التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1054 حديث تاسع وأربعون لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، ، عن أبيه أنه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له : يا رسول الله ، إن ناسا من أهل البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري هل سموا الله عليها أم لا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سموا الله عليها ثم كلوا .


لم يختلف عن مالك فيما علمت في إرسال هذا الحديث ، وقد أسنده جماعة عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة .

حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا سعيد بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري قال : حدثنا محمد بن عبيد الله قال : حدثنا أسامة بن حفص المدني ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أن قوما قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا الله ثم كلوا قال : وكانوا حديثي العهد بالكفر ، قال البخاري : تابعه علي ، عن الدراوردي ، وتابعه أبو خالد والطفاوي .

[ ص: 299 ] قال أبو عمر : روى هذا الحديث مرسلا - كما رواه مالك - جماعة منهم ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان ، ورواه مسندا جماعة منهم هؤلاء الذين ذكر البخاري وغيرهم .

حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أم المؤمنين أن قوما قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : سموا أنتم عليه وكلوا . وكانوا حديث عهد بالكفر .

وحدثنا محمد بن إبراهيم وإبراهيم بن شاكر قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا حوثرة بن محمد قال : حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة فذكره .

في هذا الحديث من الفقه أن ما ذبحه المسلم ولم يعرف هل سمى الله عليه أم لا ، أنه لا بأس بأكله ، وهو محمول على أنه قد سمى ، والمؤمن لا يظن به إلا الخير ، وذبيحته وصيده أبدا محمول على السلامة حتى يصح ذلك من تعمد ترك التسمية ونحوه ، وقد قيل في معنى هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم بأكلها في أول الإسلام قبل أن ينزل عليه ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، وهذا قول ضعيف لا دليل على صحته ، ولا يعرف وجه ما قال قائله . وفي الحديث نفسه ما يرده ؛ لأنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل ، فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه ، ومما يدل [ ص: 300 ] أيضا على بطلان ذلك القول أن هذا الحديث كان بالمدينة ، وأن أهل باديتها إليهم أشير بالذكر في ذلك الحديث . ولا يختلف العلماء أن قوله - عز وجل - : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) نزل في سورة الأنعام بمكة ، وأن الأنعام مكية ، فهذا يوضح لك أن الآية قد كانت نزلت عليه بخلاف ظن من ظن ذلك ، والله أعلم .

وقد أجمع العلماء على أن التسمية على الأكل إنما معناها التبرك لا مدخل فيه للذكاة بوجه من الوجوه ؛ لأن الميت لا تدركه ذكاة .

وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة بهذا الحديث وقالوا : لو كانت التسمية واجبة فرضا على الذبيحة لما أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكل لحم ذبحته الأعراب بالبادية ، إذ ممكن أن يسموا وممكن أن لا يسموا الله لجهلهم ، ولو كان الأصل ألا يؤكل من ذبائح المسلمين إلا ما صحت التسمية عليه لم يجز استباحة شيء من ذلك إلا بيقين من التسمية ، إذ الفرائض لا تؤدى إلا بيقين ، وإذ الشك والإمكان لا يستباح به المحرمات ، قالوا : وأما قول الله - عز وجل - : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) فإنما خرج على تحريم الميتة وتحريم ما ذبح للنصب وأهل به لغير الله ، وفي ذلك نزلت الآية حين خاصم المشركون النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن غالب التمتام قال : حدثنا أمية بن بسطام العيشي ، وأخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا عمران بن عيينة قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن [ ص: 301 ] سعيد بن جبير ، ، عن ابن عباس قال : خاصمت اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا : نأكل ما قتلنا ، ولا نأكل ما قتل الله ، فأنزل الله تعالى ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ‎ . هكذا في هذا الحديث خاصمته اليهود ، وإنما هو خاصمه المشركون ؛ لأن اليه لا يأكلون الميتة .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا سفيان قال : حدثني هارون بن أبي وكيع عن أبيه ، ، عن ابن عباس في قوله : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) قال : خاصمهم المشركون فقالوا : ما ذبح الله لا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه .

قال أبو عمر : المخاصمة التي ذكر ابن عباس هي التي قال الله تعالى ( وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ‎يريد قولهم : ما قتللله لستم تأكلونه .

واختلف العلماء فيمن ترك التسمية على الذبيحة والصيد ناسيا أو عامدا ، فقال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي : إن تركها عمدا لم تؤكل الذبيحة ولا الصيد ، فإن نسي التسمية عند الذبيحة وعند الإرسال على الصيد اختلفا ، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل ، ومن حجة من ذهب إلى ذلك أن تارك التسمية عمدا متلاعب بإخراج النفس على غير شريطتها ، وقد أجمعوا أن من شرائط الذبيحة والصيد التسمية ، فمن استباح ذلك على غير شريطته عامدا دخل في الفسق الذي قال الله : ( وإنه لفسق ) .

[ ص: 302 ] هذا معنى ما احتجوا به ، وقال الشافعي وأصحابه : تؤكل الذبيحة والصيد في الوجهين جميعا تعمد ذلك أو نسيه ، وهو قول ابن عباس وأبي هريرة ، وروي عن ابن عباس وأبي وائل قالا : إنما ذبحت بدينك .

واحتج من ذهب هذا المذهب بأن قال : لما كان المجوسي لا ينتفع بتسميته إن سمى وتعمد ذلك وقصد إليه ، فكذلك لا يضر المسلم ترك التسمية ؛ لأنه إنما ذبح بدينه .

وقال أبو ثور وداود بن علي : من ترك التسمية عامدا أو ناسيا لم تؤكل ذبيحته ولا صيده .

قال أبو عمر : ما أعلم أحدا من السلف روي عنه هذا المذهب إلا محمد بن سيرين والشعبي ونافعا مولى ابن عمر ، وأما جمهور العلماء فعلى قول مالك والثوري وأبي حنيفة ، وعلى قول الشافعي على هذين القولين الناس .

وقد روي عن الشعبي خلاف ما حكيناه عنه ، ذكر بقي قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال : حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن عامر في رجل ذبح ونسي أن يسمي قال : يأكل . وعن يحيى بن عبد الحميد الجماني ، عن ابن المبارك ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب والحسن في رجل ذبح ونسي أن يسمي الله ، قالا : يأكل .

وروى إسماعيل بن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب والحسن قالا : إذا نسي الرجل أن يسمي عن ذبح فليأكل وليذكر اسم الله في قلبه ، وهذا هو الصحيح عن الحسن وسعيد بن المسيب .

وروى ابن سوار وعمرو بن عبيد ، عن الحسن قال : من نسي التسمية إذا ذبح فليأكل ، ومن تركها متعمدا فلا يأكل ، وسفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم مثله .

[ ص: 303 ] وروى ابن أبي غنية ومسعد ، عن الحكم بن عتبة ، ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : إذا ذبح ونسي أن يسمي فكل ، فإما ذبح بملته وإنما هي الملة ذكاة كل قوم ملتهم ، ألا ترى أن المجوسي لو ذبح فسمى الله لم يأكل ؟

وذكر وكيع ، عن سفيان ، عن سلمة بن كميل ، ، عن أبي مالك في الرجل يذبح وينسى أن يسمي ، قال : لا بأس به ، قلت : فأين قول الله ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ؟ قال : إنما ذبحت بدينك ، وإنما هذا في ذبائح المشركين .

وعن ابن عباس من طرق شتى مثل ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية