التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
51 [ ص: 176 ] حديث تاسع عشر : ليحيى بن سعيد يحيى ، عن بشير بن يسار أربعة أحاديث

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار مولى بني حارثة ، عن سويد بن النعمان أنه أخبره أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء ، وهي من أدنى خيبر نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى العصر ، ثم دعا بالأزواد ، فلم يؤت إلا بالسويق ، فأمر به ، فثري ، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا ، ثم قام إلى المغرب ، فمضمض ، ومضمضنا ، ثم صلى ، ولم يتوضأ .


وبشير بن يسار هذا هو بشير بن أبي كيسان مولى بني حارثة من الأنصار مدني تابعي ثقة .

وهذا حديث صحيح إسناده ثابت معناه أدخله مالك في باب ترك الوضوء مما مست النار ، وهذا يدلك على أن السويق من الطعام الذي قد مسته النار ، وأنه لا وضوء فيه ، وقد أوضحنا هذا المعنى وجودناه من جهة الأثر ، والنظر ، ومهدناه ، وبسطناه وجلبنا فيه الاختلاف ، ووجوه الاعتلال في باب زيد بن أسلم من هذا الكتاب ، والحمد لله .

[ ص: 177 ] وأما قوله : فثري يعني بل بالماء ، ومنه قيل للتراب الندي الثرى .

وفي هذا الحديث دليل على أن الصالحين ، والفضلاء لا يستغنون عن الزاد في سفرهم ، وهو يبطل مذهب الصوفية الذين لا يدخرون لغد .

وفيه دليل على أن جمع الأزواد ، واجتماع الأيدي عليها أعظم بركة ، ولذلك قال بعض العلماء جمع الأزواد في السفر سنة ، وقد أجاز لنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي قال : حدثنا أبو بكر بن عبدان قال : حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال : حدثنا أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع ، فقال : اجمعوا أزوادكم قال : فجعل الرجل يجيء بالحفنة من التمر ، والحفنة من السويق ، وطرحوا الأنطاع أو قال الأكسية ، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده عليها ، ثم قال كلوا ، فأكلنا ، وشبعنا ، وأخذنا في مزاودنا ، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شاك ، فقد دخل الجنة .

وقد استدل بعض الفقهاء بهذا الحديث لما فيه من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخراج أزوادهم للمساواة فيها على أنه جائز للإمام ، عند قلة الطعام ، وارتفاع السعر ، وغلاء الأقوات أن يأمر من عنده طعام ، فوق قوته بإخراجه للبيع ، ويجبره على ذلك لما فيه من ترميق مهج الناس ، وإحيائهم ، والإبقاء عليهم ، وقد روينا من طريق منقطع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 178 ] أنه قال : من السنة أن يخرج القوم إذا خرجوا في سفر نفقتهم جميعا ، فإن ذلك أطيب لأنفسهم ، وأحسن لأخلاقهم .

وروينا ، عن ابن عمر من وجوه أنه قال : من كرم الرجل طيب زاده في سفره ، وروينا أن محمد بن إسحاق لما أراد الخروج إلى العراق قال له رجل من أصحابه إني أحسب السفرة عندك خسيسة يا أبا عبد الله ، وكان ابن إسحاق ذلك الوقت قد رقت حالته ، فقال : إن كانت السفرة خسيسة ، فما أخلاقنا بخسيسة ، ولربما قصر الدهر باع الكريم .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف حدثنا الحسن بن إسماعيل الضراب حدثنا علي بن جعفر الفريابي قال : حدثنا أحمد بن عبد الله الأقطع قال : حدثنا أبو زرعة الرازي قال : حدثنا سويد بن سعيد قال : حدثنا أبو فراس عبد الرحيم بن عبيد قال : سمعت ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول : للسفر مروءة ، وللحضر مروءة ، فأما المروءة في السفر ، فبذل الزاد ، وقلة الخلاف على الأصحاب ، وكثرة المزاح مساخط الله ، وأما المروءة في الحضر ، فالإدمان إلى المساجد ، وتلاوة القرآن ، وكثرة الإخوان في الله - عز وجل - .

وأتى رجلان إلى ابن عون يودعانه ، ويسألانه أن يوصيهما ، فقال لهما : عليكم بكظم الغيظ ، وبذل الزاد ، فرأى أحدهما في المنام أن ابن عون أهدى إليهما حلتين .

[ ص: 179 ] ولبعض بني أسد ، وقيل : إنها لحاتم الطائي :


إذا ما رفيقي لم يكن خلف ناقتي له مركب فضلا فلا حملت رجلي     ولم يك من زادي له شطر مزودي
فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا فضل     شريكان فيما نحن فيه وقد أرى
علي له فضلا بما نال من فضل

وقال آخر :


وإني لأستحيي رفيقي أن يرى     مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
أبيت هضيم الكشح مضطرم الحشى     من الجوع أخشى الذم أن أتضلعا
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله     وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا



التالي السابق


الخدمات العلمية