التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1730 [ ص: 11 ] حديث أول لوهب بن كيسان

مالك ، عن أبي نعيم وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثا قبل الساحل ، فأمر عليهم أبا عبيدة ابن الجراح ، وهم ثلاثمائة قال : وأنا فيهم قال : فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة ابن الجراح بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كله ، فكان مزودي تمر ، فكان يقوتناه كل يوم قليلا قليلا حتى فني ، ولم تصبنا إلا تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت قال : ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظرب ، فأكل منه الجيش ثمان عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه ، فنصبتا ، ثم أمر براحلة ، فرحلت ( ثم مرت ) تحتهما ، فلم تصبهما .

قال مالك : الظرب الجبيل .


[ ص: 12 ] قال أبو عمر : هذا حديث صحيح مجتمع على صحته ، وفيه من الفقه إرسال الخلفاء السرايا إلى أرض العدو ، والتأمير على السرية أوثق أهلها . وفيه أن المواساة واجبة بين المسلمين بعضهم على بعض إذا خيف على البعض التلف فواجب أن يرمقه صاحبه بما يرد مهجته ويشاركه فيما بيده ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أدخل على من ملك زادا في زاده أن يشرك معه فيه غيره في حديث سويد بن النعمان وهو عندي ضرب من القضاء بذلك ولوجوب المواساة عند الشدة ارتفع عند أهل العلم قطع السارق إذا سرق شيئا من الطعام في عام سنة - والله أعلم - ; وفي جمع الأزواد بركة وخير .

وقد ذكرنا في معنى الزاد في السفر ما فيه مقنع في باب يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، وفيه أكل ميتة البحر من دوابه ، وغيرها ; لأن دوابه إذا جاز أكلها ميتة ، فسمكه أولى بذلك ; لأن السمك لم يختلف في أكله .

واختلف في أكل الدواب منه ، فكان أبو حنيفة ، وأصحابه ، والحسن بن حي يقولون : لا يؤكل من حيوان البحر شيء إلا السمك ما لم يكن طافيا ، فإذا كان طافيا لم يؤكل - أيضا - .

وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي : لا بأس بأكل كل ما في البحر سمكا كان أو دابة ، وهو أحد قولي الثوري [ ص: 13 ] وروى أبو إسحاق الفزاري ، عن الثوري أنه لا يؤكل من صيد البحر إلا السمك .

وقال الشافعي : ما يعيش في الماء حل أكله ، وأخذه ذكاته ، ولا يحتاج إلى ذكاته .

وقد ذكرنا هذه المسألة مجودة ممهدة في باب صفوان بن سليم ، وأتينا فيها من أقاويل العلماء بأكثر مما ذكرنا هاهنا ، والصحيح في هذا الباب أنه لا بأس بأكل ما في البحر من دابة ، وحوت ، وسواء ميته ، وحيه في ذلك ; بدليل هذا الحديث المذكور في هذا الباب ; وبدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

ولا وجه لقول من قال : إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا مضطرين ذلك الوقت إلى الميتة ، فمن هناك جاز لهم أكل تلك الدابة ، وهذا ليس بشيء ; لأن أكلهم لم يكن على وجه ما تؤكل عليه الميتة للضرورة ، وذلك أنهم أقاموا عليها أياما يأكلون منها ، ومن اضطر إلى الميتة ليس يباح له المقام عليها بل يقال له خذ منها ما تحتاج ، وانتقل منها إلى طلب المباح من القوت ، وقد ذكرنا في باب صفوان بن سليم من صحيح الأثر ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباح ذلك لغير المضطر .

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته ما يكفي ، ويغني ، عن قول كل قائل ، والحمد لله .

وقد احتج بهذا الحديث من أجاز أكل اللحم الذكي إذا صل ، وأنتن ، وليس في هذا الحديث بيان ذلك بما يرفع الإشكال .

[ ص: 14 ] وقد روي ، عن مالك أنه قال : لا بأس بأكل الطافي من السمك ما لم ينتن ، وهو قول جمهور العلماء ، وفي حديث أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له في الصيد الذي يغيب ، عن صاحبه يأكله ما لم ينتن ، وعلى أن هذا الخبر في أكل هذه الدابة قد تأول فيه قوم الضرورة كما ذكرته لك .

وحديث أبي ثعلبة هذا حدثناه عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم حدثنا ابن وضاح حدثنا موسى بن معاوية حدثنا معن بن عيسى القزاز ، عن معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلوا الصيد ، وإن وجدتموه بعد ثلاثة أيام ما لم ينتن .

وحدثناه سعيد بن سيد حدثنا عبد الله بن محمد الباجي حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن حدثنا ابن وضاح حدثنا موسى بن معاوية ، فذكره بإسناده سواء .

وأما حديث جابر هذا ، فقد روي من وجوه كثيرة كلها ثابتة صحيحة ، وقد رواه هشام بن عروة عن وهب بن كيسان حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أبي الموت المكي قال : حدثنا أحمد بن زيد بن هارون قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي [ ص: 15 ] قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة ، عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان ، عن جابر بن عبد الله قال خرجنا في سرية بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن ثلاثمائة رجل ، فقلت أزوادنا حتى ما كان يصيب كل رجل منا إلا تمرة ، فجئنا البحر ، فإذا نحن بحوت ألقاه البحر ميتا ، فأقمنا عليه ، فمكثنا اثنتي عشرة ليلة نأكل منه ثم قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه ، فقال : نعم الجار البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته .

وقد رواه أبو الزبير ، عن جابر حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن عمر بن يحيى قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال بعثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية مع أبي عبيدة ، فألقى لنا البحر حوتا ، فأكلنا منه نصف شهر ، وايتدمنا منه ، ادهنا بودكه حتى ثابت أجسامنا .

ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي الزبير ، عن مولى لأبي بكر ، عن أبي بكر قال : كل ما في البحر من دابة قد ذبحها الله لك ، فكلها .

قال : وأخبرنا الثوري ، عن عبد الملك بن أبي بشير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال أشهد على أبي بكر أنه قال : السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها . وهذا الباب فيه زيادات في باب صفوان بن سليم من هذا الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية