التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
779 [ ص: 151 ] حديث سادس لربيعة مرسل

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع مولاه ، ورجلا من الأنصار ، فزوجاه ميمونة ابنة الحارث ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة قبل أن يخرج .


هذا الحديث قد رواه مطر الوراق ، عن ربيعة ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع ، وذلك عندي غلط من مطر ; لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين ، وقيل سنة سبع وعشرين ، ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير ، وكان قتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ، وغير جائز ولا ممكن أن يسمع سليمان بن يسار من أبي رافع ، وممكن صحيح أن يسمع سليمان بن يسار من ميمونة لما ذكرنا من مولده ، ولأن ميمونة مولاته ، ومولاة إخوته أعتقتهم وولاؤهم لها ، وتوفيت ميمونة سنة ست وستين ، وصلى عليها ابن عباس ، فغير نكير أن يسمع منها ، ويستحيل أن يخفى عليه أمرها ، وهو مولاها ، وموضعه من الفقه موضعه .

وقصة ميمونة هذه أصل هذا الباب عند أهل العلم ، وغير ممكن سماعه من أبي رافع ، فلا معنى لرواية مطر ، وما رواه مالك أولى ، وبالله التوفيق .

[ ص: 152 ] أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوارق قال : حدثنا الخضر بن داود قال : حدثنا أحمد بن محمد بن هانئ أبو بكر الأثرم قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن مطر الوراق ، عن ربيعة ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو حلال ، وبنى بها ، وهو حلال ، وكنت الرسول بينهما .

وحدثناه عبد الوارث بن سفيان قراءة مني عليه : أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن مطر قال : حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة حلالا ، وبنى بها حلالا ، وكنت الرسول بينهما .

قال أبو عمر :

في رواية مالك لهذا الحديث دليل على جواز الوكالة في النكاح ، وهو أمر لا أعلم فيه خلافا ، والرواية : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو حلال ، متواترة ، عن ميمونة بعينها ، وعن أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعن سليمان بن يسار مولاها ، وعن يزيد بن الأصم ، وهو ابن أختها ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وأبي بكر بن عبد الرحمن [ ص: 153 ] وابن شهاب ، وجمهور علماء المدينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكح ميمونة إلا وهو حلال قبل أن يحرم .

وما أعلم أحدا من الصحابة روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة ، وهو محرم إلا عبد الله بن عباس ، ورواية من ذكرنا معارضة لروايته ، والقلب إلى رواية الجماعة أميل ; لأن الواحد أقرب إلى الغلط ، وأكثر أحوال حديث ابن عباس أن يجعل متعارضا مع رواية من ذكرنا ، فإذا كان كذلك ، سقط الاحتجاج بجميعها ، ووجب طلب الدليل على هذه المسألة من غيرها ، فوجدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن نكاح المحرم ، وقال : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح فوجب المصير إلى هذه الرواية التي لا معارض لها ; لأنه يستحيل أن ينهى عن شيء ويفعله ، مع عمل الخلفاء الراشدين لها ، وهم عمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم ، وهو قول ابن عمر ، وأكثر أهل المدينة ، وسنذكر حديث عثمان في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

[ ص: 154 ] وذكر مالك ، عن داود بن الحصين ، عن أبي غطفان بن طريف المري قال : تزوج أبي وهو محرم ، ففرق بينهما عمر بن الخطاب .

وروى قتادة ، عن الحسن سمعه يحدث عن علي بن أبي طالب قال : أيما رجل نكح وهو محرم ، فرقنا بينه وبين امرأته ، وروى الثوري ، عن قدامة بن موسى قال : سألت سعيد بن المسيب عن محرم نكح ، قال : يفرق بينهما ، فهؤلاء يفسخون نكاح المحرم ، وهم جلة العلماء من الصحابة والتابعين ، والتفريق لا يكون إلا عن بصيرة مستحكمة ، وإن ذلك لا يكون عندهم - والله أعلم - كذلك إلا لصحته عندهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : لا يتزوج المحرم ، ولا يخطب على غيره .

[ ص: 155 ] وروى مالك ، وأيوب ، وعبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب .

قال عبد الرزاق : وأخبرني معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن ميمون بن مهران قال : سألت صفية ابنة شيبة : أتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو محرم ؟ فقالت : بل تزوجها ، وهو حلال .

قال : وأخبرنا معمر ، عن أيوب ، وجعفر بن برقان قالا : كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران أن يسأل يزيد بن الأصم كيف تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة أحلالا أم حراما ؟ فسأله فقال : بل تزوجها حلالا ، وكتب بذلك إليه ، فهذا عمر بن عبد العزيز يقنع في ذلك بيزيد ( لعلمه باتصاله بها ، وهي خالته ، ولثقته به .

قال عبد الرزاق : وأخبرنا معمر ، عن الزهري قال : أخبرني يزيد بن الأصم ) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة حلالا .

وروى حماد بن سلمة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن ميمون بن [ ص: 156 ] مهران ، عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة قالت : تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسرف ، وهما حلالان بعد ما رجع من مكة ، وقرأت على سعيد بن نصر : أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : أخبرنا ابن وضاح قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : أخبرنا يحيى بن آدم قال : أخبرنا جرير بن حازم قال : حدثنا أبو فزارة ، عن يزيد بن الأصم قال : حدثتني ميمونة بنت الحارث ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تزوجها وهو حلال قال : وكانت خالتي ، وخالة ابن عباس .

واختلف فقهاء الأمصار في نكاح المحرم ، فقال مالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري : لا بأس أن ينكح المحرم ، وأن ينكح .

[ ص: 157 ] وذكر عبد الرزاق ، عن محمد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه : أنه لم ير بنكاح المحرم بأسا .

قال : وأخبرنا الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : يتزوج المحرم إن شاء لا بأس به ، قال : وقال لي الثوري : لا تلتفت فيه إلى قول أهل المدينة .

وحجة مالك ، ومن قال بقوله حديث عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن ذلك مع ما ذكرناه عن الصحابة في هذا الباب ، وتفرقة عمر بينهما تدلك على قوة بصيرته في ذلك .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : أخبرنا قاسم بن أصبغ قال : أخبرنا أحمد بن زهير قال : أخبرنا عبد الله بن جعفر قال : أخبرنا عبيد الله بن عمرو ، عن عبد الكريم ، عن ميمون بن مهران قال : أتيت صفية بنت شيبة ، امرأة كبيرة ، فقلت لها : أتزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو محرم ؟ قالت لا ، والله لقد تزوجها وهما حلالان .

وحجة العراقيين في ذلك حديث ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة بسرف ، وهو محرم ، رواه عن ابن عباس عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وجابر بن يزيد أبو الشعثاء ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح ، كلهم عن ابن عباس بهذا الحديث .

وذكر ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار قال : حدثت ابن شهاب ، عن جابر بن يزيد ، عن ابن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 158 ] نكح ميمونة ، وهو محرم فقال ابن شهاب : حدثني يزيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو حلال قال : قلت لابن شهاب : أتجعل حفظ ابن عباس كحفظ أعرابي يبول على فخذيه ؟

حدثناه قاسم بن محمد قال : أخبرنا خلف بن سعيد قال : أخبرنا أحمد بن عمرو قال : أخبرنا محمد بن سنجر قال : أخبرنا أبو المغيرة قال : حدثنا الأوزاعي قال : حدثنا عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو محرم .

قال سعيد بن المسيب : وهم ابن عباس ، وإن كانت خالته ، ما تزوجها إلا بعد ما أحل .

قال أبو عمر :

هكذا في الحديث قال سعيد بن المسيب : فلا أدري أكان الأوزاعي يقوله أو عطاء .

[ ص: 159 ] قال أبو عمر :

واختلف أهل السير في الأخبار في تزويج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، فقالت طائفة : تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو محرم ، وقال آخرون : تزوجها ، وهو حلال ، على حسب اختلاف الفقهاء سواء .

وذكر الأثرم عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال : لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر توجه إلى مكة معتمرا سنة سبع ، وقدم عليه جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة ، فخطب عليه ميمونة ابنة الحارث الهلالية ، وكانت أختها لأمها أسماء بنت عميس ، ثم جعفر بن أبي طالب ، وسلمى بنت عميس ، ثم حمزة بن عبد المطلب ، وأختها لأبيها وأمها أم الفضل تحت العباس ، فأجابت جعفر بن أبي طالب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وجعلت أمرها إلى العباس فأنكحها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، فلما رجع بنى بها بسرف حلالا .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدثنا محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العام المقبل عام الحديبية [ ص: 160 ] معتمرا في ذي القعدة سنة سبع ، وهو الشهر الذي صده فيه المشركون عن المسجد الحرام ، فلما بلغ موضعا ذكره ، بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة بنت الحارث بن حزن العامرية فخطبها عليه ، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب ، فزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حلال .

قال أبو عمر :

قال أبو عبيدة : ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وقال ابن شهاب : العامرية ، وهي من ولد هلال بن عامر بن صعصعة ، وقد ذكرت نسبها مرفوعا في كتاب الصحابة ، وبالله التوفيق ، وعليه التوكل .

التالي السابق


الخدمات العلمية