التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1631 [ ص: 198 ] حديث حاد وعشرون ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار أنه أخبره : أن عبد الله بن سهل الأنصاري ، ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر ، فتفرقا في حوائجهما ، فقتل عبد الله بن سهل ، فقدم محيصة ، فأتى هو وأخوه حويصة ، وعبد الرحمن بن سهل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب عبد الرحمن ليتكلم لمكانه من أخيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كبر كبر ، فتكلم محيصة وحويصة ، فذكرا شأن عبد الله بن سهل ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أتحلفون خمسين يمينا ، وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم . قالوا : يا رسول الله لم نشهد ، ولم نحضر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، فقالوا : يا رسول الله كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ قال يحيى : فزعم بشير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداه من عنده .


لم يختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث ، وقد رواه حماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، والليث بن سعد ، وعبد الوهاب الثقفي ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، وبعضهم يجعل مع سهل بن أبي حثمة رافع بن خديج جميعا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلهم يجعله عن سهل بن أبي حثمة مسندا .

[ ص: 199 ] أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو بن ميسرة ، ومحمد بن عبيد المعنى قالا : حدثنا حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج : أن محيصة بن مسعود ، وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر ، فتفرقا في النخل ، فقتل عبد الله بن سهل ، فاتهموا اليهود ، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل ، وأنبأ عميه حويصة ومحيصة ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه ، وهو أصغرهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الكبر الكبر ، قال : ليبدأ الأكبر ، فتكلموا في أمر صاحبهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يقسم منكم خمسون على رجل فيدفع برمته ، قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم . قالوا : يا رسول الله قوم كفار ، قال : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبله قال : قال سهل : دخلت مربد التمر ، فركضتني ناقة من تلك الأبل ركضة برجلها هذا أو نحوه .

قال أبو داود : رواه مالك ، وبشر بن المفضل ، عن يحيى ، فقالا فيه : أتحلفون خمسين يمينا ، وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم ؟ ولم يذكر بشير " دم " ، وقال عبدة : عن يحيى كما قال حماد .

[ ص: 200 ] قال أبو عمر : في حديث حماد بن زيد هذا دليل واضح على أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد ; لأنه أمرهم بتعيين رجل يقسمون عليه فيدفع إليهم برمته ، وهو حجة لمالك وأصحابه في ذلك ، وكذلك في حديث الزهري عن سهل بن أبي حثمة : تسمون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ، فيسلم إليكم .

ومن جهة النظر ، فلأن الواحد أقل من يستيقن أنه قتله ، فوجب أن يقتصر بالقسامة عليه .

قال أبو داود : ورواه ابن عيينة ، عن يحيى ، فبدأ بقوله : تبرئكم يهود بخمسين يمينا تحلفون ، ولم يذكر الاستحقاق - هكذا قال أبو داود ، وليس عندنا حديث ابن عيينة كذلك ، وهو عندنا من رواية الحميدي ، وهو أثبت الناس في ابن عيينة ما ذكره .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : أخبرني بشير بن يسار أنه سمع سهل بن أبي حثمة يقول : وجد عبد الله بن سهل قتيلا في فقير أو قليب من قلب خيبر ، فأتى أخوه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن سهل وعماه حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، فذهب عبد الرحمن يتكلم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : الكبر الكبر ، فتكلم محيصة ، فذكر مقتل عبد الله بن سهل ، فقال : يا رسول الله ، إنا وجدنا عبد الله بن [ ص: 201 ] سهل قتيلا ، وإن اليهود أهل كفر وغدر ، وهم الذين قتلوه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تحلفون خمسين يمينا ، وتستحقون صاحبكم أو دم صاحبكم ، قالوا : يا رسول الله كيف نحلف على ما لم نحضر ، ولم نشهد قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، قالوا : كيف نقبل أيمان قوم مشركين قال : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده قال سهل : فلقد ركضتني بكرة منها .

ورواه الشافعي ، وغيره جماعة عن ابن عيينة كما قال أبو داود ، وأخبرنا محمد بن إبراهيم ، وأحمد بن محمد قالا : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا عبيد الله بن يحيى قال : أخبرني أبي ، عن الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة . قال يحيى : حسبت أنه قال : وعن رافع بن خديج أنهما قالا : خرج عبد الله بن سهل بن زيد ، ومحيصة بن مسعود بن زيد حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك ، ثم إذا محيصة يجد عبد الله قتيلا ، فدفنه ثم أقبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وحويصة بن مسعود ، وعبد الرحمن بن سهل ، وكان أصغر القوم ، فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : - كبر - للكبر في السن ، فصمت ، وتكلم صاحباه ، ثم تكلم معهما ، فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقتل عبد الله بن سهل ، فقال : أتحلفون خمسين يمينا ، فتستحقون صاحبكم أو قتيلكم ، فقالوا : وكيف نحلف ، ولم نشهد : قال : فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ، [ ص: 202 ] قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى عقله .

وقد رواه بشر بن المفضل ، عن يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة قال : وجد عبد الله بن سهل قتيلا ، فجاء أخوه وعماه ، وذكر الحديث .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن إسحاق قال : فحدثني الزهري ، عن سهل بن أبي حثمة قال ابن إسحاق : وحدثني - أيضا - بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة قال : أصيب عبد الله بن سهل بخيبر ، وكان خرج إليها في أصحاب له يمتار منها تمرا ، فوجد في عين قد كسرت عنقه ، ثم طرح فيها ، فأخذوه فغيبوه ، ثم قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له شأنه ، فتقدم إليه أخوه عبد الرحمن ، ومعه ابنا عمه حويصة ومحيصة ابنا مسعود ، وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنا ، وكان صاحب الدم ، وكان ذا قدم في القوم ، فلما تكلم قبل ابني عمه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الكبر الكبر - فسكت ، فتكلم حويصة ومحيصة ، ثم تكلم هو بعد ، فذكروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل صاحبهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تسمون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين [ ص: 203 ] يمينا ، فيسلم إليكم ، فقالوا : يا رسول الله ما كنا لنحلف على ما لا نعلم ، قال : فيحلفون لكم بالله خمسين يمينا ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، ثم يبرؤون من دمه ، قالوا : يا رسول الله ما كنا لنقبل أيمان يهود ، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم ، قال : فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده مائة ناقة ، قال سهل : فوالله ما أنسى بكرة منها حمراء ضربتني ، وأنا أحوزها .

ففي هذه الروايات لمالك وغيره إثبات تبدئة المدعين بالأيمان في القسامة ، وفي حديث مالك هذا من الفقه إثبات القسامة في الدم ، وهو أمر كان في الجاهلية ، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإسلام .

ذكر معمر ، ويونس ، عن الزهري قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجال أو رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية . ذكره عبد الرزاق ، عن معمر .

وذكره ابن وهب ، عن يونس قال يونس : عن رجل ، وقال معمر : عن رجال ، وقال معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب : كانت القسامة في الجاهلية ، فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقضى بها في الأنصاري الذي وجد مقتولا في جب اليهود بخيبر .

وفيه : أن القوم إذا اشتركوا في معنى من معاني الدعوى وغيرها ، كان أولاهم بأن يبدأ بالكلام أكبرهم ; فإذا سمع منه تكلم الأصغر ، [ ص: 204 ] فيسمع منه - أيضا - إن احتيج إلى ذلك ، وهذا أدب وعلم ، فإن كان في الشركاء في القول والدعوى من له بيان ، ولتقدمته في القول وجه ، لم يكن بتقديمه بأس إن شاء الله .

أخبرنا محمد بن زكرياء قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا مروان بن محمد قال : حدثنا أبو حاتم ، عن العتبي قال : قال سفيان بن عيينة : قدم وفد من العراق على عمر بن عبد العزيز ، فنظر عمر إلى شاب منهم يريد الكلام ، ويهش إليه ، فقال عمر : كبروا ، كبروا يقول : قدموا الكبار . قال الفتى : يا أمير المومنين إن الأمر ليس بالسن ، ولو كان الأمر كذلك ، لكان في المسلمين من هو أسن منك ، قال : صدقت ، فتكلم - رحمك الله - قال إنا وفد شكر ، وذكر الخبر .

وفيه أن المدعين الدم يبدؤون بالأيمان في القسامة خاصة ، وهو يخص قول النبي - صلى الله عليه وسلم - البينة على المدعي ، واليمين على المنكر . فكأنه قال بدليل هذا الحديث إلا في القسامة ، ولا فرق بين أن يجيء ذلك في حديث واحد أو حديثين ; لأن ذلك كله بسنته - صلى الله عليه وسلم - .

وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله ، قال : حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البينة على المدعي ، واليمين على من [ ص: 205 ] أنكر إلا في القسامة .

وهذا الحديث ، وإن كان في إسناده لين ، فإن الآثار المتواترة في حديث هذا الباب تعضده ، ولكنه موضع اختلف فيه العلماء ، فقال مالك - رحمه الله - : الأمر المجتمع عليه عندنا ، والذي سمعت ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأمة في القديم والحديث أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة قال : وتلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي لم يزل عليه عمل الناس أن المبدئين في القسامة أهل الدم الذين يدعونه في العمد والخطأ ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ الحارثيين في صاحبهم الذي قتل بخيبر .

وذهب الشافعي في تبدئة المدعين الدم بالأيمان - إلى ما ذهب إليه مالك في ذلك على ظواهر هذه الأحاديث المتقدم ذكرها في هذا الباب .

ومن حجة مالك والشافعي في تبدئة المدعين الدم باليمين مع صحة الأثر بذلك : قول الله - عز وجل - ( ولكم في القصاص حياة ) ، وقوله - عز وجل - ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ) ، فالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود بدأ الحارثيين بالأيمان ، وجعل العداوة سببا تقوى به دعواهم ; لأنه لطخ يليق بهم في الأغلب لعداوتهم ، ومن سنته - صلى الله عليه وسلم - أن من قوي سببه في دعواه وجبت تبدئته باليمين ، ولهذا جاء اليمين مع الشاهد ، - والله [ ص: 206 ] أعلم - مع ما في هذا من قطع التطرق إلى سفك الدماء ، وقبض أيدي الأعداء عن إراقة دم من عادوه على الدنيا - والله أعلم - .

وذهب جمهور أهل العراق إلى تبدئة المدعى عليهم بالأيمان في الدماء كسائر الحقوق ، وممن قال ذلك : أبو حنيفة ، وأصحابه ، وعثمان البتي ، والحسن بن صالح ، وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة كل هؤلاء قالوا : يبدأ المدعى عليهم على عموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البينة على من ادعى ، واليمين على من أنكر .

حدثنا أحمد بن عبد الله ، قال : حدثنا الميمون بن حمزة ، قال : حدثنا الطحاوي ، قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي ، قال : أخبرنا مسلم بن خالد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه .

قال : وهذا على عمومه في سائر الحقوق من الدماء أو غيرها ; لأنه قد روي أن مخرج هذا الخبر كان في دعوى دم ، وذكروا ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ، والحارث بن أبي أسامة قالا : حدثنا يحيى بن أبي بكير قال : حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال : كتبت إلى ابن عباس في امرأتين أخرجت إحداهما يدها تشخب دما ، فقالت : أصابتني هذه ، وأنكرت الأخرى ، فكتب إلي ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن اليمين على المدعى عليه ، وقال : لو [ ص: 207 ] أن الناس أعطوا بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ، ادعها فاقرأ عليها ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) ، فقرأت عليها ، فاعترفت .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم ، حدثنا محمد بن الجهم ، حدثنا عبد الوهاب ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عبد الله بن أبي مليكة ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه .

قالوا : فهذا عندنا في جميع الحقوق ، وعارضوا الآثار المتقدمة بما حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا الحسن بن علي قال : حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من الأنصار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهود وبدأ بهم : أيحلف منكم خمسون رجلا فأبوا ، فقال للأنصار : استحقوا ، فقالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ؟ فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهود ; لأنه وجد بين أظهرهم .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني ، قال : حدثنا محمد بن سلمة ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ [ ص: 208 ] قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد قال : حدثني أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدثنا إبراهيم بن سعد جميعا ، عن محمد بن إسحاق ، واللفظ لحديث عبد الوارث ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن بجيد بن قيظي ، أحد بني حارثة ، قال محمد بن إبراهيم : وايم الله ما كان سهل بأكثر علما منه ، ولكنه كان أسن منه ، إنه قال : والله ما كان الشأن هكذا ، ولكن سهل أوهم ، ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : احلفوا على ما لا علم لكم به ، ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار أنه قد وجد قتيلا بين أبياتكم ، فدوه ، فكتبوا إليه يحلفون بالله ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده .

قال أبو عمر : ليس قول عبد الرحمن بن بجيد هذا مما يرد به قول سهل بن أبي حثمة ; لأن سهلا أخبر عما رأى وعاين وشاهد حتى ركضته منها ناقة واحدة ، وعبد الرحمن بن بجيد لم يلق النبي ، ولا رآه ، ولا شهد هذه القصة . وحديثه مرسل ، وليس إنكار من أنكر شيئا بحجة على من أثبته ، ولكن قد تقدم عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من الأنصار مخالفة في تبدئة الأيمان في هذه القصة - وهو حديث ثابت ، وكذلك اختلف في حديث سهل بن أبي حثمة [ ص: 209 ] - أيضا - ولكن الرواية الصحيحة في ذلك - إن شاء الله - رواية مالك ومن تابعه ، عن يحيى بن سعيد وغيره على ما ذكرناه في هذا الباب .

ومن الاختلاف في حديث سهل : ما حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سعيد - يعني ابن عبيد الطائي ، عن بشير بن يسار - أن رجلا من الأنصار ، يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره : أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر ، فتفرقوا فيها ، فوجدوا منهم قتيلا ، فقالوا للذين وجدوه عندهم : قتلتم صاحبنا ، قالوا : ما قتلناه ، ولا علمنا له قاتلا قال : فانطلقوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا نبي الله انطلقنا إلى خيبر ، فوجدنا أحدنا قتيلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الكبر ، الكبر ، فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتل ، فقالوا : ما لنا بينة ; قال : فيحلفون لكم ، قالوا : ما نرضى أيمان يهود . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة .

قال أبو عمر : هذه رواية أهل العراق عن بشير بن يسار في هذا الحديث ، ورواية أهل المدينة عنه أثبت - إن شاء الله - وهم به أقعد ، ونقلهم أصح عند أهل العلم ، وقد حكى الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه ضعف حديث سعيد بن عبيد هذا ، عن بشير بن يسار ، وقال : الصحيح عن بشير بن يسار ما رواه عنه يحيى بن سعيد قال أحمد : وإليه أذهب .

[ ص: 210 ] وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا الحسن بن علي بن راشد ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي حيان التيمي قال : حدثنا عباية بن رفاعة ، عن رافع بن خديج قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر ، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له ، فقال لهم : شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم ، قالوا : يا رسول الله لم يكن عند أحد من المسلمين ، وإنما هم يهود ، وقد يجترئون على أعظم من هذا ، قال : فاختاروا منهم خمسين فاستحلفوهم ، فأبوا ، فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده .

قال أبو عمر : في هذه الأحاديث كلها تبدئة المدعى عليهم بالأيمان في القسامة ، وفي الآثار المتقدمة عن سهل بن أبي حثمة تبدئة المدعين بالأيمان ، وقد روى ابن شهاب هذه وهذه ، وقضى بما في حديث سهل ، فدل على أن ذلك عنده الأثبت والأولى على ما قال أحمد بن حنبل ، وعلى ما ذهب إليه الحجازيون ، - والله أعلم - فإن قيل : قد روي عن ابن شهاب ، عن عراك بن مالك ، وسليمان بن يسار - أن عمر بن الخطاب بدأ المدعى عليهم بالأيمان في القسامة ، قيل له : المصير إلى المسند الثابت أولى من قول الصاحب من جهة الحجة ، وفي هذا الحديث حديث يحيى بن سعيد ، عن بشير بن يسار نكول الفريقين عن الأيمان ، وفي ذلك ما [ ص: 211 ] يدل على أن الدية إنما جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده تبرعا لئلا يبطل ذلك الدم ، وذلك ليس بواجب ، - والله أعلم - .

وقد روى ابن عبد الحكم ، عن مالك في قتيل ادعى بعض ولاته أنه قتل عمدا ، وقال بعضهم : لا علم لنا بمن قتله ولا نحلف ، فإن دمه يبطل ، وللفقهاء في القسامة وفيما يوجبها من الأسباب ، وفيما يجب بها من القود أو الدية مذاهب نذكرها هنا ( نحن ) ليتبين للناظر في كتابنا معنى القسامة بيانا واضحا - إن شاء الله .

قال مالك - رحمه الله - : القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين : إما أن يقول المقتول : دمي عند فلان ، أو يأتي ولاة المقتول بلوث من بينة ، وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم ، فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه ، فيحلف من ولاة الدم خمسون رجلا خمسين يمينا ، فإن قل عددهم أو نكل بعضهم ردت الأيمان عليهم إلا أن ينكل أحد من ولاة المقتول الذين يجوز عفوهم ، فلا يقتل حينئذ أحد ، ولا سبيل إلى الدم إذا نكل واحد منهم ، ولا ترد الأيمان على من بقي إذا نكل أحد ممن يجوز له العفو عن الدم ، وإن كان واحدا ; قال مالك : وإنما ترد الأيمان على من بقي إذا نكل أحد ممن لا يجوز له عفو ، فإن نكل واحد ممن يجوز له العفو ، فإنه إذا كان ذلك ردت الأيمان حينئذ على المدعى عليهم الدم ، فيحلف منهم خمسون رجلا [ ص: 212 ] خمسين يمينا ، فإن لم يبلغوا خمسين رجلا ردت الخمسون يمينا على من حلف منهم حتى تكمل الخمسون يمينا ، فإن لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه الدم حلف وحده خمسين يمينا ، قال مالك : لا يقسم في قتل العمد إلا اثنان من المدعين فصاعدا ، يحلفان خمسين يمينا تردد عليهما ، ثم قد استحقا الدم ، وقتلا من حلفا عليه ، ( وكذلك إن كان ولي الدم الذي ادعاه واحدا بدئ به ، فحلف وحده خمسين يمينا ، فإذا حلف المدعون خمسين يمينا استحقوا صاحبهم ، وقتلوا من حلفوا عليه ) ولا يقتل في القسامة إلا واحد ، ولا يقتل فيها اثنان ; - هذا كله قول مالك في موطئه ، وموطأ ابن وهب .

قال أبو عمر : إنما جعل مالك قول المقتول : دمي عند فلان شبهة ولطخا ، وجب به تبدئة أوليائه بالأيمان في القسامة ; لأن المعروف من طباع الناس عند حضور الموت الإنابة ، والتوبة ، والتندم على ما سلف من سيئ العمل ، ألا ترى إلى قول الله - عز وجل - ( لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) ، وقوله : ( حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) . فهذا معهود من طباع الإنسان ، وغير معلوم من عادته أن يعدل عن قاتله إلى غيره ، ويدع [ ص: 213 ] قاتله ، وما خرج عن هذا ، فنادر في الناس لا حكم له ، فلهذا وشبهه مما وصفنا ذهب مالك إلى ما ذكرنا - والله أعلم - .

وقد نزع بعض أصحابنا في ذلك بقصة قتيل البقرة ; لأنه قبل قوله في قاتله ; وفي هذا ضروب من الاعترافات ، وفيما ذكرنا كفاية - إن شاء الله .

وذكر ابن القاسم عن مالك قال : إذا شهد رجل عدل على القاتل ، أقسم رجلان خمسين يمينا ، وقال ابن القاسم : والشاهد في القسامة إنما هو لوث وليست شهادة ، وعند مالك : أن ولاة الدم إذا كانوا جماعة لم يقسم إلا اثنان ، واعتل بعض أصحابه لقوله هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عرضها على جماعة ، والقسامة في قتل الخطأ كهي في العمد لا تستحق بأقل من خمسين يمينا ، من أجل أن الدية إنما تجب عن دم ، والدم لا يستحق بأقل من خمسين يمينا ، فالقسامة على الخطأ ، وإن لم يكن يجب بها قتل ولا قود ، كالقسامة في قتل العمد ، واليمين في القسامة على من سمى أنه ضربه ، وأن من ضربته مات ، فإن أقسم ولاة المقتول على واحد ; لأنه لا يقتل بالقسامة أكثر من واحد قتل المحلوف عليه ، فإن كان معه ممن ادعي عليه الدم جماعة غيره ضربوا مائة مائة ، وسجنوا سنة ، ثم خلي عنهم ، والدية في [ ص: 214 ] قتل الخطأ على عاقلة الذي يقسمون عليه أنه مات من فعله به خطأ ، قال مالك : وإنما يحلفون في قسامة الخطأ على قدر ميراث كل واحد منهم في الدية ، فإن وقع في الأيمان كسور أتممت اليمين على أكثرهم ميراثا ، ومعنى ذلك أن يحلف هذا يمينا ، وهذا يمينا ، ثم يرجع إلى الأول فيحلف ، ثم الذي يليه حتى تتم الأيمان كلها .

وقال مالك : إذا ادعى الدم بنون أو إخوة ، فعفا أحدهم عن المدعى عليه لم يكن إلى الدم سبيل ، وكان لمن بقي منهم أنصباؤهم من الدية بعد أيمانهم ، قال ابن القاسم : لا يكون لهم من الدية شيء إلا أن يكونوا قد أقسموا ، ثم عفا بعضهم ، فأما إذا نكل أحدهم عن القسامة لم يكن لمن بقي شيء من الدية .

ولأصحاب مالك في عفو العصبات مع البنات ، وفي نوازل القسامة مسائل لا وجه لذكرها هاهنا .

وقال مالك في الموطأ : إنما فرق بين القسامة في الدم ، وبين الأيمان في الحقوق ، وأن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه ، وأن الرجل إذا أراد أن يقتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس ، وإنما يلتمس الخلوة ، قال : فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت بالبينة ، وعمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء وبطلت ، واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدؤون فيها ، ليكف الناس عن الدم ، وليحذر القاتل أن يؤخذ في ذلك بقول المقتول .

[ ص: 215 ] وقال الشافعي : إذا وجد القتيل في دار قوم محيطة أو قبيلة - وكانوا أعداء للمقتول ، وادعى أولياؤه قتله ، فلهم القسامة ، وكذلك الزحام إذا لم يفترقوا حتى وجدوا بينهم قتيلا ، أو في ناحية ليس إلى جانبه إلا رجل واحد ، أو يأتي شهود متفرقون من المسلمين من نواح لم يجتمعوا فيها ، يثبت كل واحد منهم على الانفراد على رجل أنه قتله ، فتتواطأ شهادتهم ، ولم يسمع بعضهم بشهادة بعض ، وإن لم يكونوا ممن يعدل ، أو شهد رجل عدل أنه قتله ; لأن كل سبب من هذا يغلب على عقل الحاكم أنه كما ادعى وليه ، فللولي حينئذ أن يقسم على الواحد وعلى الجماعة ، سواء كان جرحا أو غيره ; لأنه قد يقتل بما لا أثر له ، قال : ولا ينظر إلى دعوى الميت .

وقال الأوزاعي : يستحلف من أهل القرية خمسون رجلا خمسين يمينا ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، فإن حلفوا بروا ، وإن نقصت قسامتهم وليها المدعون ، فأحلفوا بمثل ذلك عن رجل واحد ، فإن حلفوا استحقوا ، وإن نقصت قسامتهم أو نكل رجل منهم لم يعطوا الدم ، وعقل قتيلهم إذا كان بحضرة الذين ادعي عليهم في ديارهم .

وقال الليث بن سعد : الذي يوجب القسامة أن يقول المقتول قبل موته : فلان قتلني ، أو يأتي من الصبيان أو النساء أو النصارى ومن أشبههم ممن لا يقطع بشهادته - أنهم رأوا هذا حين قتل هذا ، فإن القسامة تكون مع ذلك [ ص: 216 ] وقال أبو حنيفة : إذا وجد قتيل في محلة ، وبه أثر ، وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه ، أو على واحد منهم بعينه ; استحلف من أهل المحلة خمسون رجلا بالله ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، يختارهم الولي ، فإن لم يبلغوا خمسين كرر عليهم الأيمان ، ثم يغرمون الدية ، وإن نكلوا عن اليمين حبسوا حتى يقروا أو يحلفوا ، وهو قول زفر .

وروى الحسن بن زياد ، عن أبي يوسف : إذا أبوا أن يقسموا تركهم ولم يحبسهم ، وجعل الدية على العاقلة في ثلاث سنين .

وقالوا جميعا يعني أبا حنيفة ، وأصحابه : إن ادعى الولي على رجل من غير أهل المحلة ، فقد أبرأ أهل المحلة ، ولا شيء له عليهم .

وقال الثوري في هذا كله مثل قول أبي حنيفة ، إلا أن ابن المبارك روى عن الثوري : أنه إن ادعى الولي على رجل بعينه من أهل المحلة ، فقد برئ أهل المحلة ، وصار دمه هدرا ، إلا أن يقيم البينة على ذلك الرجل .

وقال الحسن بن حي : يحلف من كان حاضرا من أهل المحلة من ساكن أو مالك خمسين يمينا ما قتلته ، ولا علمت قاتلا ، فإذا حلفوا كان عليهم الدية ، ولا يستحلف من كان غائبا ، وإن كان مالكا ، وسواء كان به أثر أو لم يكن .

وقال عثمان البتي : يستحلف منهم خمسون رجلا ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، ثم لا شيء ذلك إلا أن تقوم البينة على رجل بعينه أنه قتله .

[ ص: 217 ] وكان مسلم بن خالد الزنجي ، وأهل مكة لا يرون القسامة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، وسالم بن عبد الله ، وقتادة ، والحسن ، وإليه ذهب ابن علية .

وقال الحسن البصري : القتل بالقسامة جاهلية .

قال أبو عمر : من حجة مالك ، والشافعي في أحد قوليه : أنه يوجب القود في القسامة ، ومن قال بقولهما مع الآثار المتقدم ذكرها في هذا الباب - ما حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمود بن خالد ، وكثير بن عبيد قالا : حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك .

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه قضى فيها بالقود ، وقضى بها عبد الله بن الزبير ، وحسبك بقول مالك - أنه الذي لم يزل عليه علماء أهل المدينة قديما ، وحديثا ، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة لقوله في هذا الباب بحديث مالك ، عن ابن أبي ليلى ، عن سهل بن أبي حثمة في هذه القصة قوله : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب . قالوا ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ذلك لهم إلا وقد تحقق عندهم قبل [ ص: 218 ] ذلك وجود القتيل بخيبر ، فدل ذلك على وجوب الدية على اليهود لوجود القتيل بينهم ; لأنه لا يجوز أن يؤذنوا بحرب إلا بمنعهم حقا واجبا عليهم .

واحتجوا - أيضا - بما روي عن عمر بن الخطاب في رجل وجد قتيلا بين قريتين ، فجعله على أقربهما ، وأحلفهم خمسين يمينا ما قتلنا ، ولا علمنا قاتلا ، ثم أغرمهم الدية .

فقال الحارث بن الأزمع : نحلف ونغرم ؟ قال : نعم ، قالوا : وحديث سهل مضطرب ، قالوا : والمصير إلى حديث ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وسليمان بن يسار ، عن رجال من الأنصار في هذه القصة أولى ; لأن نقلته أئمة فقهاء حفاظ لا يعدل بهم غيرهم ، وفيه : فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية على اليهود ; لأنه وجد بين أظهرهم .

وأما مالك ، والشافعي ، والليث بن سعد فقالوا : إذا وجد قتيل في محلة قوم أو قبيلة قوم ، لم يستحق عليهم بوجوده شيء ، ولم تجب به قسامة حتى تكون الأسباب التي شرطوها كل على أصله الذي قدمنا عنه .

قال ابن القاسم ، عن مالك : سواء وجد القتيل في محلة قوم ، أو دار قوم ، أو أرض قوم ، أو في سوق أو مسجد جماعة ، فلا شيء فيه ، ولا قسامة ، وقد طل دمه .

[ ص: 219 ] قال أبو عمر : المحلة قرية البوادي ، والمجاشر ، والقياطن ، وكذلك القبائل ، والمياه ، والأحياء ، وقال الشافعي : إذا وجد في محلة أو قبيلة قتيل ، وهم أعداؤه لا يحيط بهم غيرهم ، فذلك لوث يقسم معه ، وإن خالطهم غيرهم ، فقد طل دمه إلا أن يدعي الأولياء على أهل المحلة ، فيحلفون ، ويبرؤون ، وفرق الشافعي بين أن يكون أهل القبيلة والمحلة أعداء المقتول ، فيجعل عقله عليهم مع القسامة أو لا يكونوا ، فلا يلزمهم شيء ، وكذلك لو وجد قتيل في ناحية ليس بقرية - إلا رجل واحد وجد بقرية رجل في يده سكين ملطوخة بالدم ، فإنه يجعل ذلك لوثا يقسم معه ، وسواء كان به أثر أم لم يكن .

واعتبر أبو حنيفة - إن كان بالقتيل أثر ، فيجعله على القبيلة ، أو لا يكون أثر له فلا يجعله على أحد ، وقول الثوري ، وابن شبرمة ، وعثمان البتي ، وابن أبي ليلى في القسامة كقول أبي حنيفة إلا أنه سواء عندهم كان به أثر أم لم يكن به أثر .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي ، وسائر أهل العلم غير مالك : لا يعتبر بقول المقتول : دمي عند فلان ، ولا يستحق بهذا القول قسامة .

واحتج جماعة من المالكيين لمذهب مالك في ذلك بقصة المقتول من بني إسرائيل - إذ ذبحت البقرة وضرب ببعضها ، فأحياه الله ، وقال : [ ص: 220 ] فلان قتلني ، فأخذ بقوله ، ورد المخالف هذا بأن تلك آية لبني إسرائيل لا سبيل إليها اليوم ، وبأن شريعتنا فيها أن الدماء والأموال لا تستحق بالدعاوى دون البينات ، ولم نتعبد بشريعة من قبلنا لقوله - عز وجل - ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) .

وقتيل بني إسرائيل لم يقسم أحد عليه مع قوله : هذا قتلني ، وهذا لا يقوله أحد من علماء المسلمين أن المدعى عليه يقتل بقول المدعي دون بينة ولا قسامة ، فلا معنى لذكر قتيل بني إسرائيل هاهنا ، وقد أجمع العلماء على أن قول الذي تحضره الوفاة لا يصدق على غيره في شيء من الأموال ، فالدماء أحق بذلك ، وقد علمنا أن من الناس من يحب الاستراحة من الأعداء للبنين والأعقاب ، ونحو هذا مما يطول ذكره .

وقال مالك : إذا كان القتل عمدا حلف أولياء المقتول خمسين يمينا على رجل واحد وقتلوه ; قال ابن القاسم : لا يقسم في العمد إلا اثنان كما أنه لا يقتل بأقل من شاهدين ، وكذلك لا يحلف النساء في العمد ; لأن شهادتهن لا تجوز فيه ، ويحلفن في الخطأ من أجل أنه مال ، وشهادتهن جائزة في الأموال .

وعند الشافعي : يقسم الولي واحدا كان أو أكثر على واحد مدعى عليه ، وعلى جماعة مدعى عليهم ، ومن حجة الشافعي أنه ليس في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم منكم خمسون على رجل منهم ، فيدفع إليهم برمته ما يدل على أنه لا يجوز قتل أكثر من واحد ، وإنما فيه التنبيه [ ص: 221 ] على تعيين المدعى عليه الدم واحدا كان أو جماعة .

ومن حجته - أيضا - في ذلك أن القسامة بدل من الشهادة ، فلما كانت الشهادة تقتل بها الجماعة ، فكذلك القسامة ، - والله أعلم - ، والاحتجاج على هذه الأقوال ‌‌ولها يطول ، والله المستعان .

وقال أبو حنيفة : لا يستحق بالقسامة قود خلاف قول مالك ، وعلى كلا القولين جماعة من السلف ، وعن الشافعي روايتان ، إحداهما : أن القسامة يستحق بها القود ، ويقتل بها الواحد والجماعة إذا أقسموا عليهم في العمد ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم ، والقول الآخر كقول أبي حنيفة - أن القسامة توجب الدية دون القود في العمد والخطأ جميعا ، إلا أنها في العمد في أموال الجناة ، وفي الخطأ على العاقلة ، والحجة من جهة الأثر في إسقاط القود في القسامة حديث أبي ليلى ، عن سهل ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب ، وتأول من ذهب إلى هذا في قوله : دم صاحبكم ( دية صاحبكم ) ; لأن من استحق دية صاحبه ، فقد استحق دمه ; لأن الدية قد تؤخذ في العمد ، فيكون ذلك استحقاقا للدم .

قال أبو عمر : الظاهر في ذكر الدم القود ، - والله أعلم - ، وسيأتي ذكر حديث أبي ليلى في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله . ويأتي القول في هذا المعنى فيه هناك بعون الله .

[ ص: 222 ] قال أبو عمر : كل من أوجب الحكم بالقسامة من علماء الحجاز والعراق ، فهم في ذلك على معنيين ، وقولين : فقوم أوجبوا الدية والقسامة بوجوب القتيل فقط ، ولم يراعوا معنى آخر ، وقوم اعتبروا اللوث ، فهم يطلبون ما يغلب على الظن ، وما يكون شبهة يتطرق بها إلى حراسة الدماء ، ولم يطلبوا في القسامة الشهادة القاطعة ولا العلم البت ، وإنما طلبوا شبهة ، وسموه لوثا ; لأنه يلطخ المدعى عليه ، ويوجب الشبهة ، ويتطرق بها إلى حراسة الأنفس ، وحقن الدماء ; إذ في القصاص حياة ، والخير كله في ردع السفهاء والجناة ، وقد قدمنا عن مالك وغيره هذا المعنى ، فلذلك وردت القسامة - والله أعلم - .

ولا أصل لهم ( في القسامة ) غير قصة عبد الله بن سهل الحارثي الأنصاري المقتول بخيبر على ما قد ذكرنا من الروايات بذلك على اختلافها موعبة واضحة في هذا الباب ، والحمد لله .

وفي رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأيمان في القسامة - دليل على رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه عنها في سائر الحقوق ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي في رد اليمين ، وهذا أصلهم في ذلك .

وأما أبو حنيفة ، وأهل العراق ، فهم يقضون بالنكول ، ولا يرون رد يمين في شيء من الحقوق والدعاوى ، والقول برد اليمين أولى وأصح لما روي من الأثر في ذلك ، وأما النكول فلا أثر فيه ، ولا أصل يعضده ، ولم نر في الأصول حقا ثبت على منكر بسبب واحد ، والنكول سبب واحد ، فلم يكن بد من ضم شيء غيره إليه ، كما ضم شاهد إلى شاهد مثله أو يمين الطالب - والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية