التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
918 حديث موفي خمسين لهشام بن عروة‌‌‌

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلاة بمنى ركعتين ، وأن أبا بكر صلاها بمنى ركعتين ، وأن عمر صلاها بمنى ركعتين ، وأن عثمان صلاها بمنى ركعتين شطر إمارته ثم أتمها بعد .


وهذا لم يختلف في إرساله في الموطأ ، وهو مسند صحيح من حديث ابن عمر وابن مسعود ومعاوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بمنى ركعتين فحديث ابن عمر رواه سالم ونافع ، وحديث ابن مسعود رواه أبو إسحاق السبيعي وإبراهيم النخعي ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، ، عن ابن مسعود وحديث معاوية رواه ابن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن معاوية .

[ ص: 304 ] وفي حديث مالك هذا من الفقه قصر الصلاة في السفر ، وفيه أن الإمام المسافر لا يتم بمنى ، وهذا إذا لم ينو إقامة ، فإن نوى إقامة لزمه الإتمام ، وهذا عندنا إذا نوى إقامة أربع فما عدا .

وفيه أن عثمان أتم بعد تقصيره وعلمه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر قصروا في مثل ما أتم هو فيه ، فدل ذلك على إباحة القصر والتمام عنده ، وقد تأول قوم على عثمان في إتمامه ذلك تأويلات ، منها أنه نوى الإقامة واتخذ دارا بمكة وأهلا ، وهذا لا يعرف ، بل المعروف بأنه لم يكن له فيها أهل ولا مال .

وقيل : كان قد اتخذ أهلا بالطائف ، وقيل : لأنه كان أمير المؤمنين ، فكانت أعماله كأنها داره ، وهذا عله لا يصح في نظر ولا يثبت في خبر ، وقد كان المقام بمكة بعد تمام الحج عند عثمان مكروها ، على ذلك جماعة من أهل العلم ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقم فيما بعد تمام حجته ولا أبو بكر ولا عمر ، ولهذا قال : ( من قال ) من السلف : الجوار بمكة بدعة .

وقد ذكر مالك في الموطأ أنه بلغه أن عثمان بن عفان كان إذا اعتمر ربما لم يحطط عن راحلته حتى يرجع ، وهذا يدلك على أنه لم يتخذ بمكة أهلا قط ، والله أعلم .

ومنها أنه إنما فعل ذلك من أجل أعرابي صلى معه فقصر العام كله في أهله ، ثم أخبره من قابل بما صنع فعز على عثمان فعله ذلك فأتم ، وهذا أيضا ضعيف من التأويل ، ومنها أنه أخذ بالإباحة في ذلك ، وهذا أصح ما فيه ، والله أعلم .

وقد مضى القول في قصر الصلاة في السفر وفي أحكامها ، واختلاف العلماء فيها بمنى وغيرها ممهدا مبسوطا بعلل كل فرقة ووجوه قولها في باب ابن شهاب ، عن رجل من آل خالد بن أسيد من هذا الكتاب ، وفي باب صالح بن كيسان أيضا ، فلا معنى لتكرير ذلك هاهنا .

[ ص: 305 ] حدثنا عبد الرحمن بن مروان قال : حدثنا الحسن بن يحيى بالقلزم قال : حدثنا عبد الله بن الجارود قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبيد الله قال : أخبرني نافع ، ، عن ابن عمر قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ، ومع أبي بكر ركعتين ، ومع عمر ركعتين ، ومع عثمان ركعتين ، صدرا من إمارته ثم أتمها عثمان .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سعيد بن عثمان بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله أخبرني نافع ، ، عن ابن عمر قال : صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان صدرا من إمارته ثم أتمها .

قال البخاري : وقد روى حفص بن عاصم ، عن ابن عمر : صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك .

قال أبو عمر : حديث حفص بن عاصم هذا ، عن ابن عمر حدثناه عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا عمر بن محمد الجمحي بمكة قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب ، عن أبيه قال : صحبت ابن عمر بطريق مكة فصلى بها الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله فجلس وجلسنا معه ، فحانت منه التفاتة نحو الموضع حيث صلى ، فرأى ناسا قياما فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ [ ص: 306 ] فقلت : يتمون ، فقال : يا ابن أخي ، صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر ، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، ثم صحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وصحبت عمر بن الخطاب فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله ، وقد قال الله - عز وجل - : ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ) .

في هذا الحديث أن عثمان لم يتم في سفره حتى مات ، وهذا يعارض رواية من روى أنه أتم شطر إمارته ، وتلك الرواية أولى من جهة الأثر ومن جهة النظر ؛ لأنها زيادة .

وفيه دليل على أن القصر سنة مسنونة ، ولو كان فرضا ما تركهم ابن عمر والإتمام ، ولغير ذلك عليهم وأمرهم بالإعادة لإفسادهم صلاتهم ، ولو كان كذلك ما وسعه السكوت عليه ، ولكن لما عرف أن القصر أفضل ، وأن الأخذ بالسنة أولى ندبهم إلى التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما في ذلك من الفضل ، وسواء كان القصر رخصة أو لم يكن هو أفضل ؛ لأنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وروينا عن ابن مسعود نحو هذا المعنى الذي جاء ، عن ابن عمر فيما ذكرنا ، حدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا بشر بن عمر قال : شعبة قال : أخبرني سليمان ، عن عمارة بن عمير وإبراهيم ، ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله قال : صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر ركعتين ، فليت حظنا من أربع ركعتين متقبلتين ، وهذا يدل على الإباحة أيضا ، والله أعلم .

[ ص: 307 ] حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم قال : حدثنا علي بن زيد بن جذعان ، عن أبي نضرة قال : مر عمران بن حصين فجلسنا فقام إليه فتى من القوم وسأله عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغزو والحج والعمرة ، فجاء فوقف علينا فقال : إن هذا سألني عن أمر فأردت أن تسمعوه أو كما قال : غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ، ثم يقول : لأهل البلد صلوا أربعا ؛ فإنا على سفر ، واعتمرت معه ثلاث عمر لا يصلي إلا ركعتين ، وحججت مع أبي بكر الصديق وغزوت فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وحججت مع عمر بن الخطاب حجات ، فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة ، وحج عثمان سبع سنين من إمارته لا يصلي إلا ركعتين ، ثم صلاها بمنى أربعا .

قال الطحاوي : في هذا الحديث معنى لا يوجد في غيره ، وهو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل البلد الذين صلى بهم فيه هذه الصلاة : صلوا أربعا ؛ فإنا على سفر وهي سنة يتفق أهل العلم عليها ولم نجدها في غير هذا الحديث ، وهذه السنة مما تفرد به أهل البصرة دون من سواهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية