 ] وقال ابن نافع : لا سائبة اليوم في الإسلام ، ومن أعتق سائبة فإن ولاءه له .

وقال أصبغ : لا بأس بعتق السائبة ابتداء .

قال أبو عمر :

أصبغ ذهب في هذا إلى المشهور من مذهب مالك ، وله احتج إسماعيل بن إسحاق القاضي ، وإياه تقلد ، ومن حجته في ذلك : أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم ، وأن عبد الله بن عمر ، وغيره من السلف أعتقوا السائبة ، وأن عمر بن الخطاب قال : السائبة والصدقة ليومهما ، أي لا يتصرف في شيء منهما .

وروى سليمان التيمي ، عن بكر المزني : أن ابن عمر أتي بمال مولى أعتقه سائبة فمات ، فقال : إنا كنا أعتقناه سائبة فأمر أن يشترى به رقاب ، فتعتق ، وروى سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي قال : قال عمر بن الخطاب : السائبة والصدقة ليومهما .

[ ص: 75 ] وروى ابن عيينة ، عن الأعمش ، ولم يسمعه منه ، قال : سمعت إبراهيم يقول : أتى عبد الله رجل بمال فقال : خذ هذا فقال : ما هو ؟ قال : مال رجل أعتقته سائبة فمات ، وترك هذا ، قال : فهو لك قال : ليس لي فيه حاجة قال : وطرحه عبد الله في بيت المال .

( قال أبو عمر :

وهذا إن صح لم يكن فيه حجة لأن ابن مسعود قال : هو لك ، ولم يقل لجماعة المسلمين ، وإنما جعله في بيت المال ) ) ; لأن ذلك حكم كل مال يدفعه ربه عن نفسه إلى غير مالك معين ، وكذلك فعل عمر بن الخطاب في طارق بن المرقع ، ذكره وكيع ، عن بسطام بن مسلم ، عن عطاء بن أبي رباح : أن طارق بن المرقع أعتق عبدا له فمات ، وترك مالا ، فعرض على طارق فأبى فقال : إنما جعلته لله ، ولست آخذ ميراثه ، فكتب فيه إلى عمر ، فكتب عمر : أن اعرضوا على طارق الميراث فإن قبله ، وإلا فاشتروا به رقيقا ، [ ص: 76 ] فأعتقوهم فبلغ خمس عشرة أو ست عشرة رأسا ، وأما أهل المدينة فأكثرهم على أن السائبة ميراثه لجماعة المسلمين ، وممن روي هذا عنه منهم ابن شهاب ، وربيعة ، وأبو الزناد ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وأبي العالية ، وعطاء ، وعمرو بن دينار .

وقال سفيان الثوري في قول عمر السائبة ليومها قال : يعني يوم القيامة لا يرجع في شيء منها إلى يوم القيامة .

وذكر ابن وهب ، عن أسامة بن زيد ، عن نافع : أن ابن عمر كان إذا أعتق سائبة لم يرثه ، ولا يختلف في أن سالما مولى أبي حذيفة أعتقته مولاته ليلى أو لبنى بنت يعار ، وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة فأعتقته سائبة ، ولم يقل أحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك ، ثم مات ، وترك ابنته ، فأعطاها عمر بن الخطاب نصف ماله ، وجعل النصف في بيت المال ، والذي لم يختلف فيه من أمر سالم مولى أبي حذيفة أنه أعتق سائبة ، ولا خلاف أنه قتل يوم اليمامة ، وإنما [ ص: 77 ] نسب القضاء فيه إلى عمر ; لأنه كان بأمر أبي بكر ، وكان عمر القاضي لأبي بكر ، وقد روي أن عمر جعل ميراثه لابنته لما امتنع مواليه من قبول ميراثه ; إذ كان سائبة ، وروي أنها أعتقته سائبة فوالى أبا حذيفة ، وقال الشعبي : ترك سالم مولى أبي حذيفة ابنته ، ومولاته ليلى بنت يعار امرأة أبي حذيفة بن عتبة ، فورث أبو بكر البنت النصف ، وعرض الباقي على مولاته ، فقالت : لا أرجع في شيء من أمر سالم ، إني جعلته لله ، فجعل أبو بكر رضي الله عنه النصف الباقي في سبيل الله ، وهذا أولى من رواية من روى أن عمر حكم بذلك ، إلا بما وجهنا من أمر أبي بكر له بذلك - والله أعلم - .

وروي عن عمر ، وابن مسعود أنهما قالا : يعرض مال المعتق سائبة على الذي أعتقه ، فإن تحرج عنه ، اشتري به رقاب وأعتقوا .

وعن أبي عمرو الشيباني ، عن ابن مسعود قال : يضع السائبة ماله حيث شاء .

وقال أبو العالية ، والزهري ، ومكحول ، ومالك بن أنس ، لا ولاء عليه ، ويرثه المسلمون .

وقال مالك رحمه الله : السائبة لا يوالي أحدا ، وولاؤه لجماعة المسلمين ، وحجته في أنه لا يوالي أحدا قوله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 78 ] الولاء لمن أعتق ، ومعلوم أن من تولاه السائبة لم يعتقه ، فكيف يكون له ولاؤه .

وقال ابن شهاب ، والأوزاعي ، والليث بن سعد : له أن يوالي من شاء ، فإن مات ولم يوال أحدا ، كان ولاؤه لجماعة المسلمين ، ومن حجتهم في ذلك قول عمر رحمه الله : لك ولاؤه في المنبوذ ، قالوا : فقام الصغير مقامه لنفسه ، لو ميز موضع الاختيار لها ، والدفع عنها ، فجاز بذلك للكبير أن يوالي من شاء إذا لم يكن له عليه ولاء ، وهؤلاء كلهم يجيزون عتق السائبة ، ويجعلون الولاء للمسلمين ، وحجتهم ما ذكرناه من عمل أهل المدينة قرنا بعد قرن في زعم المحتج بذلك ، ولأنه في معنى من أعتق عن غيره ، فيكون الولاء له ، ومن أعتق عبده سائبة فقد أعتقه عن جماعة المسلمين ; فلذلك صار الولاء لهم قالوا : وإنما يكون الولاء لمن أعتق إذا أعتق عن نفسه ، فهذا ما احتج به إسماعيل ، وغيره في عتق السائبة .

وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما : من أعتق سائبة فولاؤه له ، وهو يرثه دون الناس ، وهو قول الشافعي ، وعطاء ، والحسن ، وابن سيرين ، وضمرة بن حبيب ، وراشد بن سعد ، وبه يقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم .

وحجتهم في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما الولاء لمن أعتق ، فنفى بذلك أن يكون الولاء لغير معتق ، ونهى عليه السلام عن بيع الولاء وهبته .

[ ص: 79 ] واحتجوا أيضا بقول الله عز وجل ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، والحديث : لا سائبة في الإسلام ، وبما رواه أبو قيس ، عن هذيل بن شرحبيل قال : قال رجل لعبد الله بن مسعود : إني أعتقت غلاما لي سائبة فمات ، وترك مالا فقال عبد الله : ( ( إن أهل الإسلام لا يسيبون ، إنما كانت تسيب الجاهلية ، أنت وارثه ، وولي نعمته ) ) .

وقد روى ابن جريج ، عن عطاء : أن طارق بن المرقع كان أميرا على مكة ، فأعتق سوائب فماتوا ، فجاءوا بالميراث إلى عمر فقال : أعطوه ورثته ، فأبى الورثة أن يقبلوه ، فاشتروا به رقابا فأعتقوهم .

قال أبو عمر :

روى شعبة ، عن سلمة بن كهيل قال : سمعت أبا عمرو الشيباني قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : السائبة يضع ماله حيث شاء ، وهذا معناه أن المعتق له سائبة لم يكن حيا ، ولا عصبته ، ومن كانت هذه حاله فمذهب ابن مسعود فيه ، وفي كل من لا وارث له : أنه يضع ماله حيث شاء ، وأجاز له أن يوصي [ ص: 80 ] بماله لمن شاء ، وهو قول مسروق ، وعبيدة ، والشعبي ، وأكثر أهل العراق .

وأما الذي يسلم على يد رجل أو يواليه ، فإن مالكا ، وأصحابه ، وعبد الله بن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحابه قالوا : لا ميراث للذي أسلم على يديه ، ولا ولاء له بحال ، وميراث ذلك المسلم إذا لم يدع وارثا لجماعة المسلمين ، وهو قول أحمد ، وداود ، ولا ولاء إلا للمعتق .

وحجتهم في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الولاء لمن أعتق ، قالوا : وهذا غير معتق ، فكيف يكون لهؤلاء ولاء من أسلم على يديه .

ومن حجتهم أيضا أن الميراث بالمعاقدة منسوخ ، فبطل بذلك أن يوالي أحد أحدا ; لأن الولاء نسب .

قال أشهب عن مالك : جاء رجل من أهل مصر ذكر أن في يده ألف دينار من مال رجل هلك ، وقد أسلم على يديه ، فقيل له : ليس لك هذا ، فلا أراه إلا ردها ، قال أشهب : الرجل الذي جاء هو موسى بن علي بن رباح .

وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن : إذا أسلم كافر على يد رجل مسلم بأرض العدو ، أو بأرض المسلمين ، فميراثه للذي أسلم على يديه .

[ ص: 81 ] وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : إذا كان من أرض العدو فجاء فأسلم على يدي رجل ; فإن ولاءه لمن والاه ، ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل مسلم فولاؤه للمسلمين عامة .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ، ثم مات ، ولا وارث غيره فميراثه له .

وقال الليث بن سعد : من أسلم على يدي رجل فقد والاه ، وميراثه للذي أسلم على يديه إذا لم يدع وارثا غيره .

وحجة من قال بهذا القول : ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الله بن داود ، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن [ ص: 82 ] عبد الله بن موهب ، عن تميم الداري قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المشرك يسلم على يدي الرجل المسلم فقال : هو أحق الناس وأولى الناس بمحياه ومماته ، قال عبد العزيز : [ ص: 83 ] فحدث به ابن موهب عمر بن عبد العزيز فشهدته قضى بذلك في رجل أسلم على يدي رجل مسلم فمات ، وترك مالا وابنة ، فقسم ماله بينه وبين ابنته ، فأعطى الابنة النصف ، وأعطى الذي أسلم على يديه النصف .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : قضى عمر بن الخطاب في رجل والى قوما ، فجعل ميراثه لهم ، وعقله عليهم ، قال معمر : وقال الزهري : إذا لم يوال أحدا ورثه المسلمون .

قال أبو عمر :

في هذه المسألة أقوال :

أحدها : ما قدمنا ، عن مالك ، والشافعي ، ومن تابعهما ، أنه لا يكون ولاؤه ولاء ميراث لمن أسلم على يديه ، وسواء والاه أو لم يواله .

وقول آخر : إذا أسلم على يديه ورثه ، وإن لم يواله ، روي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال الليث بن سعد : [ ص: 84 ] جعل إسلامه على يديه موالاة .

ومن حجة من ذهب إلى هذا حديث تميم الداري المذكور ، وما رواه حماد بن سلمة ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبي أمامة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أسلم على يدي رجل فله ولاؤه .

[ ص: 85 ] وذكر سعيد بن منصور ، عن عيسى بن يونس ، عن الأحوص بن حكيم ، عن راشد بن سعد ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أسلم على يديه رجل فهو مولاه ، وهي آثار ليست بالقوية ومراسيل .

وقالت طائفة : إذا والى رجل رجلا وعاقده ، فهو يعقل عنه ، ويرثه إذا لم يخلف ذا رحم .

وروي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود : أنهم أجازوا الموالاة ، وورثوا بها ، وعن عطاء ، والزهري ، ومكحول نحوه .

وقالت طائفة : إن عقل عنه ورثه ، وإن لم يعقل عنه لم يرثه .

[ ص: 86 ] روي عن سعيد بن المسيب : أيما رجل أسلم على يدي رجل فعقل عنه ورثه ، وإن لم يعقل عنه لم يرثه .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا والاه على أن يعقل عنه ، ( ( ويرثه عقل عنه وورثه إذا لم يخلف وارثا معروفا ، قالوا : وله أن ينقل ولاءه عنه ما لم يعقل عنه ) ) ، أو عن أحد ولده ، وللموالي أن يبرأ من ولائه بحضرته ما لم يعقل عنه ، قالوا : وإن أسلم على يدي رجل ولم يواله لم يرثه ، ولم يعقل عنه ، وهو قول الحكم ، وحماد ، وإبراهيم ، وهذا كله فيمن لا تعرف له عصبة ، ولا ذو رحم يرث بها .

وأما قوله في الحديث : ألم أر برمة فيها لحم ؟ فقيل : بلى يا رسول الله ، ولكن ذلك لحم تصدق به على بريرة ، وأنت لا تأكل الصدقة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - هو عليها صدقة ، وهو لنا هدية ففيه إباحة أكل اللحم ، وهو يرد قول من كرهه من الصوفية والعباد ، ويبين معنى قول عمر : ( ( إياكم واللحم ; فإن له ضراوة كضراوة الخمر ) ) ، وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : سيد إدام الدنيا والآخرة اللحم ، وسيأتي من هذا المعنى ذكر عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : نكب عن ذات الدر في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله .

ذكر الحسن بن علي ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، [ ص: 87 ] قال : حدثنا بكار بن عبد العزيز بن بريد الكندي ، قال : حدثنا غالب القطان قال : كان للحسن كل يوم لحم بنصف درهم ، وما وجدت مرقة قط أطيب ريحا من مرقة الحسن ، ( ( قال : وحدثنا عائذ قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب قال : ما وجدت مرقة أطيب ريحا من مرقة الحسن ) ) .

قال : وحدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا أبو هلال قال : ما دخلنا على الحسن قط إلا وقدره تفور بلحم طيبة الريح ، [ ص: 88 ] قال : ودخلت يوما على محمد ، وهو يأكل متكئا من سمك صغار .

وفي هذا الحديث أيضا : أن الصدقة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأكلها ، وكان يأكل الهدية ، وأجمع العلماء أن الصدقة كانت لا تحل له على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لآل محمد ، وأنه كان يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة .

حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو طالب محمد بن زكرياء المقدسي قال : حدثنا عبيد بن الغازي أبو ذهل قال : حدثنا أبو عاصم النبيل قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ، وكان لا يقبل الصدقة .

وقالت طائفة من أهل العلم : إن صدقة التطوع كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتنزه عنها ، ولم تكن عليه محرمة .

وقال آخرون : وهم أكثر أهل العلم : كل صدقة فداخلة تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن الصدقة لا تحل لنا ، واستدلوا بأنه كان عليه السلام لا يأكل صدقة التطوع ، وقالوا في اللحم الذي [ ص: 89 ] تصدق به على بريرة أنه كان من صدقات التطوع ; لأن المعروف في الصدقات المفروضات أنها لا تفرق لحما ، وإنما تفرق لحما لحوم الأضحية ، والعقيقة ، وغير ذلك من التطوع .

قال أبو عمر :

أما تحريم الصدقة المفترضة عليه وعلى أهله ، فأشهر عند أهل العلم من أن يحتاج فيها إلى إكثار ، ونحن نذكر هاهنا من ذلك ما فيه كفاية إن شاء الله .

وذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لأدخل بيتي فأجد التمرة ملقاة على فراشي ، فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها .

وروى حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمر بالتمرة فما يمنعه من أخذها إلا مخافة أن تكون صدقة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، ويعيش بن سعيد قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو بكر بن أبي العوام قال : حدثنا [ ص: 90 ] أبو عاصم النبيل قال : حدثنا ثابت بن عمارة ، عن ربيعة بن شيبان قال : قلت للحسن بن علي : هل حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ؟ قال : نعم ، دخلت غرفة الصدقة فأخذت تمرة من تمر الصدقة ، فألقيتها في فمي فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - انزعها فإن الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لأهله .

[ ص: 91 ] روى شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بتمر من تمر الصدقة ، فتناول الحسن بن علي منها تمرة فلاكها ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كخ ، إنه لا تحل لنا الصدقة .

قال أبو عمر :

أما الصدقة المفروضة ، فلا تحل للنبي عليه السلام ، ولا لبني هاشم ، ولا لمواليهم لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك ، إلا أن بعض أهل العلم قال : إن موالي بني هاشم لا يحرم عليهم شيء من الصدقات ، وهذا خلاف الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا شعبة قال : حدثنا الحكم ، عن ابن أبي رافع [ ص: 92 ] عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا من بني مخزوم على الصدقة ، فأراد أبو رافع أن يتبعه ، فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة لا تحل لنا ، وإن مولى القوم منهم .

وأبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واسمه أسلم ، وقيل إبراهيم ، وقيل غير ذلك على ما قد ذكرنا في كتاب الصحابة .

واختلف العلماء أيضا في جواز صدقة التطوع لبني هاشم ، والذي عليه جمهور أهل العلم ، وهو الصحيح عندنا ، أن صدقة التطوع لا بأس بها لبني هاشم ومواليهم ، ومما يدلك على صحة ذلك : أن عليا ، والعباس ، وفاطمة رضي الله عنهم ، وغيرهم [ ص: 93 ] تصدقوا ، وأوقفوا أوقافا على جماعة من بني هاشم ، وصدقاتهم الموقوفة معروفة مشهورة .

ولا خلاف علمته بين العلماء في بني هاشم ، وغيرهم في قبول الهدايا والمعروف سواء ، وقد قال : - صلى الله عليه وسلم - : كل معروف صدقة ، وسنزيد هذا الباب بيانا في أولى المواضع به من كتابنا هذا إن شاء الله .

وأما امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من أكل صدقة التطوع فمشهور ومنقول من وجوه صحاح .

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا زياد بن أيوب ، وحدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن هارون الصباحي قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم [ ص: 94 ] الدروقي قالا : حدثنا أبو عبيدة عبد الواحد بن واصل قال : حدثنا بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بشيء سأل عنه أصدقة أم هدية ؟ فإن قيل : صدقة ، لم يأكل منه ، وإن قيل هدية بسط يده .

وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا مؤمل بن يحيى بن مهدي قال : حدثنا محمد بن جعفر بن حفص بن راشد الإمام قال : حدثنا علي بن المديني قال : حدثنا مكي بن إبراهيم ، ويوسف بن يعقوب السدوسي قالا : حدثنا بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 95 ] كان إذا أتي بهدية قبلها ، وإذا أتي بصدقة أمر أصحابه فأكلوها .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا القاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن موسى قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي قرة الكندي عن سلمان الفارسي ، قال : كنت من أبناء أساورة فارس ، وكنت في كتاب ، وكان معي غلامان ، فإذا أتيا من عند معلمهما ، أتيا قسا ، فدخلا عليه ، فدخلت معهما عليه ، فقال : ألم أنهكما أن تأتياني بأحد ؟ فجعلت أختلف إليه حتى كنت أحب إليه منهما ، فقال لي : إذا سألك أهلك ما حبسك ؟ ، فقل : معلمي ، وإذا سألك معلمك : ما حبسك ؟ فقل : أهلي ، ثم إنه أراد أن يتحول ، فقلت له : أنا أتحول معك ، فتحولت معه فنزلت قرية فكانت امرأة تأتيه ، فلما حضر قال لي : يا سلمان احفر عند رأسي ، فحفرت عند رأسه ، فاستخرجت جرة من دراهم ، فقال لي : صبها على صدري ، فصببتها على صدره ، فجعل يقول : ويل لاقتنائي ، ثم إنه مات ، فهممت بالدراهم أن أحولها ، ثم إني ذكرت قوله فتركتها ، ثم إني أذنت القسيسين والرهبان به ، فحضروه ، فقلت لهم : إنه قد ترك مالا ، فقام شباب من القرية فقالوا : هذا مال أبينا فأخذوه ، قال : فقلت للرهبان : أخبروني برجل [ ص: 96 ] عالم أتبعه ، فقالوا : ما نعلم في الأرض رجلا أعلم من رجل بحمص ، فانطلقت إليه فلقيته ، فقصصت عليه القصة ، قال : وما جاء بك إلا طلب العلم ، قلت : ما كان إلا طلب العلم فقال : إني لا أعلم اليوم في الأرض أحدا أعلم من رجل يأتي بيت المقدس كل سنة ، إن انطلقت الآن وافقت حماره ، فانطلقت فإذا أنا بحماره على باب بيت المقدس ، فجلست عنده ، وانطلق فلم أره حتى الحول ، فجاء فقلت : يا عبد الله ما صنعت بي ؟ قال : وإنك لهاهنا ؟ قلت : نعم ، فإني والله ما أعلم اليوم رجلا أعلم من رجل خرج من أرض تيماء ، وإن تنطلق الآن توافقه ، وفيه ثلاث آيات : يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة ، وعند غرضوف كتفه اليمنى خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة ، لونها لون جلده ، قال : فانطلقت ترفعني أرض ، وتخفضني أخرى ، حتى مررت بقوم من الأعراب فاستعبدوني فباعوني حتى اشترتني امرأة بالمدينة ، فسمعتهم يذكرون النبي عليه السلام ، وكان العيش عزيزا ، فقلت لها : هبي لي يوما ، فقالت : نعم ، فانطلقت فاحتطبت حطبا فبعته فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يسيرا فوضعته بين يديه فقال : ما هذا ؟ فقلت : صدقة ، فقال لأصحابه : كلوا ، ولم يأكل فقلت : هذه [ ص: 97 ] من علاماته ، ثم مكثت ما شاء الله أن أمكث ، ثم قلت لمولاتي : هبي لي يوما فقالت : نعم ، فانطلقت فاحتطبت حطبا فبعته بأكثر من ذلك ، وصنعت طعاما فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بين أصحابه فوضعته بين يديه فقال : ما هذا ؟ فقلت : هدية ، فوضع يده وقال لأصحابه : خذوا باسم الله ، فقمت خلفه فوضع رداءه فإذا خاتم النبوءة ، فقلت : أشهد أنك رسول الله صلى الله عليك فقال : وما ذاك ؟ فحدثته عن الرجل ، ثم قلت : أيدخل الجنة يا رسول الله ؟ فإنه حدثني أنك نبي ، فقال : لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة .

وحدثنا ابن القاسم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن المسور قال : حدثنا مقدام بن داود قال : حدثنا عبد الأحد بن الليث بن عاصم أبو زرعة قال : حدثني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : أن سلمان الخير كان خالط الناس من أصحاب دانيال بأرض فارس قبل الإسلام ، فسمع ذكر النبي عليه السلام وصفته ، فإذا في حديثهم أنه يأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة في أشياء من صفته ، فأراد الخروج في التماسه فمنعه أبوه ، ثم هلك أبوه ، فخرج إلى الشام يلتمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان هناك في كنيسة ، ثم سمع بخروج رسول [ ص: 98 ] الله - صلى الله عليه وسلم - وذكره ، فخرج يريده ، فأخذه أهل تيماء فاسترقوه فقدموا به المدينة فباعوه ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فلما قدم المدينة ، أتاه سلمان بشيء فقال : ما هذا ؟ فقال : صدقة ، فأمر بها فصرفت ، ثم جاء بشيء فقال : ما هذا ؟ فقال : هدية ، فأكل منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأسلم سلمان عند ذلك ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مملوك فقال : كاتبهم بغرس مائة ودية ، فرماه الأنصار من ودية ووديتين فغرسها ، فأقبل يوما آخر ، وإنه لفي سقي ذلك الودي .

وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا مؤمل بن يحيى بن مهدي قال : حدثنا محمد بن جعفر بن حفص الإمام قال : حدثنا علي بن المديني قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنا الحسين بن واقد قال : حدثنا عبد الله بن يزيد ، عن أبيه : أن سلمان أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة فقال : صدقة عليك وعلى أصحابك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا لا تحل لنا الصدقة فدفعها ، ثم جاء من الغد بمثلها ، فقال : هذه هدية لك فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : [ ص: 99 ] كلوا قال : ثم اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمان بكذا وكذا درهما من يهود وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يقوم عليه حتى يدرك ، قال : فغرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النخل كله إلا نخلة غرسها عمر قال : فأطعم النخل كله إلا النخلة التي غرسها عمر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من غرس هذه النخلة فقالوا : عمر قال : فقطعها ، وغرسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطعمت من عامها .

حدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا ابن الأصبهاني قال : أخبرنا شريك بن عبيد المكتب ، عن أبي الطفيل ، عن سلمان قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بصدقة فردها ، وأتيته بهدية فقبلها .

وإنما لم تجز صدقة التطوع للنبي عليه السلام - والله أعلم - لأن الصدقة لا يثاب عليها صاحبها ; لأنه لا يبتغي بها إلا الآخرة ، وأبيحت له الهدية ; لأنه يثيب عليها ، ولا تلحقه بذلك منة .

وروى مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو [ ص: 100 ] لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني ، وهذا في معنى حديث بريرة سواء في قوله عليه السلام : هو لها صدقة ، ولنا هدية ، وسيأتي هذا الحديث ، ويأتي القول فيه ، وفي إسناده ومعانيه في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا إن شاء الله .

وقوله : لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : يريد الصدقة المفروضة ، وأما على من ذكرنا على حسب ما وصفنا في هذا الباب ، إلا أن التنزه عنها حسن ، وقبولها من غير مسألة لا بأس به ، ومسألتها غير جائزة إلا لمن لم يجد بدا ، وسنبين هذه الوجوه كلها في مواضعها من كتابنا هذا إن شاء الله .

وقد استدل جماعة من أهل العلم على جواز شراء المتصدق صدقته من الساعي إذا قبضها الساعي ، وبان بها إلى نفسه - بحديث بريرة هذا ، وقالوا : شراء الصدقة من الساعي ، ومن المتصدق عليه جائز ; لأنها ترجع إلى مشتريها من غير ملك الجهة ; لأنه ليس بمانع للصدقة ، ولا عائد فيها من وجهها ، وقالوا : كما رجعت الصدقة على بريرة هدية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن بذاك بأس ، وكذلك إذا اشتراها المتصدق بها ، وقالوا : كما أنه لو ورثها لم يكن بذلك عند أهل العلم بأس ، وقيل : [ ص: 101 ] ( ( إن استقاء عمر بن الخطاب اللبن الذي سقيه من نعم الصدقة ، إنما استقاءه لأن الذي سقاه إياه كان من الأغنياء الذين لا تحل لهم الصدقة ، ولا يصح ملكها ، ولو كان ممن تحل له الصدقة ، ويستقر عليها ملكه ، ما استقاءه عمر ; لأنه كان يحل له حينئذ ; لأنه غني أهدى إليه رجل مسكين مما تصدق عليه على حديث بريرة وغيره مما قد ذكرناه في هذا الباب ، والحمد لله .

قال أبو عمر :

أما إهداء المسكين إلى الغني ، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جوازه من حديث عائشة هذا وغيرها ، في قصة بريرة من حديث أبي سعيد الخدري أيضا وغيره ، وكذلك ما رجع بالميراث إلى المتصدق ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جوازه أيضا ، فوجب الوقوف ، ثم ذلك كله على حسب ما نقل عنه من ذلك - صلى الله عليه وسلم - .

وأما شراء الصدقة من المتصدق عليه ، ومن الساعي فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ذلك ، بقوله عليه السلام لعمر في الفرس التي حمل عليها عمر في سبيل الله : لا تشترها ، ولا تعد في صدقتك ، الحديث ، فكيف يجمع بين أمرين فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما إلا أن أهل [ ص: 102 ] العلم حملوا نهيه على شراء الصدقة والعودة فيها على سبيل التنزه عنها لا على سبيل التحريم ، ولما في ذلك من قطع الذريعة ، لئلا يطلق للناس اشتراء صدقاتهم فيشترونها من الساعي والمتصدق عليه قبل القبض ، فيدخل في ذلك بيع ما لم يقبض ، وإعطاء القيمة عن العين الواجبة ، وسنذكر ما للعلماء في هذا المعنى في باب زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، عند ذكر حديث عمر في الفرس إن شاء الله .

وأما رجوعها بالميراث إلى المتصدق بها فلا تهمة فيها ، ولا كراهية تدخله ، إلى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جوازه .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدثنا زهير قال : حدثنا عبد الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه : أن امرأة أتت رسول الله [ ص: 103 ] - صلى الله عليه وسلم - فقالت : كنت تصدقت على أمي بوليدة ، وإنها ماتت ، وتركت تلك الوليدة فقال : وجب أجرك ، ورجعت إليك بالميراث .

أخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر قال : حدثنا عبد الله بن نمير ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : كنت جالسا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءت امرأة فقالت : يا رسول الله إني كنت تصدقت على أمي بجارية فماتت ، وبقيت الجارية ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : وجب أجرك ، ورجعت إليك بالميراث .

حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال : حدثنا سليمان بن الأشعث قال : حدثنا [ ص: 104 ] عمرو بن مرزوق قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلحم ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : شيء تصدق به على بريرة قال : هو لها صدقة ، ولنا هدية .

قال أبو عمر :

ففي هذه الآثار ما يدل على أن الصدقة إذا تحولت إلى غير معناها حلت لمن لم تكن تحل له قبل ذلك .

وفي قوله : هو عليها صدقة ، وهو لنا هدية دليل على أن ما لم يحرم لعينه كالميتة ، والخنزير ، والدم ، والعذرات ، وسائر النجاسات ، وما أشبهها ، وحرم لعلة عرضت من فعل فاعل إلى غيره من العلل ، فإن تحريمه يزول بزوال العلة ، ألا ترى أن الدرهم المغصوب والمسروق حرام على الغاصب والسارق من أجل غصبه له ، وسرقته إياه ، فإن وهبه له المغصوب منه والمسروق منه طيبة به نفسه حل له ، وهو الدرهم بعينه .

[ ص: 105 ] وقد اعتل قوم ممن نفى القياس في الأحكام ، وزعم أن التعبد بالأسماء دون المعاني بحديث بريرة هذا في قصة اللحم والصدقة به والهدية ، وزعم أن ذلك اللحم لما سمي صدقة حرم ، فلما سمي هدية حل ، فجاء بتخليط من القول ، وخطل منه ، واحتج على مذهبه في ذلك بقوله تعالى لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ، وللكلام في هذا الباب موضع غير هذا ، ولو ذكرناه هاهنا خرجنا عما شرطنا ، وعما له قصدنا ، وبالله توفيقنا ، وعليه توكلنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية