التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
558 [ ص: 180 ] حديث ثامن لربيعة منقطع يتصل من وجوه

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أصابته مصيبة فقال كما أمره الله : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي ، وأعقبني خيرا منها ، إلا فعل الله ذلك به .

قالت أم سلمة : فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ، ثم قلت : ومن خير من أبي سلمة ؟ فأعقبها الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتزوجها
ا هـ .


هكذا روى يحيى هذا الحديث ، وتابعه جماعة من رواة الموطأ ، ورواه ابن وهب فقال : حدثني مالك بن أنس ، عن ربيعة أن أبا سلمة قال لأم سلمة : لقد سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاما ما أحب أن لي به حمر النعم ، سمعته يقول : ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي ، وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله ذلك به [ ص: 181 ] قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت ذلك ، ثم قلت : ومن خير من أبي سلمة ؟ ، ثم قلته ، فأعقبني الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر :

هذا الحديث يتصل من وجوه شتى ، إلا أن بعضهم يجعله لأم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعضهم يجعله لأم سلمة ، عن أبي سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك اختلف فيه أيضا عن مالك على حسب ما ذكرناه ، وهذا مما ليس يقدح في الحديث ; لأن رواية الصحابة بعضهم عن بعض ، ورفعهم ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء عند العلماء ; لأن جميعهم مقبول الحديث ، مأمون على ما جاء به ، بثناء الله عليهم ، وقد أوضحنا هذا المعنى في غير هذا الموضع ، وأبو سلمة مات قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصحابة فأغنى ذلك عن ذكره هاهنا اهـ .

أخبرني أحمد بن محمد قال : أخبرنا وهب بن مسرة قال : أخبرنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن أم سلمة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا حضرتم الميت أو المريض ، فقولوا خيرا ; فإن الملائكة يؤمنون على ما [ ص: 182 ] تقولون ، قالت : فلما مات أبو سلمة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله إن أبا سلمة قد مات قال : قولي اللهم اغفر له ، وأعقبني منه عقبى حسنة ، قالت : ففعلت فأعقبني الله من هو خير منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سعد بن سعيد قال : أخبرني عمر بن كثير بن أفلح قال : سمعت [ ص: 183 ] ابن سفينة يحدث أنه سمع أم سلمة تقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلفني خيرا منها ، إلا أجره في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها ، قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخلفني الله خيرا منه محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو بكر : وحدثنا ابن نمير قال : حدثنا سعد بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح قال : أخبرني علي بن سفينة مولى أم سلمة ، عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فذكر مثله ، إلا أنه قال : فقلت من هو خير من أبي سلمة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ، ثم عزم لي فقلتها .

قال أبو عمر :

هكذا يقول في هذا الحديث سعد بن سعيد بإسناده ، عن أم سلمة سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وخالفه سعيد بن [ ص: 184 ] أبي هلال ( في الإسناد ، وجعله عن أم سلمة ، عن أبي سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره ابن وهب قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن سعيد بن أبي هلال ) ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أم أيمن مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : أخبرتني أم سلمة زوج النبي عليه السلام أن أبا سلمة أتاها يوما فقال : لقد سمعت اليوم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاما لهو أحب إلي من حمر النعم ، قالت : وما هو يا أبا سلمة ؟ قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من رجع عند مصيبة ، ثم قال : اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلفني خيرا منها ، كان له ذلك ، قالت : فلما أصيب أبو سلمة ، ثم قلت : اللهم أجرني في مصيبتي قالت : وهممت أن أقول : وأخلف لي خيرا منها ، ثم قلت : ومن خير من أبي سلمة قالت : ورسول - صلى الله عليه وسلم - أمامي متوكئ على أبي بكر ممسك بيده قالت : ثم قلتها قالت : فشد على يدي أبي بكر .

قال أبو عمر : هكذا قال سعيد بن أبي هلال ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أم [ ص: 185 ] أيمن ، وقال سعد بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن علي بن سفينة - والله أعلم - .

وأما إسناده عن أبي سلمة فهو الصحيح ، وبالله التوفيق .

حدثني سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا عبد الملك بن قدامة الجمحي ، عن أبيه ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن أم سلمة : أن أبا سلمة حدثها أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما من مسلم أصيب بمصيبة فيفزع لما أمره الله به من قول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها ، وعضني خيرا منها ، إلا أجره الله عليها ، وعاضه خيرا منها ، قالت : فلما توفي أبو سلمة ذكرت الذي حدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم إني احتسبت عندك مصيبتي ، فأجرني عليها ، فلما أردت أن أقول : عضني خيرا منها ، قلت في نفسي : أعاض خيرا من أبي سلمة ؟ ، ثم قلتها ، فعاضني الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وأجرني في مصيبتي .

[ ص: 186 ] قال أبو عمر :

عبد الملك بن قدامة هذا هو عبد الملك بن قدامة بن محمد بن حاطب الجمحي مدني ثقة شريف .

وأخبرني أبو عبد الله عبيد بن محمد ، ومحمد بن عبد الملك قالا : أخبرنا عبد الله بن مسور العسال قال : حدثنا عيسى بن مسكين قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر قال : حدثنا عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي قال : حدثنا حماد بن سلمة قال : أخبرنا ثابت قال : [ ص: 187 ] أخبرني عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد ، عن أمه أم سلمة أن أبا سلمة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها ، وأبدلني بها خيرا منها ، قالت : فلما احتضر أبو سلمة بن عبد الأسد قال : اللهم اخلفني في أهلي بخير مني ، فلما قبض أبو سلمة قلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها ، فكنت إذا أردت أن أقول : وأبدلني خيرا منها قلت : ومن خير من أبي سلمة ؟ فلم أزل حتى قلتها ، قال : فلما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته ، ثم خطبها عمر فردته ، ثم بعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطبها فقالت : مرحبا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومرحبا بالله ورسوله : أقرئ رسول الله السلام ، وأخبره أني امرأة غيرى ، وأنا مصبية ، وليس أحد من أوليائي شاهدا ، قال : فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما قولك : إني غيرى ، فإني سأدعو الله أن يذهب غيرتك ، وأما قولك : إني مصبية فإن الله سيكفيك ، وأما أولياؤك فليس أحد منهم شاهدا ولا غائبا إلا سيرضاني ، فقالت لابنها : قم يا عمر فزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزوجها ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إني لا أنقصك مما أعطيت أختك فلانة جرتين ، ورحى ، ووسادة [ ص: 188 ] من أدم ، حشوها ليف ، قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتيها ، وهي ترضع زينب ، فكان إذا جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذتها فوضعتها في حجرها ترضعها ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبيبا كريما ، فرجع فنظر إليها عمار بن ياسر ، وكان أخاها من الرضاعة فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيها ذات يوم فجاء عمار فدخل عليها ، فأهبط زينب من حجرها ، وقال : دعي هذه المقبوحة المشقوحة التي قد آذيت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل فجعل يلتفت ينظر في البيت ، ويقول : أين زناب ؟ وما فعلت زناب ؟ وما لي لا أرى زنابا ؟ فقالت : جاء عمار فذهب بها ، فبنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأهله ، وقال لها : إن سبعت لك سبعت للنساء .

قال أبو عمر :

ليس في حديث أم سلمة من رواية مالك معنى يشكل ، ولا موضع تنازعه العلماء في التأويل ، وإنما هو دعاء واسترجاع وتعز ، ومعنى قوله إنا لله أي نحن لله وعبيد وخلق خلقنا للفناء [ ص: 189 ] وإنا إليه راجعون أي : إليه نصير ، وإليه نرجع ; لأنه تبارك اسمه إليه يرجع الأمر كله والخلق كله ; فلا بد من الموت والرجوع إلى الله ، أي : فما لنا نجزع مما لا بد لنا منه ، ولا محيد عنه ، وهذا أحسن شيء ، وأبلغه في حسن العزاء ، وفيه إيمان ، وإخلاص ، وإقرار بالبعث ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية