التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
990 [ ص: 242 ] حديث ثامن وعشرون ليحيى بن سعيد

يحيى ، عن عمرو بن كثير

مالك ، عن عمرو بن كثير بن أفلح ، عن أبي محمد مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة بن ربعي أنه قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين ، فلما التقينا ، كانت للمسلمين جولة قال : فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين قال : فاستدرت له حتى أتيته من ورائه ، فضربته بالسيف على حبل عاتقه ، فأقبل علي ، فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت ، فأرسلني قال : فلقيت عمر بن الخطاب ، فقلت : ما بال الناس ؟ فقال : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه قال : فقمت ثم قلت : من يشهد لي ؟ ، ثم جلست ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه ، فقمت ، فقلت : من يشهد لي وجلست . ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما لك يا أبا قتادة ؟ فاقتصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله ، وسلب ذلك القتيل عندي ، فأرضه منه يا رسول الله ، فقال أبو بكر : لاها الله إذا لا يعمد . إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : صدق ، فأعطه إياه [ ص: 243 ] فأعطانيه ، فبعت الدرع ، فاشتريت به مخرفا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام .


هكذا قال يحيى : عن مالك في هذا الحديث ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن كثير ، وتابعه قوم ، وقال الأكثر : عمر بن كثير بن أفلح .

وقال الشافعي ، عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن كثير بن أفلح ، ولم يسمه ، والصواب فيه : عن مالك عمر بن كثير ، وكذلك قال فيه كل من رواه عن يحيى بن سعيد ; منهم ابن عيينة ، وحفص بن غياث .

وقال البخاري ، والعقيلي : عمر بن كثير بن أفلح مدني روى عنه ابن عجلان ، وغيره .

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي عن عمر بن كثير بن أفلح ، فقال : هذا مولى أبي أيوب روى عنه ابن عون .

وذكر البخاري ، والعقيلي في باب عمرو بن كثير بن أفلح مدني ، روى عنه ابن أبي فديك ، وعثمان بن اليمان .

قال أبو عمر : عمرو بن كثير بن أفلح الذي روى عنه ابن أبي فديك ليس هو عمر الذي روى عنه يحيى بن سعيد ، وإنما الذي روى عنه يحيى بن سعيد هو الذي روى عنه ابن عجلان ، وغيره .

وهو الذي روى عنه [ ص: 244 ] ابن عون ، وهو من التابعين ممن لقي ابن عمر ، وأنس بن مالك ، وهو كبير أكبر من عمرو بن كثير ، وأظنهما أخوين ، ولكن عمر بن كثير بن أفلح أجل من عمرو بن كثير بن أفلح وأشهر ، وهو الذي في الموطأ ، وليس لعمرو بن كثير في الموطأ ذكر إلا عند من لم يقم اسمه وصحفه .

وأما أبو محمد مولى أبي قتادة ، فمن كبار التابعين ، واسمه نافع يعرف بالأقرع ، وقد روى عنه ابن شهاب وحسبك ، وروى عنه صالح بن كيسان وجماعة من الجلة .

وأما أبو قتادة الأنصاري ، فاسمه الحارث بن ربعي على اختلاف قد ذكرناه في كتاب الصحابة ، وكان يقال له : فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، - - ولم يقل ذلك لغيره - كما قيل لخالد بن الوليد : سيف الله ، وكان أبو قتادة من شجعان فتيان الصحابة - رضي الله عنهم - .

ورواية ابن عيينة لهذا الحديث مختصرة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمر بن كثير بن أفلح ، عن أبي محمد ، عن أبي قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفله سلب قتيله .

وأما مالك ، فساق سياقة حسنة - وكان حافظا ، وروى هذا الحديث حماد بن سلمة قال : حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن [ ص: 245 ] أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم حنين : ‌‌ من قتل كافرا ، فله سلبه ، فقتل أبو طلحة عشرين قتيلا ، وأخذ أسلابهم . وقال أبو قتادة : يا رسول الله : إني ضربت رجلا على حبال العاتق ، وعليه درع ، فأعجلت عنها أن آخذها ، فانظر مع من هي ؟ ، فقام رجل فقال : أنا أخذتها ، فأرضه منها أو أعطنيها ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت . فقال عمر : لا ينزعها من أسد من أسد الله ، ويعطيكها . فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : صدق عمر .

وفي حديث أبي قتادة هذا من الفقه : معرفة غزاة حنين ، وذلك أمر يستغنى بشهرته عن إيراده ، ولولا كراهتنا التطويل لذكرنا هنا خبر تلك الغزاة ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير .

وفي هذا الحديث دليل على أن المسلمين هزموا يوم حنين ، وأنهم كانت لهم الكرة بعد ، والظفرة ، والغلبة ، والحمد لله . وقال الله - عز وجل - ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) الآية ، وقال الله - عز وجل - ( وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ) .

وفيه دليل على موضع أبي قتادة من النجدة والشجاعة ، وفيه أن السلب للقاتل ، وهذا موضع اختلف فيه السلف والخلف على وجوه نذكرها إن شاء الله ، ولهذه النكتة ، وهذا المعنى جلب هذا الحديث ونقل ، فجملة مذهب مالك أنه لا ينفل إلا بعد إحراز الغنيمة ، وقد [ ص: 246 ] ذكرنا حكم النفل في مذهبه ، ومذهب غيره في باب نافع من هذا الكتاب .

قال مالك : وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتل قتيلا ، وله عليه بينة ، فله سلبه بعد أن برد القتال يوم حنين ، ولم يحفظ عنه ذلك في غير يوم حنين قال : ولا بلغني فعله عن الخليفتين ، فليس السلب للقاتل حتى يقول ذلك الإمام ، والاجتهاد في ذلك إلى الإمام .

وقال ابن أبي زيد : ظاهر حديث أبي قتادة هذا يدل على أن ذلك حكم فيما مضى ، ولم يرد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون أمرا لازما في المستقبل ; لأنه أعطاه السلب بشهادة رجل واحد بلا يمين ، ويخرج ذلك على الاجتهاد من الخمس إذا رأى ذلك الإمام مصلحة ، والاجتهاد فيه مؤتنف .

قال أبو عمر : بل أعطاه إياه ، - والله أعلم - لأنه أقر له به من كان قد حازه لنفسه في القتال ، ثم أقر أن أبا قتادة أحق بما في يديه منه ، فأمر بدفع ذلك إليه .

قال مالك : والسلب من النفل ، والفرس من النفل ، وكذلك قال ابن عباس ، ولا نفل في ذهب ولا فضة ، ولا نفل إلا من الخمس ، ويكون في أول مغنم وآخره على الاجتهاد ، وكره مالك أن يقول الإمام : من أصاب شيئا فهو له ، وكره أن يسفك أحد دمه على هذا ، وقال : هو قتال على جعل ، وكره للإمام أن يقول : من قاتل فله كذا ، ومن بلغ موضع كذا فله كذا ، ومن قتل قتيلا فله كذا أو نصف ما غنم قال : وإنما [ ص: 247 ] نفل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد القتال .

هذا جملة مذهب مالك في هذا الباب ، ومذهب أبي حنيفة ، والثوري نحو ذلك ، واتفق مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة على أن السلب من غنيمة الجيش حكمه كحكم سائر الغنيمة إلا أن يقول الأمير : من قتل قتيلا ، فله سلبه ، فيكون حينئذ له .

وقال الأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد : السلب للقاتل على كل حال ، قال ذلك الأمير أو لم يقله ، إلا أن الشافعي قال : إنما يكون السلب للقاتل إذا قتل قتيله مقبلا عليه ، وأما إذا قتله وهو مدبر عنه ، فلا سلب له .

وقال الأوزاعي ، ومكحول : السلب مغنم ، ويخمس .

قال الشافعي : يخمس كل شيء من الغنيمة إلا السلب ، فإنه لا يخمس ، وهو قول أحمد بن حنبل ، والطبري ، واحتجوا بقول عمر بن الخطاب : كنا لا نخمس السلب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين قال : بارز البراء بن مالك أخو أنس بن مالك مرزبان الزآرة ، فقتله وأخذ سلبه ، فبلغ سلبه ثلاثين ألفا ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فقال لأبي طلحة : إنا كنا لا نخمس السلب ، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ، ولا أرانا إلا خامسيه .

وذكر ابن أبي شيبة ، عن عيسى بن يونس ، عن ابن عون ، وهشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان الزآرة ، فطعنه طعنة دق قربوس سرجه وقتله وسلبه ، فذكر معنى ما تقدم .

[ ص: 248 ] قال محمد بن سيرين ، فحدثني أنس بن مالك أنه أول سلب خمس في الإسلام ، وقال إسحاق بهذا القول : إذا استكثر الإمام السلب خمسه ، وذلك إليه .

وقد حدثنا محمد بن عبد الله بن حكم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب القاضي قال : حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير أن عمر بن الخطاب بعث أبا قتادة فقتل ملك فارس بيده ، وعليه منطقة ثمنها خمسة عشر ألف درهم ، فنفله عمر إياها .

وذكر ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال لي عمر : بلغني أنك بارزت دهقانا وقتلته قلت : نعم ، فأعجبه ذلك ، ونفله سلبه .

قال أبو عمر : أحسن شيء في هذا مما يحتج به مرفوعا : ما حدثناه عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سعيد بن منصور قال أخبرنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن [ ص: 249 ] عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي ، وخالد بن الوليد : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ، ولم يخمس السلب

. وقال محمد بن جرير : من قتل قتيلا كان له سلبه ، نادى به الإمام أم لم يناد ، مقبلا قتله أو مدبرا ، هاربا أو مبارزا ، إذا كان في المعركة ، وليس سبيل السلب سبيل النفل ; لأن النفل لا يكون إلا أن يتقدم الإمام به قبل .

قال أبو عمر : روى عبد الرزاق ، ومحمد بن بكر ، عن ابن جريج قال : سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول : لم نزل نسمع إذا التقى المسلمون والكفار ، فقتل رجل من المسلمين رجلا من الكفار فإن سلبه له ; إلا أن يكون في معمعة القتال ، فإنه لا يدرى حينئذ من قتل قتيلا ، وظاهر هذا الحديث يرد قول الطبري لاشتراطه في السلب القتل في المعركة خاصة .

وقال أبو ثور : السلب لكل قاتل ، في معركة كان أو غير معركة ، في الإقبال والإدبار ، والهروب والانتهاز - على كل الوجوه ، واحتج قائلو هذه المقالة بعموم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتل قتيلا فله سلبه لم يخص حالا من حال ، واحتجوا - أيضا - بخبر سلمة بن الأكوع .

[ ص: 250 ] قال أبو عمر : ليس في خبر سلمة بن الأكوع حجة لأبي ثور ، ولا لغيره على الشافعي ; لأن سلمة لم يقتله إلا ملاقيا ومتحيلا في قتله مغافصا له ، وقد قيل إنه بارزه .

وأخبرنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا هشام بن عبد الملك قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني إياس بن سلمة قال : حدثني أبي سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هوازن قال : فبينما نحن نعود نتضحى ، إذ جاء رجل على جمل أحمر ، فانتزع طاقا من خف البعير ، فقيد به بعيره ، ثم جاء يمشي حتى قعد معنا يتغذى ، فنظر في القوم ، فإذا في أظهرهم رقة ، وأكثرهم مشاة ، فلما نظر إلى القوم خرج ، فانطلق يعدو ، فأتى بعيره ، فقعد عليه ، فخرج يركضه ، وهو طليعة للكفار ، فاتبعه رجل منا من أسلم على ناقة له ورقاء ، قال إياس : قال أبي : فاتبعته أعدو قال : والناقة عند ورك الجمل ، فلحقته ، فكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى آخذ بخطام البعير ، فاخترطت سيفي ، فضربت رأسه ، فبرد ، ثم جئت بناقته أقودها عليها سلبه ، فاستقبلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الناس ، فقال : من قتل الرجل ؟ قالوا : ابن الأكوع ، قال : لك سلبه أجمع .

[ ص: 251 ] وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع ، عن أبي العميس ، عن إياس بن سلمة ، عن أبيه : أنه بارز رجلا ، فقتله ، فنفله النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه .

واحتج أصحاب الشافعي لمذهبهم في أن القاتل لا يستحق سلب قتيله إلا أن يقتله ، مقبلا بأشياء يطول ذكرها ، أحسنها عندي ما ذكره أبو العباس بن سريج قال : ليس الحديث من قتل قتيلا فله سلبه على عمومه لاجتماع العلماء على أن من قتل أسيرا أو امرأة أو شيخا أنه ليس له سلب واحد منهم ، وكذلك من دفف على جريح ، أو قتل من قد قطعت يداه ورجلاه قال : وكذلك المنهزم لا يمتنع في انهزامه ، وهو كالمكتوف ، فعلم بذلك أن الحديث إنما جعل السلب لمن في قتله معنى زائد ، ولمن في قتله فضيلة ، وهو القاتل في الإقبال لما في ذلك من المؤنة ، ولم يكن مخرج الحديث إلا على من في قتله مؤنة ، وله شوكة ، وأما من أثخن فلا ، ولو كان - كما زعموا - كان الذي أثخنه أولى بسلبه ، وليس بقاتل ، والسلب إنما هو للقاتل على المعنى الذي وصفنا ، - والله أعلم - هذا معنى قوله .

وقال المزني ، عن الشافعي : الغنيمة كلها مقسومة على ما وصفنا إلا السلب للقاتل في الإقبال ، قال ذلك الإمام أو لم يقله ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل أبا قتادة يوم حنين سلب قتيله ، وما نفله إياه إلا بعد تقضي [ ص: 252 ] الحرب ، ونفل محمد بن مسلمة ثياب مرحب يوم خيبر ، ونفل يوم بدر عددا أسلابا ، ويوم أحد رجلا أو رجلين أسلاب قتلاهم قال : وما علمته حضر محضرا فقتل رجل قتيلا في الإقبال إلا نفله سلبه . قال : ولقد فعل ذلك بعد النبي أبو بكر ، وعمر .

قال أبو عمر : أما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين : من قتل قتيلا فله سلبه ، فمحفوظ من رواية الثقات غير مختلف فيه ، وأما قوله ذلك يوم بدر وأحد ، فأكثر ما يوجد ذلك في رواية أهل المغازي ، وقد روي من حديث أهل السير وغيرهم أن سعد بن أبي وقاص قتل يوم بدر سعيد بن العاصي ، وأخذ سيفه ، فنفله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه حتى نزلت سورة الأنفال ، وأن الزبير بن العوام بارز يومئذ رجلا فقتله ، فنفله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلبه ، وأن ابن مسعود نفله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ سيف أبي جهل .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ يعني يوم حنين : من قتل كافرا فله سلبه ، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم ، ولقي أبو طلحة [ ص: 253 ] أم سليم ، ومعها خنجر ، فقال : يا أم سليم ما هذا معك ؟ قالت : أردت والله إن دنا مني بعضهم أن أبعج به بطنه ، فأخبر بذلك أبو طلحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا سعيد بن سليمان قال : حدثنا يوسف بن الماجشون قال : حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن جده عبد الرحمن بن عوف : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن السلب للقاتل .

قال أبو عمر : حديث عبد الرحمن بن عوف هذا أصله يوم بدر .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل الترمذي قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال : حدثني يوسف بن الماجشون ، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف قال : إني لواقف يوم بدر ، فنظرت عن يميني وشمالي ، فإذا أنا بين فتيين من الأنصار حديثة أسنانهما ، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فعرفني أحدهما ، فقال لي : يا عم أتعرف أبا جهل ؟ قال : قلت : نعم ، فما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 254 ] والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا قال : فتعجبت من ذلك قال : وغمزني الآخر ، فقال مثله ، فلم أنشب أن رأيت أبا جهل يجول في الناس ، فقلت لهما : ألا تريان ؟ هذا هو صاحبكما الذي تسألاني عنه ، فابتدراه ، فضرباه بسيفهما حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبراه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيكما قتله ؟ قال كل واحد منهما : أنا قتلته قال : فهل مسحتما سيفكما ؟ قالا : لا ، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سيفهما ، فقال : كلاكما قتله ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، والآخر معاذ بن عفراء .

وحدثنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا يوسف بن يعقوب الماجشون قال : حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن جده قال : بينما أنا واقف في الصف يوم بدر ، فذكر مثله سواء إلى آخره .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا موسى بن معاوية حدثنا وكيع قال : حدثنا إسرائيل ، وأبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر ، وقد ضربت رجله ، وهو صريع ، وهو يذب الناس عنه بسيفه ، فذكر قصة قال : فأخذت سيفه ، فضربته حتى برد ، وزاد فيه أبي ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، فنفلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه .

[ ص: 255 ] واحتج بهذه الآثار من قال : إن السلب للقاتل على كل حال ، نادى به الإمام أم لم يناد ، ولا حجة في ذلك ; لأن ذلك كان فيما ذكروا قبل نزول ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية ، واحتج من جعل ذلك إلى الإمام ، وأنه أمر ليس بلازم إلا أن يجتهد في ذلك الإمام ، وينادي به على حسبما يراه ، وأن له منع القاتل من السلب ، وله إعطاؤه على حسبما يؤدي إليه اجتهاده بما حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثني صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي قال : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ، ورافقني مودي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه ، فنحر رجل من المسلمين جزورا ، فسأله المودي طائفة من جلده ، فأعطاه إياه ، فاتخذه كهيئة الدرق ، ومضينا فلقينا جموع الروم ، وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب ، وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يغري بالمسلمين ، وقعد له المودي خلف صخرة ، ومر به الرومي ، فعرقب فرسه ، فخر ، وعلاه فقتله ، وحاز فرسه وسلاحه ، فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد ، فأخذ منه السلب ، قال عوف : [ ص: 256 ] فأتيته ، فقلت : يا خالد أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ، قال : بلى ، ولكني استكثرته ، فقلت : لتردنه إليه أو لأعرفنك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأبى أن يرد عليه ; قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاقتصصت عليه قصة المودي وما فعل خالد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا خالد ما حملك على ما صنعت ؟ ، فقال : يا رسول الله استكثرته له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا خالد رد عليه ما أخذت منه . فقال عوف : دونك يا خالد ، ألم أف لك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ فأخبرته ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : يا خالد لا ترده عليه ; هل أنتم تاركون لي أمرائي ؟ لكم صفوة أمرهم ، وعليهم كدره .

قال : وحدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا الوليد قال سألت ثورا عن هذا الحديث ، فحدثني عن خالد بن معدان ، عن جبير بن نفير ، عن عوف بن مالك الأشجعي - نحوه .

وذكر هذا الحديث أبو إسحاق الفزاري ، عن صفوان بن عمرو بإسناده ، ومعناه .

قال الفزاري : وأخبرني غير صفوان ، عن خالد بن معدان بنحو حديث صفوان ، وهذا الحديث يدل على ما ذكرنا أن السلب إنما يكون [ ص: 257 ] للقاتل إذا أمضى ذلك الإمام ، ورآه وأداه إليه اجتهاده ، وهذا كله يدل على صحة ما ذهب إليه مالك في هذا الباب ، - والله أعلم - .

وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن شبر بن علقمة العبدي قال : كنا بالقادسية ، فخرج رجل منهم ، عليه السلاح والهيئة ، فقال : مرد ، ومرد . يقول : رجل إلى رجل ، فعرضت على أصحابي أن يبارزوه ، فأبوا ، وكنت رجلا قصيرا قال : فتقدمت إليه ، فصاح صوتا ، وهدر ، وصحت ، وكبرت ، وحمل علي ، فاحتملني ، فضرب بي قال : وتميل به فرسه ، فأخذت خنجره ، فوثبت على صدره ، فذبحته قال : وأخذت منطقة له ، وسيفا ، ودرعا ، وسوارين ، فقوم باثني عشر ألفا ، فأتيت به سعد بن مالك ، فقال : رح إلي ، ورح بالسلب ; قال : فرحت إليه ، فقام على المنبر ، فقال : هذا سلب شبر بن علقمة ، خذه هنيئا مريئا ، فنفلنيه كله . وهذا يدل على أن أمر السلب إلى الأمير ، - والله أعلم - .

وذكر ابن أبي شيبة عن وكيع ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس مثله بمعناه في قصة شبر بن علقمة يوم القادسية قال : وأخبرنا أبو الأحوص ، عن الأسود بن قيس ، عن شبر بن علقمة قال : بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته ، وأخذت سلبه ، فأتيت سعدا ، فخطب سعد أصحابه ، ثم قال : هذا سلب شبر بن علقمة لهو خير من اثني عشر ألف درهم ، وإنا قد نفلناه إياه .

[ ص: 258 ] قال أبو عمر : لو كان السلب للقاتل قضاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما احتاج الأمراء إلى أن يضيفوا ذلك إلى أنفسهم باجتهادهم ، ولأخذه القاتل دون أمرهم ، - والله أعلم - .

واختلف الفقهاء في الرجل يدعي أنه قتل رجلا بعينه ، وادعى سلبه ، فقالت طائفة منهم : يكلف على ذلك البينة ، فإن جاء بشاهدين أخذه ، وإن جاء بشاهد واحد حلف معه ، وكان له سلبه ، واحتجوا بحديث أبي قتادة ، وبأنه حق يستحق مثله بشاهد ويمين ، وممن قال ذلك الشافعي ، والليث بن سعد ، وجماعة من أصحاب الحديث .

وقال الأوزاعي : إذا قال أنه قتله أعطي سلبه ، ولم يسأل عن ذلك بينة .

واختلفوا في النفر يضربون الرجل الكافر ضربات مختلفة ، فكان الشافعي يقول : إذا قطع يديه ورجليه ، ثم قتله آخر ، فالسلب لقاطع اليدين والرجلين ، فإن ضربه وأثبته ، وبقي معه ما يمتنع به ، ثم قتله آخر ، كان السلب للآخر ، وإنما يكون السلب لمن صيره بحال لا يمتنع فيها .

واختلف الشافعي ، والأوزاعي في مبارز عانق رجلا ، وحمل عليه آخر فقتله ، فقال الأوزاعي : السلب للمعانق ، وقال الشافعي : السلب للقاتل .

وفي هذا الباب مسائل كثيرة لها فروع لو ذكرناها خرجنا عن تأليفنا ، وفيما أوردنا من أصول هذا الباب بما فيه كفاية ، وبالله التوفيق .

[ ص: 259 ] وأما قوله : فاشتريت به مخرفا في بني سلمة ، فقال ابن وهب : هي الجنينة الصغيرة ، وقال غيره : هو ما يخرف ، ويخترف ، أي : يحفظ ، ويجتنى ، وهو الحائط الذي فيه ثمر قد طاب وبدا صلاحه ، قالوا : والحائط يقال له بالحجاز الخارف ، والخارف بلغة أهل اليمن : الذي يجتني لهم الرطب .

وقال أبو عبيد : يقال النخل بعينه مخرف قال : ومنه قول أبي طلحة : إن لي مخرفا .

قال : وقال الأصمعي في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عائد المريض في مخارف الجنة .

قال : واحدها مخرف ، وهو جني النخل ، وإنما سمي مخرفا ; لأنه يخرف منه أي يجتنى منه .

قال الأخفش : المخرف - بكسر الميم القطعة من النخل التي يخترف منها ، والمخرف بفتح الميم النخل - أيضا - .

وأما قوله : فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام - فإنه أراد أول أصل باق من المال اقتناه وجمعه ، ومن اكتسب ما يبقى ويحمد ، فقد تأثل .

قال امرؤ القيس :


ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

وقال لبيد :


لله نافلة الأجل الأفضل     وله العلى وأثيث كل مؤثل

ومن هذا حديث عمر في وقفه أرضه قال : ولمن وليها أن يأكل منها ، أو يوكل صديقا غير متأثل مالا .

التالي السابق


الخدمات العلمية