التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
270 [ ص: 288 ] حديث ثان وثلاثون ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز : أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ، قال المخدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت ، فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد ، فأخبرته بالذي قال أبو محمد ، قال عبادة : كذب أبو محمد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خمس صلوات كتبهن الله - عز وجل - على العباد ، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه ، وإن شاء أدخله الجنة .


لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث ، فهو حديث صحيح ثابت ، رواه عن محمد بن يحيى بن حبان جماعة منهم يحيى بن سعيد ، وعبد ربه بن سعيد ، ومحمد بن إسحاق ، وعقيل بن خالد ، ومحمد بن عجلان ، وغيرهم بهذا الإسناد ، ومعناه سواء ; إلا أن ابن عجلان وعقيلا لم يذكرا المخدجي في إسناده ، فيما روى الليث عنهما [ ص: 289 ] ورواه الليث - أيضا - عن يحيى بن سعيد كما رواه مالك سواء ، وإنما قلنا : إنه حديث ثابت ; لأنه روي عن عبادة من طرق ثابتة صحاح من غير طريق المخدجي بمثل رواية المخدجي‌ ‌‌ ، فأما ابن محيريز : فهو عبد الله بن محيريز ، وهو من جلة التابعين ، وهو معدود في الشاميين ، يروي عن معاذ بن جبل ، وأبي سعيد الخدري ، ومعاوية ، وأبي محذورة ، وغيرهم ، توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وأما المخدجي : فإنه لا يعرف بغير هذا الحديث ، وقال مالك : المخدجي لقب ، وليس بنسب في شيء من قبائل العرب ، وقيل : إن المخدجي اسمه رفيع ، ذكر ذلك عن يحيى بن معين .

وأما أبو محمد : فيقال : إنه مسعود بن أوس الأنصاري ، ويقال : سعد بن أوس ، ويقال : إنه بدري ، وقد ذكرناه في الصحابة .

وفي هذا الحديث من الفقه دليل على ما كان القوم عليه من البحث عن العلم ، والاجتهاد في الوقوف على الصحة منه ، وطلب الحجة ، وترك التقليد المؤدي إلى ذهاب العلم .

وفيه دليل على أن من السلف من قال بوجوب الوتر ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وقد ذكرنا وجه قوله - والحجة عليه - في غير موضع من كتابنا هذا ، والحمد لله .

[ ص: 290 ] وقد روى أبو عصمة نوح بن أبي مريم ، عن أبان بن أبي عياش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الوتر علي فريضة ، وهو لكم تطوع ، والأضحى علي فريضة ، وهو لكم تطوع ، والغسل يوم الجمعة علي فريضة ، وهو لكم تطوع .

وهذا حديث منكر لا أصل له ، ونوح بن أبي مريم ضعيف متروك ، ويقال : اسم أبيه أبي مريم يزيد بن جعدبة ، وكان ( نوح ) أبو عصمة هذا قاضي مرو ، مجتمع على ضعفه ، وكذلك أبان بن أبي عياش مجتمع على ضعفه وترك حديثه .

وفيه : أن الصلوات المكتوبات المفترضات خمس لا غير ، وهذا محفوظ في غير ما حديث ، وفيه دليل على أن من لم يصل من المسلمين في مشيئة الله إذا كان موحدا مؤمنا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - مصدقا مقرا وإن لم يعمل ، وهذا يرد قول المعتزلة والخوارج بأسرها ، ألا ترى أن المقر بالإسلام في حين دخوله فيه يكون مسلما قبل الدخول في عمل الصلاة وصوم رمضان بإقراره واعتقاده وعقدة نيته ، فمن جهة النظر لا يجب أن يكون كافرا إلا برفع ما كان به مسلما - وهو الجحود لما كان قد أقر به واعتقده - والله أعلم - .

وقد ذكرنا اختلاف العلماء في قتل من أبى من عمل الصلاة إذا كان بها مقرا - في باب زيد بن أسلم من هذا الكتاب - والحمد لله .

[ ص: 291 ] حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان بن عيينة قال : حدثني يحيى بن سعيد ، ومحمد بن عجلان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبد الله بن محيريز ، عن المخدجي ، قال : قيل لعبادة بن الصامت : إن أبا محمد يقول : الوتر واجب قال : وكان أبو محمد رجلا من الأنصار ، فقال عبادة : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة ، فمن أتى بهن لم ينتقص من حقهن شيئا استخفافا بهن ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه .

وروى زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن الصنابحي قال : زعم أبو محمد أن الوتر فرض واجب ، فقال عبادة بن الصامت : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : خمس صلوات افترضهن الله ، من أحسن وضوءهن ، وصلاهن لوقتهن ، وأتم ركوعهن وسجودهن ، كان له عند الله عهد أن يغفر له ، وإن لم يفعل جاء وليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن حرب الواسطي قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم ، فذكره .

[ ص: 292 ] حدثنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال : حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة النجاري : أنه سأل عبادة بن الصامت عن الوتر ، قال : أمر حسن جميل ، وقد عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده ، وليس بواجب قال : وكان عبادة يوتر ، وربما خرج والمؤذن يقيم ، فأمر المؤذن أن يجلس حتى يوتر ويقيم .

وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الله بن جعفر بن الورد قال : حدثنا يوسف بن موسى بن عبد الله الأودي حدثنا عبد الله بن حنين حدثنا يوسف بن أسباط ، عن السري بن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن كعب بن عجرة قال : خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتدرون ما قال ربكم ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : يقول : من صلى الصلاة لوقتها ، ولم يضيعها استخفافا بحقها ، فله علي أن أدخله الجنة ، ومن لم يصلها لوقتها ، وضيعها استخفافا بحقها ، فلا عهد له علي ، إن شئت غفرت له ، وإن شئت عذبته .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن ، وعبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قالا : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ببغداد قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثنا أبي قال : حدثنا هشيم قال : حدثنا عيسى بن المسيب البجلي ، عن الشعبي ، عن [ ص: 293 ] كعب بن عجرة قال : بينما نحن جلوس في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندي ظهورنا إلى قبلة مسجده - سبعة رهط : أربعة من موالينا ، وثلاثة من عربنا ; إذ خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الظهر حتى انتهى إلينا ، فقال : ما يجلسكم هاهنا ؟ قلنا : يا رسول الله ننتظر الصلاة قال : فأرم قليلا ، ثم رفع رأسه ، فقال : أتدرون ما يقول ربكم تبارك وتعالى ؟ يقول : من صلى الصلاة لوقتها ، وحافظ عليها ، ولم يضيعها استخفافا بحقها ، فله علي عهد أن أدخله الجنة ، ومن لم يصلها لوقتها ، ولم يحافظ عليها ، وضيعها استخفافا بحقها ، فلا عهد له ، إن شئت عذبته ، وإن شئت غفرت له .

قال أبو عمر : ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن معنى حديث عبادة المذكور في هذا الباب ، ومعنى حديث كعب بن عجرة هذا : أن التضييع للصلاة الذي لا يكون معه لفاعله المسلم عند الله عهد ، هو أن لا يقيم حدودها من مراعاة وقت ، وطهارة ، وتمام ركوع وسجود ، ونحو ذلك ، وهو مع ذلك يصليها ، ولا يمتنع من القيام بها ، في وقتها ، وغير وقتها ، إلا أنه لا يحافظ على أوقاتها ، قالوا : فأما من تركها أصلا ، ولم يصلها ، فهو كافر ، قالوا : وترك الصلاة كفر .

واحتجوا بآثار ، منها : حديث أبي الزبير ، وأبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة ، وما كان في معنى هذه الآثار قد ذكرناها [ ص: 294 ] في باب زيد بن أسلم ، ثم ذكرنا اختلاف العلماء في أحكام تارك الصلاة هنالك ، فلا معنى لذكر ذلك هاهنا .

أخبرنا أبو ذر عبد بن حمد - فيما أجاز لنا - قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن خميرويه قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن السامي حدثنا أحمد بن أبي رجاء حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان من دخل في الإسلام : تؤمن بالله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة التي افترض الله عليك لمواقيتها ، فإن في تفريطها الهلكة ، وتؤدي الزكاة طيب النفس بها ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، وتطيع لمن ولاه الله أمرك ، وتعمل لله ، ولا تعمل للناس .

ومما احتجوا به في أن معنى حديث عبادة في هذا الباب : تضييع الوقت وشبهه : ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا الحسن بن علي الأشناني حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زريق حدثنا بقية بن الوليد ، عن ضبارة بن عبد الله ، عن دويد بن نافع ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب أن أبا قتادة بن ربعي أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله تبارك وتعالى افترض على أمتي خمس صلوات ، وعهد عنده عهدا : من حافظ عليهن لوقتهن أدخله الله الجنة ، ومن لم يحافظ عليهن ، فلا عهد له عنده .

وذكر إسماعيل قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال : حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كل شيء في القرآن : ساهون ودائمون وحافظون فعلى مواقيتها .

[ ص: 295 ] قال : وحدثنا ابن نمير قال : حدثني أبي قال : حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : الحفاظ على الصلاة : الصلاة لوقتها ، والسهو عنها : ترك وقتها .

وعن عبد الله بن مسعود مثل ذلك ، وقد ذكرنا خبر ابن مسعود في باب زيد بن أسلم .

وأصح شيء في هذا الباب من جهة النظر ، ومن جهة الأثر : أن تارك الصلاة إذا كان مقرا غير جاحد ولا مستكبر ، فاسق مرتكب لكبيرة موبقة من الكبائر الموبقات ، وهو مع ذلك في مشيئة الله - عز وجل - إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه ، فإنه لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وقد يكون الكفر يطلق على من لم يخرج من الإسلام ، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في النساء : رأيتهن أكثر أهل النار بكفرهن ، قيل : يا رسول الله أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن بالعشير ، ويكفرن الإحسان .

فأطلق عليهن اسم الكفر لكفرهن العشير والإحسان ، وقد يسمى كافر النعمة كافرا ، وأصل الكفر التغطية للشيء ، ألم تسمع قول لبيد :


في ليلة كفر النجوم غمامها

فيحتمل - والله أعلم - إطلاق الكفر على تارك الصلاة أن يكون معناه أن تركه الصلاة غطى إيمانه وغيبه حتى صار غالبا عليه ، وهو مع ذلك مومن باعتقاده ، ومعلوم أن من صلى صلاته ، وإن لم يحافظ على أوقاتها أحسن حالا ممن لم يصلها أصلا ، وإن كان مقرا بها .

[ ص: 296 ] حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن عبادة بن الصامت أنه قال : إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا ننتهب ، ولا نعصي ، فالجنة إن فعلنا ذلك ، فإن غشينا من ذلك شيئا كان أمر ذلك إلى الله .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع قال : حدثنا محمد بن مهاجر ، عن عروة بن رويم ، عن أبي حاجب ، عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من مات يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وجبت له الجنة .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، ومحمد بن غالب التمتام قالا : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا أبو مسلم ، عن عثمان بن عبد الله بن أوس قال : سمعت أوس بن عبد الله يقول : سمعت عبادة بن الصامت يقول : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة .

[ ص: 297 ] وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا الترمذي قال : حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب قال : حدثني محمد بن عجلان ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن عبد الله بن محيريز الجمحي ، عن الصنابحي أنه قال : دخلت على عبادة بن الصامت ، وهو في الموت ، فلما رأيت ما به من العلز بكيت ، فقال : ما يبكيك ، فوالله لئن شفعت لأشفعن لك ، ولئن سئلت لأشهدن لك ، ولئن استطعت لأنفعنك ، والله ما كتمتك حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حديثا واحدا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الجنة .

قال أبو عمر : محمل هذه الأحاديث بعد القصاص والعفو أن يكون آخرا من الموحدين إلى الجنة ، والحمد لله .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن زيد ، وعبد الواحد ، وهشيم ، ويزيد بن زريع قالوا : حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن عبادة قال : أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيعة حيث أخذ على النساء : أن لا نشرك بالله شيئا ، ولا نزني ، ولا نسرق ، ولا نقتل أولادنا ، ولا بعضنا بعضا ، ولا نعصي في معروف ، فمن أتى منكم حدا في الدنيا فعجلت له عقوبته فهو كفارته ، ومن أخر ذلك عنه ، فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

[ ص: 298 ] وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري يقول : حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع عبادة بن الصامت يقول : كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس ، فقال : تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا - الآية ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، فذلك إلى الله إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه .

قال سفيان : كنا عند الزهري ، فلما حدث بهذا الحديث أشار علي أبو بكر الهذلي أن أحفظه فكتبته ، فلما قدم الزهري أخبرت به أبا بكر .

قال أبو عمر : قوله في حديث ابن شهاب هذا : ومن أصاب من ذلك شيئا يريد مما في الحدود ما عدا الشرك ، وقد بان ذلك في الحديث الذي قبل هذا ، وذلك مقيد بقول الله - عز وجل - ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ومقيد بالإجماع على أن من مات مشركا ، فليس في المشيئة ، ولكنه في النار ، وعذاب الله - أجارنا الله وعصمنا برحمته - من كل ما يقود إلى عذابه .

[ ص: 299 ] أخبرنا أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا معلى بن الوليد بن عبد الله العبسي ، وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مضر بن محمد قال : حدثنا الحكم بن موسى قالا : حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي ، عن الأوزاعي ، عن عمير بن هانئ ، عن جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله - زاد الحكم - : وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل - وقال الحكم : من عمله .

وذكر الطحاوي قال : حدثنا فهد بن سليمان قال : حدثنا عمرو بن عون الواسطي قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عاصم ، عن شفيق ، عن ابن مسعود ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمر بعبد من عباد الله - عز وجل - أن يضرب في قبره بمائة جلدة ، فلم يزل يسأل الله ، ويدعوه حتى صارت جلدة واحدة ، فجلد جلدة واحدة ، فامتلأ قبره عليه نارا ، فلما ارتفع عنه أفاق ، فقال : علام جلدتموني ؟ قالوا : إنك صليت صلاة بغير طهور ، ومررت على مظلوم فلم تنصره .

[ ص: 300 ] قال الطحاوي : وفي هذا ما يدل على أن تارك الصلاة ليس بكافر ; لأن من صلى صلاة بغير طهور ، فلم يصل ، وقد أجيبت دعوته ، ولو كان كافرا ما سمعت دعوته ; لأن الله يقول : ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) واحتج - أيضا - بقوله - صلى الله عليه وسلم - : الذي يترك صلاة العصر ، فكأنما وتر أهله وماله .

قال : فلو كان كافرا لكان القصد إلى ذكر ما ذهب من إيمانه لا إلى ذهاب أهله وماله .

ومعلوم أن ما زاد على صلاة واحدة من الصلوات في حكم الصلاة الواحدة ، ألا ترى أن تاركها عامدا حتى يخرج وقتها يستتاب على الوجوه التي ذكرنا عن العلماء على مذاهبهم في ذلك في باب زيد بن أسلم .

وجملة القول في هذا الباب : أن من لم يحافظ على أوقات الصلوات لم يحافظ على الصلوات ، كما أن من لم يحافظ على كمال وضوئها ، وتمام ركوعها وسجودها ، فليس بمحافظ عليها ، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ، كما أن من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ولا دين لمن لا صلاة له .

ورحم الله أبا العتاهية حيث يقول :


أقم الصلاة لوقتها بطهورها     ومن الضلال تفاوت الميقات

قال أبو عمر : إنما ذكرنا أحاديث هذا الباب - وإن كان فيها للمرجئة تعلق ; لأن المعتزلة أنكرت الحديث المروي في قوله : ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له .

وقالت : من لم يأت [ ص: 301 ] بهن ، فهو في النار مخلد .

فردت الحديث المأثور في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقل العدول الثقات ، وأنكرت ما أشبهه من تلك الأحاديث ، ودفعت قول الله - عز وجل - ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) . فضلت وأضلت ، فذكرنا في هذا الباب من الآثار ما يضارع هذه الآية حجة عليهم - والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية