التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
127 [ ص: 161 ] حديث سابع لربيعة مرسل منقطع

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن : أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت مضطجعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب واحد ، وأنها وثبت وثبة شديدة ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لك ؟ لعلك نفست - يعني الحيضة - قالت : نعم قال : شدي على نفسك إزارك ، ثم عودي إلى مضجعك .


[ ص: 162 ] ( هكذا هذا الحديث في الموطأ - كما روي - منقطع ) ، ويتصل معناه من حديث أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم أنه روي من حديث عائشة بهذا اللفظ ألبتة ، وسنذكر في هذا الباب ما روي فيه عن عائشة ، وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله .

ولم يختلف رواة الموطأ في إرسال هذا الحديث كما روي .

وروى حبيب ، عن مالك ، عن الزهري ، عن عروة ، وسعيد بن المسيب ، عن عائشة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضاجع أم سلمة ، وهي حائض ، عليها بعض الإزار ، وما انفرد به حبيب لا يحتج به .

وفيه من الفقه نوم الرجل الشريف مع أهله في ثوب واحد وسرير واحد .

وفيه أن الحيض قد يأتي فجأة دون مقدمة من العلامات لبعض النساء ، وبعضهن ترى قبله صفرة أو كدرة كما ترى بعده .

وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله لقوله : ما لك ؟ لعلك نفست .

وقوله نفست يقول : لعلك أصبت بالدم يعني الحيضة ، والنفس الدم ، ألا ترى إلى قول إبراهيم النخعي ، وهو عربي فصيح : كل ما ليس له نفس سائلة يموت في الماء لا يفسده ، يعني دما سائلا .

وفيه أن الحائض يجوز أن يباشر منها ما فوق الإزار لقوله : ثم عودي إلى مضجعك ، ومعلوم أنها إذا عادت إليه في ثوب واحد [ ص: 163 ] معه أن يباشرها ، فإذا كان ذلك كذلك ، كان هذا الحديث يفسر قول الله عز وجل فاعتزلوا النساء في المحيض ; لأنه يحتمل قوله " اعتزلوا النساء " أي : لا تكونوا معهن في البيوت ، ويحتمل اعتزلوا وطأهن لا غير ، فأتت السنة مبينة مراد الله عز وجل من قوله ذلك .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد قال : حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك : أن اليهود كانت إذا حاضت منهن امرأة أخرجوها من البيت ، ولم يواكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيت ، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض إلى آخر الآية . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء غير النكاح ، فقالت اليهود : ما يريد هذا الرجل أن يدع شيئا من أمرنا إلا خالفنا فيه ، فجاء [ ص: 164 ] أسيد بن حضير ، وعباد بن بشر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا له : يا رسول الله إن اليهود تقول كذا ، وكذا أفلا ننكحهن في المحيض ، فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أنه قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث في أثرهما فسقاهما ، فظننا أنه لم يجد عليهما .

أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو سلمة ، عن أم سلمة قالت : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لحافه فوجدت ما يجد النساء من الحيضة ، فانسللت من اللحاف فقال [ ص: 165 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنفست ؟ قلت : وجدت ما يجد النساء من الحيضة ، قال : ذلك ما كتب الله على بنات آدم ، قالت : فانسللت فأصلحت من شأني ، ثم رجعت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تعالي فادخلي في اللحاف ، قالت : فدخلت معه .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا محمد بن سابق قال : حدثنا شيبان ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : حضت وأنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخميلة ، قالت : فانسللت فخرجت منها ، فأخذت ثياب حيضتي فلبستها ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أنفست ؟ قالت : قلت : نعم ، فدعاني فأدخلني معه في الخميلة .

هذا حديث حسن صحيح ثابت في معنى حديث ربيعة ، عن عائشة ، رواه عن يحيى بن أبي كثير جماعة هكذا ، ورواه محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة كما ذكرنا ، والقول عندهم قول يحيى بن أبي كثير ، وهو أثبت من محمد بن عمرو في أم [ ص: 166 ] سلمة ، وقد أدخل بين أبي سلمة ، وأم سلمة زينب بنت أم سلمة ، وهو الصواب .

وحدثني محمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب القاضي قال : حدثنا مسدد بن مسرهد قال : حدثنا أبو عوانة ، عمرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها كانت تنام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض ، وبينهما ثوب ( وعمرو بن أبي سلمة كان شعبة يضعفه ، وليس بالحافظ ، وإسناد يحيى عن أبي سلمة ، عن زينب ، عن أم سلمة صحيح عندهم ، وإسناد حديث عائشة أيضا ، وميمونة في هذا الباب صحيح ، والحمد لله ) .

حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تتزر ، ثم يضاجعها ، وقال مرة : يباشرها .

وحدثني محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا الحارث بن مسكين قراءة عليه ، وأنا أسمع ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن حبيب مولى عروة ، عن [ ص: 167 ] ندية ( وكان الليث يقول : ندبة ) مولاة ميمونة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يباشر المرأة من نسائه وهي حائض إذا كان عليها إزار يبلغ أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به . ، وفي حديث الليث : محتجزته .

( حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا يزيد بن خالد قال : حدثنا الليث ، عن ابن شهاب ، عن حبيب مولى عروة ، عن ندية مولاة ميمونة ، عن ميمونة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يباشر امرأته وهي حائض إذا كان عليها إزار إلى أنصاف الفخذين أو الركبتين تحتجز به ) .

قال أبو داود : يونس يقول : ندية ، ومعمر يقول : ندبة .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : [ ص: 168 ] حدثنا جرير ، عن الشيباني ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا في فوح حيضتنا أن نتزر ، ثم يباشرنا ، وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه ؟ .

( وذكر دحيم ، قال : حدثنا الوليد بن سلم قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد ، عن سويد بن قيس التجيبي أن قرط بن عوف حدثه أنه سأل عائشة فقال : يا أم المؤمنين أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاجعك ، وأنت حائض ؟ فقالت : نعم ، إذا [ ص: 169 ] شددت علي إزاري ، وذلك إذ لم يكن إلا فراش واحد ، فلما رزقنا الله فراشين ، اعتزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لا نعلم يروى إلا من حديث ابن لهيعة ، وليس بحجة ) ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا عبد الواحد قال : حدثنا سليمان الشيباني قال : حدثنا عبد الله بن شداد ، عن ميمونة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه ، وهي حائض ، أمرها فائتزرت .

وحدثنا عبد الله بن محمد الجهني قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا محمد بن شعيب قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا إذا كانت حائضا أن تشد إزارها ، ثم يباشرها . ( وروي عن عائشة رضي الله عنها من وجوه حسان كلها ) .

قال أبو عمر :

هذه الآثار كلها في معنى حديث ربيعة ، عن عائشة ، وظاهرها أن الحائض لا يباشر منها إلا ما فوق الإزار .

[ ص: 170 ] واختلف الفقهاء في مباشرة الحائض ، وما يستباح منها ، فقال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف : له منها ما فوق المئزر .

وممن روى عنه هذا المعنى القاسم ، وسالم ، وحجتهم ما ذكرنا في هذا الباب من الآثار ، عن عائشة ، وميمونة ، وأم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال الثوري ، ومحمد بن الحسن ، وبعض أصحاب الشافعي : يجتنب مواضع الدم ، وممن روى عنه هذا المعنى ابن عباس ، ومسروق ، والنخعي ، وعكرمة ، وهو قول داود بن علي .

ومن حجتهم حديث ثابت ، عن أنس قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( جامعوهن في البيوت ، واصنعوا كل شيء ما خلا النكاح ) أو قال : ما خلا الجماع ، وقد ذكرناه في هذا الباب .

ومن حجتهم أيضا حديث عائشة قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن حيضتك ليست في يدك . ا هـ .

( أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن ثابت بن عبيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : [ ص: 171 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن حيضتك ليست في يدك ) .

وحدثنا عمر بن الحسين بن محمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا أسد بن موسى ا هـ .

ووجدت في أصل سماع أبي رحمه الله بخطه أن محمد بن أحمد بن قاسم بن هلال حدثهم قال : حدثنا سعيد بن عثمان قال : حدثنا نصر بن مرزوق قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن ثابت بن عبيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ناوليني الخمرة من المسجد ، قلت : إني حائض قال : إن حيضتك ليست في يدك .

قال أسد بن موسى ، وحدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أنس ، عن ابن عمر ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله .

قال أسد : وحدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن أنس ، عن عائشة مثله ، ولم يذكر ابن عمر .

[ ص: 172 ] ( وذكر دحيم ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البهي ، عن ابن عمر ، عن عائشة مثله ) .

قال دحيم : وحدثنا محمد بن عبيد ، عن حريث ، عن عامر ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ناوليني الثوب ، قلت : إني حائض ، قال : إن الحيض ليس في يدك فناولته ، قال دحيم : وحدثنا يعلى ، عن عثمان بن حكيم ، عن جدته الرباب : أن عثمان بن حنيف قال : يا جارية ناوليني الخمرة فقالت : لست أصلي فقال : إن حيضتك ليست في يدك ، فناولته ، فقام فصلى .

[ ص: 173 ] قال أبو عمر :

فدل ما في هذا الحديث أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة ، يعني ما كان قبل الحيض ، ودل على أن الحيض ليس يغير شيئا من المرأة مما كان عليه قبل ، غير موضع الحيض وحده .

( قال أبو جعفر الطحاوي : ما في هذا الحديث أن كل عضو منها ليس فيه الحيضة في الطهارة ، يعني ما كان عليه قبل ، غير موضع الحيض وحده ) .

وروى أبو معشر ، عن إبراهيم ، عن مسروق قال : سألت عائشة : ( ( ما يحل لي من امرأتي ، وهي حائض ؟ فقالت : كل شيء إلا الفرج ) ) رواه أيوب ، عن أبي معشر ، وروى أيوب أيضا ، عن أبي قلابة ، عن عائشة مثله .

وأخبرنا عمر بن حسين ، عن أبيه قال : حدثني علي بن أحمد بن أبي جعفر الطحاوي ، عن أبيه قال : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدثنا شعيب بن الليث قال : حدثنا الليث ، عن بكر بن الأشج ، عن أبي مرة ، عن عقيل ، عن حكيم بن عفان قال : سألت عائشة : ما يحرم علي من امرأتي إذا حاضت ؟ فقالت : فرجها . ( وذكره دحيم ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، عن [ ص: 174 ] سعيد بن أيوب ، عن يزيد بن حبيب ، عن بكر بن عبد الله الأشج ، عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب ، عن حكيم بن عقال قال : سألت عائشة : ما يحرم علي من امرأتي ، وهي حائض ؟ قالت : فرجها ) .

ومن حجة من قال الأول : ما رواه زيد بن أسلم : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحل لي من امرأتي ، وهي حائض ؟ فقال : لتشد عليها إزارها ، ثم شأنك بأعلاها ، وحديث ميمونة ، وأم سلمة ، وعائشة على ما ذكرنا في هذا الباب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض إلا وهي متزرة ، وهو المبين عن الله مراده قولا وعملا - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر :

يحتمل أن يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - بمباشرة الحائض ، وهي متزرة على الاحتياط ، والقطع للذريعة ، ولو أنه أباح فخذها كان ذلك ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع ، فنهى عن ذلك احتياطا ، والمحرم بعينه موضع الأذى ، ويشهد لهذا ظاهر القرآن ، وإجماع معاني الآثار لئلا يتضاد ، وبالله التوفيق .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : قال : حدثنا عبد الله يعني [ ص: 175 ] ابن عمر بن غانم ، عن عبد الرحمن يعني ابن زياد ، عن عمارة بن غراب : أن عمة له حدثته أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها إلا فراش واحد ، قالت : أخبرك بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل فمضى إلى المسجد ، قال أبو داود : تعني مسجد بيته فلم ينصرف حتى غلبتني عيناي ، وأوجعه البرد فقال : ادن مني ، فقلت : إني حائض فقال : وأن اكشفي عن فخذك ، فكشفت ، فوضع خده وصدره على فخذي ، وحنيت عليه حتى دفئ ونام .

واختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته ، وهي حائض ، فقال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وهو قول ربيعة ، ويحيى بن سعيد : يستغفر الله ، ولا شيء عليه ، ولا يعود ، وبه قال داود .

وروي عن محمد بن الحسن أنه قال : يتصدق بنصف دينار .

وقال أحمد بن حنبل : يتصدق بدينار أو نصف دينار .

وقال أحمد : ما أحسن حديث عبد الحميد ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يتصدق بدينار ، أو نصف [ ص: 176 ] دينار ، وقال الطبري : يستحب له أن يتصدق بدينار أو نصف دينار ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وهو قول الشافعي ببغداد .

وقالت فرقة من أهل الحديث : إن وطئ في الدم فعليه دينار ، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار .

قال أبو عمر :

حجة من قال بهذا القول : ما رواه علي بن الحكم البناني ، عن أبي الحسن الجزري ، عن مقسم ، عن ابن عباس مرفوعا قال : إذا أصابها في الدم فدينار ، وإذا أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار . ( سواء ، وحجة من قال بقول محمد بن الحسن ما رواه خصيف ، عن مقسم ) .

وكذلك رواه ابن جريج ، عن عبد الكريم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ( مرفوعا قال : إذا أصابها في الدم فدينار ، وإذا [ ص: 177 ] أصابها في انقطاع الدم فنصف دينار ) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا وقع بأهله ، وهي حائض ، فليتصدق بنصف دينار .

وقال أبو داود كذلك قال علي بن بذيمة ، عن مقسم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( مرسل ، وحجة من قال بقول أحمد بن حنبل ما رواه الحكم بن عتيبة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته ، وهي حائض ، قال : يتصدق بدينار أو نصف دينار .

( قال أبو داود : هكذا الرواية الصحيحة دينار أو نصف دينار ) قال : وربما لم يرفعه شعبة ، عن الحكم .

وقال الأوزاعي : من وطئ امرأته ، وهي حائض ، تصدق بخمسي دينار ، رواه عن زيد بن أبي مالك ، عن عبد الحميد [ ص: 178 ] بن عبد الرحمن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمره أن يتصدق بخمسي دينار .

قال أبو عمر :

وحجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة - اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس ، وأن مثله لا تقوم به حجة ، وأن الذمة على البراءة ، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره ، إلا بدليل لا مدفع فيه ، ولا مطعن عليه ، وذلك معدوم في هذه المسألة .

واختلف الفقهاء أيضا في وطء الحائض بعد الطهر ، وقبل الغسل فقال مالك ، وأكثر أهل المدينة : إذا انقطع عنها الدم لم يجز وطؤها حتى تغتسل ، وبه قال الشافعي ، والطبري ، ومحمد بن سلمة .

وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها ، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل ، أو يدخل عليها وقت صلاة .

قال أبو عمر :

هذا تحكم لا وجه له ، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحيض في العدة ، وقالوا : لزوجها عليها الرجعة ما لم تغتسل ( فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل ) ، وهو الصواب مع موافقة أهل المدينة ، وبالله التوفيق .

[ ص: 179 ] فإن قيل : إن في قول الله عز وجل ولا تقربوهن حتى يطهرن بعد قوله فاعتزلوا النساء في المحيض دليلا على أن المحيض إذا زال وطهرن ؛ جاز إتيانهن من حيث أمرنا باجتنابهن ، فالجواب : أن في قول الله عز وجل : فإذا تطهرن فأتوهن دليلا على بقاء تحريم الوطء بعد الطهر حتى يتطهرن بالماء ; لأن " تطهرن " تفعلن مأخوذ من قول الله وإن كنتم جنبا فاطهروا يريد الاغتسال بالماء ، وقد يقع التحريم بالشيء ، ولا يزول بزواله لعلة أخرى . دليل ذلك قول الله عز وجل في المبتوتة فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، وليس تحل له بنكاح الزوج حتى يمسها ويطلقها ، وكذلك لا تحل الحائض للوطء بالطهر حتى تغتسل ، ومثل ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض ، ومعناه حتى تضع ، وتطهر من دم نفاسها أو حيضتها ، وتغتسل منه .

ومن هذا المعنى أيضا : أن الإحرام يمنع من الطيب ، واللباس ، والصيد ، والنساء ، وقد يقع الحل من ذلك كله قبل أن يقع من وطء النساء حتى يكمل الخروج من الحج ، فيحل حينئذ الوطء ، فكذلك الحيض يوجب تحريم الصلاة والصوم وإتيان الزوج ، فإذا انقطع الدم انحل عنها بعض ذلك بإباحة الصوم لها ، وبقي تحريم الصلاة إلى أن تأتي بالطهارة ، فكذلك حكم الجماع أن يبقى تحريمه حتى لا يبقى للحيض حكم - والله أعلم - ، وفي المسألة اعتراضات ، وفيما ذكرنا كفاية ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية