التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1667 [ ص: 78 ] مالك ، عن يزيد بن زياد القرظي

حديثان

مالك ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : قال معاوية بن أبي سفيان - وهو على المنبر - : أيها الناس لا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع الله ، ولا ينفع ذا الجد منه الجد من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ثم قال : سمعت هؤلاء الكلمات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأعواد .


وهذا حديث مسند صحيح ، وإن كان ظاهره في هذا الإسناد الانقطاع ، وقد سمع ذلك محمد بن كعب من معاوية ذكر ذلك بعض رواة مالك ، عن مالك ، وهو محفوظ - أيضا - من غير طريق مالك .

وأما محمد بن كعب ، فأحد العلماء الفضلاء الثقات ، ومن التابعين بالمدينة ، وكان من أعلمهم بتأويل القرآن ، وأقرئهم له ، ويكنى أبا حمزة توفي سنة عشرين ومائة ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة ، وقد قيل توفي سنة سبع عشرة ، أو ثمان عشرة هذا قول الواقدي ، وغيره .

وقال أبو معشر ، وأبو نعيم مات محمد بن كعب القرظي سنة ثمان ومائة ، وهو محمد بن كعب بن حبان بن سليمان بن أسد القرظي من قريظة حلفاء الأوس ، وقد روى القاسم بن محمد ، عن [ ص: 79 ] محمد بن كعب القرظي ، وحسبك بذلك جلالة له ، وقد سمع هذا الحديث ابن عجلان من محمد بن كعب القرظي .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن عجلان قال : سمعت محمد بن كعب القرظي قال : كان معاوية يخطب بالمدينة يقول : تعلمن أيها الناس أنه لا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع الله ، ولا ينفع ذا الجد منه الجد من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين سمعت هذه الأحرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأعواد .

لم تختلف الرواية ، - والله أعلم - في هذا الحديث ، عن محمد بن كعب ، عن معاوية أنه سمع هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي رواية أهل المدينة ، وأما أهل العراق ، فيروون أن المغيرة بن شعبة كتب بهذا الحديث إلى معاوية ، - والله أعلم - .

وقد يجوز أن يكون قوله : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين سمعه معاوية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار إليه ; لأن ذلك ليس في حديث المغيرة ، وسائره في حديث المغيرة ، وعلى هذا التخريج تصح الأحاديث في ذلك ; لأنها منقولة بأسانيد صحاح ، والحمد لله .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني [ ص: 80 ] أبي قال : حدثنا عبد الرزاق ، وروح ، وابن بكر قالوا : حدثنا ابن جريج قال : أخبرني عبدة بن أبي لبابة أن ، ورادا مولى المغيرة بن شعبة أخبره أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية .

كتب ذلك الكتاب له وراد ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول حين يسلم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك ، وله الحمد اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال : وراد : ثم قدمت بعد ذلك على معاوية ، فسمعته على المنبر يأمر الناس بذلك القول ، ويعلمهموه .

قال أحمد بن حنبل : وحدثنا روح قال : حدثنا ابن عون قال : أنبأني أبو سعيد قال : أنبأني ، وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال : كتب معاوية إلى المغيرة أن اكتب إلي بشيء حفظته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : كان إذا صلى ، ففرغ قال : لا إله إلا الله ، قال : وأظنه قال : وحده لا شريك له له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء [ ص: 81 ] قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، وسمعته ينهى عن قيل ، وقال : وعن كثرة السؤال ، وإضاعة المال ، وعن وأد البنات ، وعقوق الأمهات ، ومنع ، وهات .

قال : وحدثنا علي بن عاصم قال أخبرنا الحريري ، عن عبدة عن ، وراد ، عن المغيرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله إلا أنه لم يذكر وأد البنات .

قال : وحدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن منصور قال : سمعت المسيب بن رافع يحدث عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة أن المغيرة بن شعبة كتب إلى معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلم قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، ويعيش بن سعيد قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مضر بن محمد قال : حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا عبدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن المغيرة بن شعبة قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة قال : اللهم لك الحمد لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .

[ ص: 82 ] قال أبو عمر : أما قوله : لا ينفع ذا الجد منك الجد ، فالرواية فيه بفتح الجيم لم أعلم ، عن مالك في ذلك خلافا ، وقد روي بكسر الجيم ، فأما الجد بفتح الجيم ، فهو الحظ ، وهو الذي يقال له البخت عند العامة .

يقولون : بخت فلان خير من بخت فلان .

والعرب تقول : جد فلان أحظى من جد فلان ، ومنه قولهم : اسع بجد لا بكد .

وقال الشاعر :


وبالجد يسعى المرء لا بالتقلب



وقال أبو عبيد : المعنى في هذا الحديث ، ولا ينفع ذا الغنى منك غناه إنما ينفعه طاعتك ، والعمل بما يقرب منك .

واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : قمت على باب الجنة ، فإذا عامة من دخلها الفقراء ، وإذا أصحاب الجد محبوسون يريد أصحاب الغنى في الدنيا محبوسون يومئذ ، وقال هو بمنزلة قوله : ( لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) .

وبمنزلة قوله : ( وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا ) .

وقال غير أبي عبيد في تأويل هذا الحديث نحو قول أبي عبيد ، وزاد قال الجد في هذا الموضع الحظ على ما قدمنا ذكره .

قال : ومعنى هذا [ ص: 83 ] الحديث لا ينفع ذا الحظ منك الحظ ، وإنما ينفعه العمل بطاعتك ، قال : وهو مأخوذ من قول العرب لفلان جد في هذا الأمر أي حظ ، واستشهد بقول امرئ القيس :


ألا يا لهف نفسي إثر قوم     هم كانوا الشفاء فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم     وبالأشقين ما كان العقاب



أراد وقاهم حظهم .

وقال الأخطل :


أعطاكم الله جدا تنصرون به     لا جد إلا صغير بعد محتقر



وقال غيره :


عش بجد ولا يضرك نوك     إنما عيش من ترى بالجدود



وقال آخر :


عش بجد ولا يضرك الن     وك ما لقيت جدا



وقال أحمد بن حميد :


بالجد أجدى على امرئ طلبه     ومن يطل حرصه يطل تعبه



وقال ابن دريد :

عفا الله عنه

لا يرفع اللب بلا جد ولا     يحطك الجهل إذا الجد علا



[ ص: 84 ] أخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا أبو الحسن عبد الباقي بن نافع القاضي ببغداد قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن سعيد قال : حدثنا أبو غسان مالك بن سعد قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة ، وسماك بن حرب ، وأبان بن تغلب ينشدون هذا البيت :


أرى كل ذي جد ينوء بجده     فلو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد


وقال بعض أهل هذا العصر :


لا تشرهن إلى دنيا تملكها     قوم كثير بلا عقل ولا أدب
ولا تقل إنني أبصرت ما جهلوا     من الإدارة في مر ومنقلب
فبالجدود هم نالوا الذي ملكوا     لا بالعقول ولا بالعلم والأدب
وأيسر الجد يجزي كل ممتنع     على التمكن ثم البغي والطلب
وإن تأملت أحوال الذين مضوا     رأيت من ذا وهذا أعجب العجب



قال أبو عمر : ومن روى هذا الحديث بكسر الجيم قال الجد الاجتهاد ، والمعنى أنه لا ينفع ذا الاجتهاد في طلب الرزق اجتهاده ، وإنما يأتيه ما قدر له ، وليس يرزق الناس على قدر اجتهادهم ، ولكن الله يعطي من يشاء ، ويمنع ، فلا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وهذا وجه حسن ، والقول الأول أكثر .

وقول أبي عبيد في هذا الباب حسن - أيضا - ، وبالله التوفيق .

[ ص: 85 ] حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن محمد القاضي الخصيبي قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ، وأحمد بن يحيى بن إسحاق الحلواني قالا : حدثنا علي بن حكيم الأودي قال أخبرنا شريك ، عن أبي عمر ، عن أبي جحيفة قال تذاكروا الجدود عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : بعضهم : جدي في الغنم ، وقال بعضهم : جدي في الخيل ، وقال بعضهم : جدي في الإبل ، وحضرت الصلاة ، فصلى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رفع رأسه من الركوع قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد لا ينفع ذا الجد منك الجد ، يرفع بها صوته .

التالي السابق


الخدمات العلمية