التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
701 [ ص: 51 ] حديث ثان ليزيد بن الهادي

مالك ، عن يزيد بن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحتها من اعتكافه قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد من صبحتها في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر .

قال أبو سعيد ، فأمطرت السماء تلك الليلة ، وكان المسجد على عريش ، فوكف المسجد قال أبو سعيد : فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين
.


قال أبو عمر :

في هذا الحديث ، وهو من أصح حديث يروى في هذا الباب دليل على أن الاعتكاف في رمضان سنة مسنونة ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان [ ص: 52 ] يعتكف في رمضان ويواظب على ذلك ، وما واظب عليه فهو سنة لأمته ، والدليل على أنه كان يعتكف في كل رمضان قوله : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان ، فاعتكف عاما - ثم ساق القصة ، وهذا يدل على أنه كان يعتكف كل رمضان ، - والله أعلم - .

وأجمع علماء المسلمين على أن الاعتكاف ليس بواجب ، وأن فاعله محمود عليه مأجور فيه ، وهكذا سبيل السنن كلها ليست بواجبة فرضا ، ألا ترى إلى إجماعهم على قولهم : هذا فرض ، وهذا سنة ، أي هذا واجب ، وهذا مندوب إليه ، وهذه فريضة ، وهذه فضيلة .

وأما قوله : حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج فيها من صبحتها من اعتكافه ، فهكذا رواية يحيى من صبحتها ، وتابعه على ذلك جماعة منهم ابن بكير ، والشافعي ، وابن وهب ، وابن القاسم وجماعة - أيضا - ، فقالوا في هذا الحديث عن مالك : وهي الليلة التي يخرج فيها من اعتكافه لم يقولوا من صبحتها .

وقال يحيى بن يحيى ، وابن بكير ، والشافعي من صبحتها .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي قال أخبرنا مالك بن أنس ، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن [ ص: 53 ] عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي كان يخرج من صبحتها من اعتكافه ، وذكر الحديث إلى آخره حرفا بحرف كرواية يحيى إلا أنه قال في موضع ، وقد رأيت هذه الليلة ، وقال أريت هذه الليلة ثم أنسيتها ، وقال رأيتني أسجد ، فجعل في موضع ، وقد قال في الموضعين ، وقد أريت في موضع رأيت ، وقال : فأمطرت السماء من تلك الليلة ، فزاد من .

وحدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مطرف بن عبد الرحمن قالا : حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، عن مالك ، عن يزيد بن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين ، وهي الليلة التي يخرج من صبحتها من اعتكافه ، وساق الحديث كرواية يحيى حرفا بحرف إلى آخره ، هكذا قال ابن بكير يخرج من صبحتها ، وقال يحيى يخرج فيها من صبحتها ، وقال الشافعي : [ ص: 54 ] يخرج في صبحتها ، وقال القعنبي وابن القاسم ، وطائفة يخرج فيها ، ولم يقولوا : من صبحها ، ولا من صبحتها ، وروى ابن وهب ، وابن عبد الحكم ، عن مالك قال : ولا بأس بالاعتكاف في أول الشهر ، ووسطه ، وآخره ، فمن اعتكف في أوله أو وسطه ، فليخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه ، وإن اعتكف في آخر الشهر ، فلينصرف إلى بيته حتى يشهد العيد مع المسلمين ، ويبيت ليلة الفطر في معتكفه ، ويرجع من المصلى إلى أهله قال : وكذلك بلغني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال ابن القاسم ، فإن خرج ليلة الفطر ، فلا قضاء عليه .

وقال ابن الماجشون ، وسحنون يفسد اعتكافه ; لأن السنة المجتمع عليها أنه يبيت في معتكفه حتى يصبح .

قال أبو عمر :

لم يقل بقولهما أحد من أهل العلم ، فيما علمت ، ولا وجه له في القياس ; لأن ليلة الفطر ليست بموضع اعتكاف ، ولا صيام ، ولا من شهر رمضان ، ولا يصح فيها ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء .

وقد روى ابن القاسم ، عن مالك في المستخرجة في المعتكف يخرج ليلة الفطر من اعتكافه لا إعادة عليه .

وقال مالك في الموطأ أنه رأى أهل الفضل إذا اعتكفوا العشر الأواخر من رمضان لا يرجعون إلى أهليهم حتى يشهدوا العيد مع الناس [ ص: 55 ] وقال الشافعي : إذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل قبل الغروب ، فإذا أهل هلال شوال ، فقد أتم العشر ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه .

قال أبو عمر :

قد أجمعوا في المعتكف العشر الأول أو الوسط من رمضان أنه يخرج إذا غابت الشمس من آخر يوم من اعتكافه ، وفي إجماعهم على ذلك ما يوهن رواية من روى يخرج من صبحتها أو في صبحتها ، واختلفوا في العشر الأواخر ، وما أجمعوا عليه يقضي على ما اختلفوا فيه من ذلك ويدل - والله أعلم - على تصويب رواية من روى : يخرج فيها من اعتكافه يعني بعد الغروب - والله أعلم - والصحيح في تحصيل مذهب مالك أن مقام المعتكف ليلة الفطر في معتكفه ، وخروجه منه إلى العيد استحباب ، وفضل لا إيجاب ، وليس مع من أوجب ذلك حجة من جهة النظر ، ولا صحيح الأثر ، وبالله التوفيق .

واختلف العلماء - أيضا - في المعتكف متى يدخل المسجد الذي يريد الاعتكاف فيه ؟ فقال : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر دخل المسجد قبل غروب الشمس .

قال مالك ، وكذلك من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر دخل معتكفه قبل [ ص: 56 ] غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم ، وقال الشافعي : إذا قال : لله علي اعتكاف يوم دخل قبل طلوع الفجر ، وخرج بعد غروب الشمس خلاف قوله في الشهر .

وقال زفر والليث بن سعد يدخل في الشهر ، وفي اليوم قبل طلوع الفجر ، وهو قول أبي يوسف ، ولم يفرقوا بين الشهر واليوم .

قال أبو عمر :

ذهب هؤلاء إلى أن الليل لا مدخل له في الاعتكاف إلا أن يتقدمه ، ويتصل به اعتكاف نهار ، وذهب أولئك إلى أن الليلة تبع لليوم في كل أصل ، فوجب اعتبار ذلك .

وروى يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل المكان الذي يعتكف فيه .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا معاني الاعتكاف ، وأصول مسائله ، وأمهات أحكامه في باب ابن شهاب ، عن عروة من هذا الكتاب ، وأجمع العلماء على أن رمضان كله موضع للاعتكاف ، وأن الدهر كله موضع للاعتكاف إلا الأيام التي لا يجوز صيامها ، وقد ذكرنا ما لهم من التنازع في الاعتكاف بغير صوم في باب ابن شهاب ، عن عروة ، وذكرنا اختلافهم في صيام أيام التشريق في غير موضع من هذا الكتاب ، والحمد لله .

[ ص: 57 ] وأما قوله : في ليلة القدر إني رأيتها ثم أنسيتها ، ورأيتني أسجد من صبحتها في ماء وطين ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر .

فعلى هذا أكثر العلماء أنها عندهم في الوتر من العشر الأواخر ، وقد ذكرنا ما في ليلة القدر من المذاهب ، والآثار ، والاعتبار ، والاختيار ، في باب حميد الطويل من كتابنا هذا ، فلا معنى لتكرير ذلك هاهنا .

وقد روي من حديث جابر بن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ، فإني قد رأيتها ونسيتها ، وهي ليلة مطر وريح ، وهذا نحو معنى حديث أبي سعيد الخدري في هذا الباب .

أخبرنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب بن حبيب قال : حدثنا أحمد بن عمرو البزار قال : حدثنا أحمد بن منظور قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ، فإني قد رأيتها فنسيتها ، وهي ليلة مطر وريح أو قال قطر وريح .

قال البزار : ولا نعلم أحدا روى هذا اللفظ بهذا الحديث إلا عبد الرحمن بن شريك .

وحدثنا إبراهيم بن شاكر ، قال : حدثنا محمد بن أحمد ، قال : حدثنا محمد بن أيوب ، قال : حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، عن أبيه ، عن سماك ، عن جابر بن سمرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر أنها ليلة ريح ومطر [ ص: 58 ] قال أبو عمر : هذا معناه في ذلك العلم ، وذلك الوقت - والله أعلم - وأما قوله : وكان المسجد على عريش ، فإنه أراد أن سقفه كان معرشا بالجريد من غير طين ، فوكف المسجد يعني هطل ، فصار من ذلك في المسجد ماء ، وطين ، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جبهته ، وأنفه أثر الماء والطين من سجوده على ذلك ، قال الشاعر في معنى وكف :


كأن أسطارها في بطن مهرقها نور يضاحك دمع الواكف الهطل



وقد اختلف قول مالك في الصلاة في الطين ، فمرة قال : لا يجزيه إلا أن ينزل بالأرض ويسجد عليها على قدر ما يمكنه قال : يجزيه أن يومئ إيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه إذا كان الماء قد أحاط به .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن ، قال : حدثنا محمد بن عمر بن يحيى ، قال : حدثنا علي بن حرب ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد أنه أومأ في ماء وطين .

قال عمرو : وما رأيت أعلم من جابر بن زيد قال عمرو : وأخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول : لو نزل أهل البصرة عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علما عما في كتاب الله ، وبه عن سفيان ، عن أبي بكر الهذلي قال : ذكرت لقتادة الحسن ، ونفرا من نحوه ، فقال : ما ذكرت أحدا إلا والحسن أفقه منه إلا جابر بن زيد .

[ ص: 59 ] أخبرنا أبو عثمان سعيد بن نصر ، وسعيد بن عثمان قالا : حدثنا أبو عمر أحمد بن دحيم بن خليل قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال : حدثنا داود بن عمرو الضبي قال : حدثنا عمرو بن الرماح قاضي بلخ قال : أخبرني كثير بن زياد أبو سهل ، عن عمرو بن عثمان بن يعلى ، عن أبيه ، عن جده قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصابتنا السماء ، فكانت البلة من تحتنا والسماء من فوقنا ، وكان في مضيق ، فحضرت الصلاة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا فأذن وأقام ثم تقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى على راحلته ، والقوم على رواحلهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق ، قال : حدثنا الخضر بن داود ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هاني الأثرم ، قال : حدثنا شريح بن النعمان ، قال : حدثنا ابن الرماح ، عن أبي سهل كثير بن زياد البصري ، عن عمرو بن عثمان بن يعلى بن أمية ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى مضيق ، ومعه أصحابه ، والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم ، وحضرت الصلاة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤذن فأذن أو أقام ، فتقدمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم على راحلته ، وهم على رواحلهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع أو قال : يجعل سجوده أخفض من ركوعه .

[ ص: 60 ] قال : وحدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا أبان قال : حدثنا أنس بن سيرين قال : أقبلت مع أنس بن مالك من الشام حتى أتينا سواء ببط ، وحضرت الصلاة ، والأرض كلها غدير ، فصلى على حمار يومئ إيماء .

قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن قتادة ، عن جابر بن زيد في الذي تحضره الصلاة ، وهو في ماء وطين قال : يومئ إيماء .

قال : وحدثنا سعيد بن عفير ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن عمار بن غزية في الرجل تدركه الصلاة ، وهو في ماء وطين قال : يصلي قائما متوجها إلى القبلة يومئ برأسه .

قال : وحدثنا منجاب بن الحارث ، قال أخبرنا شريك ، عن ليث ، عن طاوس قال إذا كان ردع أو مطر ، فصل على الدابة .

قال : وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يسأل عن الصلاة المكتوبة على الراحلة ، فقال : لا يصلى على الراحلة في الأمن إلا في موضعين : إما في طين ، وإما تطوع قال : وصلاة الخوف .

وذكر أبو عبد الله حديث يعلى بن أمية الذي ذكرناه في هذا الباب .

وسئل أبو عبد الله أحمد بن حنبل مرة أخرى ، عن الصلاة على الراحلة ، فقال : أما في الطين ، فنعم يعني المكتوبة .

قال أبو عمر :

من أتى من الصلاة على الراحلة أو على قدميه بالإيماء من أجل الطين والماء ، احتج بحديث هذا الباب ، عن أبي سعيد الخدري قوله [ ص: 61 ] فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف ، وعلى جبهته ، وأنفه ، ويروى على جبينه وأنفه ، أثر الماء والطين ، قالوا : فلو جاز الإيماء في ذلك ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليضع أنفه وجبهته في الطين ، وهذا حديث صحيح ، وحديث يعلى بن أمية ليس إسناده بشيء .

قال أبو عمر : أما إذا كان الطين والماء مما يمكن السجود عليه ، وليس فيه كبير تلويث ، وفساد للثياب وجاز تمكين الجبهة ، والأنف من الأرض ، فهذا موضع لا تجوز فيه الصلاة على الراحلة ، ولا على الأقدام بالإيماء ; لأن الله - عز وجل - قد افترض الركوع والسجود على كل من قدر على ذلك كيفما قدر ، وأما إذا كان الطين ، والوحل والماء الكثير قد أحاط بالمسجون أو المسافر الذي لا يرجو الانفكاك منه ، ولا الخروج منه قبل خروج الوقت ، وكان ماء معينا غرقا ، وطينا قبيحا وحلا ، فجائز لمن كان في هذه الحال أن يصلي بالإيماء على ما جاء في ذلك عن العلماء من الصحابة والتابعين ، فالله أعلم بالعذر ، وليس بالله حاجة إلى تلويث وجهه وثيابه ، وليس في ذلك طاعة إنما الطاعة الخشية ، والعمل بما في الطاقة .

وفي هذا الحديث - أيضا - ما يدل على أن السجود على الأنف ، والجبهة جميعا ، وأجمع العلماء على أنه إن سجد على جبهته وأنفه فقد أدى فرض الله في سجوده ، واختلفوا فيمن سجد على أنفه دون جبهته أو [ ص: 62 ] جبهته دون أنفه ، فقال مالك : يسجد على جبهته وأنفه ، فإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجزه ، وإن سجد على جبهته دون أنفه كره ذلك وأجزأ عنه .

وقال الشافعي : لا يجزيه حتى يسجد على أنفه وجبهته ، وهو قول الحسن بن حي .

وقد روى حماد بن سلمة ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من لم يضع أنفه بالأرض فلا صلاة له .

وقال أبو حنيفة : إذا سجد على جبهته أو ذقنه أو أنفه أجزأه ، وحجته حديث ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أمرت أن أسجد على سبعة آراب ذكر منها : الوجه قال : فأي شيء وضع من الوجه أجزأه ، وهذا ليس بشيء ; لأن هذا الحديث قد ذكر فيه جماعة الأنف والجبهة .

وأما قوله : وذلك صبيحة ليلة إحدى وعشرين ، فذلك يدل على أن تلك الليلة كانت ليلة القدر لا محالة - والله أعلم - لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إني رأيتها ثم أنسيتها ، ورأيتني أسجد من صبحتها في ماء وطين ، فكان كما رأى في نومه - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أن ليلة القدر جائز أن تكون ليلة إحدى وعشرين ، وفي كل وتر من العشر الأواخر - أيضا - ، وقد قيل الوتر العشر الأواخر - أيضا - إذا كان في شهر [ ص: 63 ] رمضان ، وقد قدمنا ذكر ذلك كله في باب حميد الطويل من هذا الكتاب .

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن ليلة القدر في كل رمضان ليلة إحدى وعشرين ، وذهب آخرون إلى أنها ليلة ثلاث وعشرين في كل رمضان ، وذهب آخرون إلى أنها ليلة سبع وعشرين في كل رمضان ، وذهب آخرون إلى أنها تنتقل في كل وتر من العشر الأواخر ، وهذا عندنا هو الصحيح إن شاء الله .

وقد ذكرنا القائلين بهذه الأقاويل ، وما روي في ذلك كله من الأثر في باب حميد الطويل ، والحمد لله ، وذكرنا في باب أبي النضر من هذا الكتاب ما قيل في ليلة ثلاث وعشرين ، ومن قطع بأنها ليلة ثلاث وعشرين أبدا ، وهي عندنا تنتقل ، وبهذا يصح استعمال الآثار المرفوعة ، وغيرها ، وبالله التوفيق .

ذكر عبد الرزاق ، عن الأسلمي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عليا كان يتحرى ليلة القدر ليلة تسع عشرة وإحدى وعشرين ، وثلاث وعشرين .

وعن الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود قال : قال : عبد الله بن مسعود : تحروا ليلة القدر سبع عشرة صباحة بدر أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين [ ص: 64 ] وعن الأسلمي ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ليلة القدر في كل رمضان تأتي .

ومن حديث أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هي في كل رمضان .

وعن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر في كل وتر .

قال أبو عمر : هذا أصح ; لأن ابن عمر روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : التمسوها في العشر الأواخر في كل وتر ، وهي التسع الأواخر ، وفي التسع الأواخر في كل وتر .

وقد روي ذلك من حديث عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق قال : حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن عاصم بن كليب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ليلة القدر ، فقال : التمسوها في العشر الأواخر في وتر منها .

[ ص: 65 ] وروي مثل ذلك من حديث أبي سعيد الخدري ، وغيره ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقد روى الدراوردي حديث أبي سعيد ، عن يزيد بن الهادي بإسناده ، وساقه سياقة حسنة ، وذكر فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينصرف إذا اعتكف العشر الأوسط ليلة إحدى وعشرين ، وهذا يدل على أن ذلك كان ليلا ، وهذا يرد رواية من روى ، عن مالك في هذا الحديث ، وهي الليلة التي كان يخرج من صبحتها من اعتكافه ، ويصحح رواية من روى هي الليلة التي كان يخرج فيها من اعتكافه .

حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد قراءة مني عليه أن الميمون بن حمزة الحسني حدثهم ، قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن الهادي ، عن محمد بن إبراهيم ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في رمضان العشر التي في وسط الشهر ، فإذا كان يمسي من عشرين ليلة تمضي ، وتستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه ، ويرجع من كان يجاور معه ثم أقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها ، فخطب الناس ، وأمرهم بما شاء الله - عز وجل - ، فقال : إني كنت أجاور هذه العشر ثم بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر ، فمن كان اعتكف معي ، فليثبت في معتكفه ، وقد رأيت هذه [ ص: 66 ] الليلة ثم أنسيتها ، فابتغوها في العشر الأواخر ، وابتغوها في كل وتر ، وقد رأيتني صبيحتها أسجد في طين ، وماء .

قال أبو سعيد ، فاشتملت السماء في تلك الليلة ، فأمطرت ، فوكف المسجد في مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة إحدى وعشرين بصر عيني نظرت إليه انصرف من صلاة الصبح وجبينه ممتلئ طينا ، وماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية