التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1560 [ ص: 92 ] يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب تسعة أحاديث

حديث أول ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول : لما صدر عمر بن الخطاب من منى أناخ بالأبطح ، ثم كوم كومة بطحاء ، ثم طرح عليها رداءه ، واستلقى ، ثم مد يديه إلى السماء ، فقال : اللهم كبرت سني ، وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ، ولا مفرط ، ثم قدم المدينة ، فخطب الناس ، فقال : أيها الناس قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وضرب بإحدى يديه على الأخرى ، ثم قال إياكم أن تهلكوا ، عن آية الرجم أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله ، فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رجمنا ، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس : زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة فإنا قد قرأناها .


قال مالك : قال يحيى بن سعيد : قال سعيد بن المسيب : فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر - رحمه الله - .

قال مالك الشيخ والشيخة الثيب والثيبة فارجموهما ألبتة .

[ ص: 93 ] قال أبو عمر : هذا حديث مسند صحيح ، والذي يستند منه قوله : فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما سماع سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب ، فمختلف فيه ، قالت طائفة من أهل العلم : لم يسمع من عمر شيئا ، ولا أدركه إدراك من يحفظ عنه ، وذكروا ما رواه ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج وعثمان قال قيل لسعيد بن المسيب أدركت عمر بن الخطاب قال : لا .

وقال آخرون : قد سمع سعيد بن المسيب من عمر أحاديث حفظها عنه منها هذا الحديث ، ومنها قوله : حين رأى البيت ، وزعموا أن سعيد بن المسيب شهد هذه الحجة مع عمر ، وحفظ عنه فيها أشياء ، وأداها عنه ، وهي آخر حجة حجها عمر ، وكانت خلافته عشر سنين ، وستة أشهر ، وأربعة أيام ، وقتل بعد انصرافه من حجته تلك لأربع بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين .

حدثني عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا نصر بن المهاجر قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة قال قلت : لسعيد بن المسيب رأيت عمر بن الخطاب ؟ قال : نعم قال : ابن وضاح ولد سعيد بن المسيب لسنتين مضتا من خلافة عمر ، وسمع منه كلامه الذي قال حين نظر إلى الكعبة اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام .

كذلك قال لي ابن كاسب ، وغير واحد ابن وضاح يقوله .

[ ص: 94 ] قال أبو عمر : أصح ما قيل في قوله يقصد أنه لسنتين مضتا من خلافة عمر ، وقد قيل لسنتين بقيتا .

وقال مالك كان سعيد بن المسيب يقال له راوية عمر .

فقال : حدثنا أسباط ، عن الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن سعيد بن المسيب قال : سمعت عمر يقول : على هذا المنبر لا أجد أحدا جامع ، ولم يغتسل أنزل أو لم ينزل إلا عاقبته .

قال الحسن بن علي الحلواني ، وحدثنا الأصمعي قال : حدثنا طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب ، عن سعيد بن المسيب قال أنا في الغلمة الذين جروا جعدة العقيلي إلى عمر .

قال : وحدثنا عبد الصمد قال : حدثنا شعبة ، عن إياس بن معاوية قال : قال لي سعيد بن المسيب : ممن أنت ؟ قلت : من مزينة ، فقال : إني لأذكر اليوم الذي نعى فيه عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن المزني إلى الناس على المنبر ، وكان علي بن المديني يصحح سماعه من عمر .

قال أبو عمر : معنى هذا الحديث يستند من وجوه صحاح ثابتة من حديث ابن عباس ، عن عمر أخبرنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثنا معمر ، عن [ ص: 95 ] الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : إن الله بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده .

قال سفيان ، وقد سمعته من الزهري بطوله ، فحفظت منه أشياء ، وهذا مما لم أحفظه يومئذ .

قال أبو عمر : قول ابن عيينة ، وقد سمعته من الزهري بطوله يعني حديث السقيفة ، وفيه هذا الكلام ، عن عمر في الرجم .

وقد روى حديث السقيفة ، عن الزهري بتمامه مالك ، وغيره ، رواه عن مالك جماعة منهم ابن وهب ، وإسحاق بن محمد الفروي ، وعبد العزيز بن يحيى وجويرية بن أسماء .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا إسحاق بن محمد الفروي قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس .

وأخبرنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال : حدثنا جويرية بن أسماء ، عن مالك ، عن الزهري أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أخبره أن عبد الله بن عباس أخبره أنه كان يقرئ عبد [ ص: 96 ] الرحمن بن عوف ، فذكرا حديث السقيفة بطوله ، وفيه قال عمر : أما بعد ، فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لعلها بين يدي أجلي ، فمن وعاها ، وعقلها ، فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشي أن لا يعيها ، فلا أحل له أن يكذب علي إن الله بعث محمدا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، وكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ، وعقلناها ، ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا ، وأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فنترك فريضة أنزلها الله ، فيضلوا ، فإن الرجم في كتاب الله على من زنا إذا أحصن من الرجال ، والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ، وذكر الحديث بتمامه .

وذكر مالك في الموطأ هذا الكلام الآخر ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس أنه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : الرجم في كتاب الله حق على من زنا من الرجال ، والنساء إذا أحصن إذا قامت عليه البينة أو كان الحبل أو الاعتراف .

وأجمع العلماء على أن البينة إذا كانوا شهودا أربعة عدولا أقيم الحد على الزاني ، وكذلك الاعتراف إذا ثبت على العاقل البالغ ، ولم [ ص: 97 ] ينزع عنه ، واختلفوا في الحبل يظهر بالمرأة هل يكون مثل البينة ، والاعتراف أم لا ، ففي حديث عمر هذا التسوية بين البينة ، والاعتراف ، والحبل ، فذهب قوم إلى أن المرأة إذا ظهر بها حمل ، ولم يعلم لها زوج أن عليها الحد ، ولا ينفعها قولها إنه من زوج أو من سيد إن كانت أمة إذا لم يعلم ذلك ، قالوا : وهذا حد قد وجب بظهور الحمل ، فلا يزيله إلا يقين من بينة النكاح أو ملك يمين .

وقال مالك : إذا وجدت امرأة حاملا ، فقالت تزوجت أو استكرهت لم يقبل ذلك منها إلا ببينة على ما ذكرت لك ، أو جاءت تستغيث ، وهي تدمي أو نحو ذلك من فضيحة نفسها ، وإلا أقيم عليها الحد هكذا رواه ابن عبد الحكم ، وغيره ، عن مالك .

وقال ابن القاسم إن كانت طارئة غريبة ، فلا حد عليها ، وإلا أقيم عليها الحد ، وهو قول عثمان البتي ، وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا حد عليها إلا أن تقر بالزنا أو تقوم بذلك عليها بينة ، ولم يفرقوا بين طارئة ، وغير طارئة .

وروى حديث السقيفة بتمامه ، عن ابن شهاب عقيل ، ويونس ، ومعمر ، وابن إسحاق ، وعبد الله بن أبي بكر ، وغيرهم .

وحدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا إسحاق بن عيسى [ ص: 98 ] وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قالا : حدثنا حماد بن زيد ، واللفظ لحديث مسدد ، وهو أتم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب يخطب ، فقال : أيها الناس إن الرجم حق ، فلا تخدعن عنه ، وإن آية ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رجم ، وأن أبا بكر قد رجم ، وإنا قد رجمنا بعدهما ، وسيكون قوم من هذه الأمة يكذبون بالرجم ، ويكذبون بالدجال ، ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها ، ويكذبون بالشفاعة ، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا .

قال أبو عمر : الخوارج كلها ، والمعتزلة تكذب بكل هذه الفصول الستة ، وأهل السنة على التصديق بها ، وهم الجماعة ، والحجة على من خالفهم بما هم عليه من استمساكهم بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ولا خلاف بين علماء المسلمين : أهل الحديث ، والرأي أن المحصن إذا زنى حده الرجم وجمهورهم يقول : ليس عليه مع الرجم شيء ، ومنهم من يقول : يجلد ، ويرجم ، وهم قليل ، وقد ذكرنا هذه المسألة مجودة في باب ابن شهاب ، عن عبيد الله ، عن زيد بن خالد من هذا الكتاب ، والحمد لله .

[ ص: 99 ] وذكر حماد بن سلمة ، عن الحجاج ، عن الحسن بن سعد ، عن عبد الله بن شداد أن عمر رجم رجلا في الزنا ، ولم يجلده .

وفي حديث مالك هذا دليل على أن آية الرجم مما نسخ خطه من القرآن ، ولم يكتبه عثمان في المصحف ، ولا جمعه أبو بكر في الصحف ، وقد ذكرنا وجوه النسخ في القرآن ، عند ذكر حديث زيد بن أسلم من كتابنا هذا ، فلا معنى لتكريره هاهنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية