التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1798 [ ص: 190 ] حديث تاسع لربيعة منقطع يتصل من وجوه حسان

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد من علمائهم : أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن على عمر بن الخطاب فاستأذن ثلاثا ، ثم رجع ، فأرسل عمر بن الخطاب في أثره فقال : مالك لم تدخل ؟ فقال أبو موسى : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل ، وإلا فارجع ، فقال عمر بن الخطاب : ومن يعلم هذا ؟ لئن لم تأت بمن يعلم ذلك لأفعلن بك كذا وكذا ، فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسا في المسجد يقال له مجلس الأنصار فقال : إني أخبرت عمر بن الخطاب أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل ، وإلا فارجع فقال : لئن لم تأت بمن يعلم هذا لأفعلن بك كذا وكذا ، فإن كان سمع ذلك أحد منكم فليقم معي ، فقالوا لأبي سعيد الخدري : قم معه ، وكان أبو سعيد أصغرهم ، فقام معه ، فأخبر ذلك عمر بن الخطاب ، فقال عمر لأبي موسى : أما إني لم أتهمك ، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .


[ ص: 191 ] قال أبو عمر :

روي هذا الحديث متصلا مسندا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه :

من حديث أبي موسى ، وحديث أبي بن كعب ، وحديث أبي سعيد الخدري .

وقال بعضهم في هذا الحديث : كلنا سمعه .

وقد روى قوم هذا الحديث عن أبي سعيد ، عن أبي موسى ، وإنما هذا من النقلة باختلاط الحديث عليهم ، ودخول قصة أبي سعيد مع أبي موسى في ذلك - والله أعلم - كأنهم يقولون : عن أبي سعيد ، عن قصة أبي موسى على نحو رواية عمر بن سلمة ، عن البهزي ، يريد : عن قصة البهزي ، وقد أوضحنا هذا المعنى عند ذكر حديث البهزي في باب حديث يحيى بن سعيد من كتابنا هذا ، والحمد لله .

ومن أحسن طرق أبي سعيد الخدري في هذه القصة ما حدثناه أبو زيد عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا علي بن محمد بن مسرور قال : حدثنا أحمد بن أبي سليمان قال : حدثنا سحنون قال : حدثنا ابن وهب قال : أخبرنا عمر بن الحارث ، عن بكير بن الأشج أن بسر بن سعيد حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : كنا في مجلس أبي بن كعب ، فأتى أبو موسى مغضبا حتى وقف ، وقال : أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الاستئذان ثلاث [ ص: 192 ] فإن أذن لك ، وإلا فارجع قال أبي : وما ذاك ؟ قال : استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات ، فلم يؤذن لي فرجعت ، ثم جئت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ، ثم انصرفت ، قال : قد سمعناك ، ونحن حينئذ على شغل ، فلو استأذنت حتى يؤذن لك ، قال : استأذنت كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : والله لأوجعن ظهرك وبطنك ، أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا فقال أبي : والله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، الذي يجيبك ، قم يا أبا سعيد ، فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا .

قال ابن وهب : وقال مالك : الاستئذان ثلاث ، لا أحب أن يزيد أحد عليها ، إلا من علم أنه لم يسمع ، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع ، قال : وقال مالك : الاستيناس فيما نرى - والله أعلم - الاستئذان .

حدثني أحمد بن قاسم بن عيسى قال : حدثنا عبيد الله بن محمد ببغداد قال : حدثنا عبد الله بن محمد البغوي قال : حدثنا علي بن الجعد قال : حدثنا شعيب ، عن سعيد الجريري أنه سمع أبا نضرة يحدث ، عن أبي سعيد الخدري قال : [ ص: 193 ] جاء أبو موسى فاستأذن على عمر ثلاثا ، فلم يؤذن له فرجع ، فقال عمر : لئن لم تأتني ببينة ، أو لأفعلن بك ، فأتى الأنصار فقال : ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قال : فقالوا : لا يشهد لك إلا أصغرنا قال : أبو سعيد فأتيت فشهدت له .

قال علي : وأخبرنا شعبة ، عن أبي سلمة سعيد بن يزيد ، سمع أبا نضرة يحدث عن أبي سعيد مثل ذلك .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدثني أبي قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي سلمة ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : إن أبا موسى استأذن على عمر ، قال : واحدة ، ثنتين ، ثلاثا ، ثم رجع أبو موسى فقال له عمر : لتأتين على هذا ببينة [ ص: 194 ] أو لأفعلن بك ، كأنه يقول : أجعله نكالا في الآفاق ، قال : فانطلق أبو موسى إلى مجلس فيه الأنصار ، فذكر ذلك لهم ، فقال : ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ؟ قالوا : بلى ، لا يقوم معك إلا أصغرنا قال : فقام أبو سعيد الخدري إلى عمر فقال : هذا أبو سعيد ، فخلى عنه .

قال أبو عمر :

رواه معمر ، عن الجريري بإسناده ، فلم يأت بالقصة بتمامها ، ورواه عن أبي نضرة أيضا داود بن أبي هند ، ورواية أبي سلمة أحسن سياقة ، وأتم معنى .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يزيد بن مروان قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد قال : استأذن أبو موسى على عمر ثلاثا ، فلم يؤذن له فرجع ، فلقيه عمر فقال : ما شأنك ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من استأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال : لتأتين ببينة أو لأفعلن ، وأفعلن ، فأتى مجلس قومي ، فناشدهم الله فقلت : أنا أشهد معك فشهدت بذلك فخلى سبيله .

[ ص: 195 ] وأما رواية من روى هذا الحديث ، عن أبي موسى الأشعري ( فحدثني عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن داود ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستأذن ثلاثا ، فلم يؤذن له ، فليرجع .

وحدثنا عبد الوارث قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو داود ، عن طلحة ، عن يحيى ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى : أنه أتى عمر فاستأذن ثلاثا فقال : استأذن أبو موسى ، استأذن الأشعري ، استأذن عبد الله بن قيس ، فلم يؤذن له ، فرجع ، فبعث إليه عمر فقال : ما ردك ؟ فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستأذن أحدكم ثلاثا ، فإن أذن له ، وإلا فليرجع ، قال : ايتني ببينة على هذا ، فقال : هذا أبي ، فانطلقنا إلى عمر ، فقال : نعم يا عمر ، لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله ، فقال عمر : لا أكون عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) . وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد . اهـ .

[ ص: 196 ] وحدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك قال : حدثنا عبد الله بن أحمد قال : حدثني أبي قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء عن عبيد بن عمير : أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاث مرات ، فلم يؤذن له ، فرجع ، فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ؟ قالوا : بلى ، قال : فاطلبوه قال : فدعي قال : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال : استأذنت ثلاثا ، فلم يؤذن لي ، فرجعت ، كما كنا نؤمر بهذا ، فقال : لتأتين عليه بالبينة أو لأفعلن ، فأتى مجلس أو مسجد الأنصار فقالوا : لا يشهد لك إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد فشهد له ، فقال : عمر خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ألهاني عنه الصفق بالأسواق . واللفظ لحديث عبد الله ، والمعنى سواء .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث من الفقه إيجاب الاستئذان ، وهو يخرج في تفسير قول الله عز وجل لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ، والاستيناس في هذا الموضع هو الاستئذان ، كذلك قال أهل التفسير ، وكذلك في قراءة أبي ، وابن عباس تستأذنوا وتسلموا على أهلها .

[ ص: 197 ] ( أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل أبو جعفر الصائغ قال : حدثنا عفان قال : حدثني ثابت بن يزيد قال : حدثنا عاصم الأحول ، عن عكرمة قال : في قراءة أبي بن كعب : حتى تسلموا أو تستأذنوا قال : وتعلم منه ابن عباس ) ، وفيه أن السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها ، ويحتمل أن يكون ذلك على معنى الإباحة والتخفيف على المستأذن ، فمن استأذن أكثر من ثلاث مرات لم يحرج - والله أعلم - .

( وقال بعض أهل العلم : إن الاستئذان ثلاث مرات مأخوذ من قول الله عز وجل ياأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات قال : يريد ثلاث دفعات ، فورد القرآن في الممالك ، والصبيان ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجميع .

قال أبو عمر :

ما قاله من هذا فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها ، والذي عليه جمهورهم في قوله فيها " ثلاث مرات " أي في ثلاثة أوقات ، يدل على صحة هذا القول ذكره فيها " من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء " وللكلام في هذه الآية موضع غير هذا ) ، وجاء في هذا [ ص: 198 ] الحديث عن أبي موسى أنه قال : استئذانه يومئذ بأن قال : يستأذن عبد الله بن قيس يستأذن أبو موسى ، ونحو هذا .

قال أبو عمر :

وفيه : أن الرجل العالم الحبر قد يوجد عند من هو دونه في العلم ما ليس عنده من العلم ، إذا كان طريق ذلك العلم السمع ، ( وإذا جاز مثل هذا على عمر على موضعه في العلم ، فما ظنك بغيره بعده .

وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود قال : لو أن علم عمر وضع في كفة ووضع علم أحياء الأرض في كفة أخرى ، لرجح علم عمر بعلمهم ، قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم فقال : لا تعجب من هذا ، فقد قال عبد الله : إني لأحسب تسعة أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر ، وجاء عن حذيفة مثل قول عبد الله ) .

قال أبو عمر :

زعم قوم أن في هذا الحديث دليلا على أن مذهب عمر أن لا يقبل خبر الواحد ، وليس كما زعموا ; لأن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه استعمال خبر الواحد وقبوله وإيجاب الحكم به ، أليس هو الذي ناشد الناس بمنى ; من كان عنده علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية فليخبرنا ؟ وكان رأيه أن المرأة لا ترث من دية زوجها ; لأنها ليست من عصبته الذين يعقلون عنه ، فقام [ ص: 199 ] الضحاك بن سفيان الكلابي فقال : كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ، وكذلك ناشد الناس في دية الجنين ، من عنده فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ، فأخبره حمل بن مالك بن النابغة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة : عبد أو أمة ، فقضى به عمر ، ولا يشك ذو لب ، ومن له أقل منزلة في العلم ، أن موضع أبي موسى من الإسلام ، ومكانه من الفقه والدين - أجل من أن يرد خبره ، ويقبل خبر الضحاك بن سفيان الكلابي ، وحمل بن مالك الأعرابي ، وكلاهما لا يقاس به في حال ، وقد قال له عمر في حديث ربيعة هذا : أما إني لم أتهمك ، ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدل على اجتهاد كان من عمر - رحمه الله - في ذلك الوقت [ ص: 200 ] لمعنى الله أعلم به ، وقد يحتمل أن يكون عمر - رحمه الله - كان عنده في ذلك الحين من لم يصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل العراق ، وأهل الشام ; لأن الله فتح عليه أرض فارس والروم ، ودخل في الإسلام كثير ممن يجوز عليهم الكذب ; لأن الإيمان لم يستحكم في قلوب جماعة منهم ، وليس هذه صفة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله قد أخبر أنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وأثنى عليهم في غير موضع من كتابه .

وإذا جاز الكذب وأمكن في الداخلين إلى الإسلام ، فيمكن أن يكون عمر مع احتياطه في الدين يخشى أن يختلقوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عند الرهبة والرغبة ، أو طلبا للحجة ، وفرارا إلى الملجأ ، والمخرج مما دخلوا فيه ; لقلة علمهم بما في ذلك عليهم ، فأراد عمر أن يريهم أن من فعل شيئا ينكر عليه ، ففزع إلى الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ; ليثبت له بذلك فعله ، وجب التثبت فيما جاء به إذا لم تعرف حاله حتى يصح قوله ; فأراهم ذلك ، ووافق أبا موسى ، وإن كان عنده معروفا بالعدالة غير متهم ; ليكون ذلك أصلا عندهم ، وللحاكم أن يجتهد بما أمكنه إذا أراد به الخير ، ولم يخرج عما أبيح له - والله أعلم - بما أراد عمر بقوله ذلك لأبي موسى ، وعلى هذا قول طاوس قال : كان الرجل إذا حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حتى يجيء ببينة ، وإلا عوقب ، يعني ممن [ ص: 201 ] ليس بمعروف بالعدالة ، ولا مشهور بالعلم والثقة ، ألا ترى إلى إجماع المسلمين أن العالم إذا حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان مشهورا بالعلم ، أخذ ذلك عنه ، ولم ينكر عليه ، ولم يحتج إلى بينة ، ومن نحو قول طاوس هذا قول سعد بن إبراهيم رحمه الله : لا يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الثقات ، أي : كل من إذا وقف أحال على مخرج صحيح ، وعلم ثابت ، وكان مستورا لم تظهر منه كبيرة .

وأما قول من قال : إن عمر لم يعرف أبا موسى ، فقول خرج عن غير روية ولا تدبر ، ومنزلة أبي موسى عند عمر مشهورة ، وقد عمل له ، وبعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاملا وساعيا على بعض الصدقات ، وهذه منزلة رفيعة في الثقة ، والأمانة .

وفي قول عمر رحمه الله في حديث عبيد 1456 ) بن عمير الذي ذكرناه في هذا الباب : خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ألهاني عنه الصفق في الأسواق ، اعتراف منه بجهل ما لم يعلم ، وإنصاف صحيح ، وهكذا يجب على كل مؤمن .

[ ص: 202 ] وفي قوله : ألهاني عنه الصفق بالأسواق دليل على أن طلب الدنيا يمنع من استفادة العلم ، وأن كلما ازداد المرء طلبا لها ازداد جهلا ، وقل عمله - والله أعلم - ، ومن هذا قول أبي هريرة : أما إخواننا المهاجرون ، فكان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وأما إخواننا من الأنصار فشغلتهم حوائطهم ، ولزمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شبع بطني .

هذا وكان القوم عربا في طبعهم الحفظ ، وقلة النسيان ، فكيف اليوم ؟ وإذا كان القرآن الميسر للذكر كالإبل المعقلة ، من تعاهدها أمسكها ، فكيف بسائر العلوم ؟

والله أسأله علما نافعا ، وعملا متقبلا ، ورزقا واسعا ، لا شريك له .

ومن أحسن حديث يروى في كيفية الاستيذان ، ما حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن الحسن بن صالح ، عن أبيه ، عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : استأذن عمر على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : السلام على رسول الله ، السلام عليكم ، أيدخل عمر .

[ ص: 203 ] وروى منصور ، عن ربعي بن حراش ، عن رجل من بني عامر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : قل السلام أأدخل ؟ .

( وقد ذكر ابن وهب قال : أخبرني عمر بن الحارث ، عن أبي الزبير ، عن عمر مولى آل عمر ، أنه حدثه أنه دخل على عبد الله بن عمر بمكة قال : وقفت على الباب فقلت : السلام عليكم ، ثم دخلت ، فنظر في وجهي ، ثم قال : اخرج ، ثم قلت السلام عليكم ، أأدخل ؟ قال : ادخل الآن ، من أنت ؟ قلت : رجل من مصر ، قال : وقال ابن جريج ، قلت لعطاء : كان يقال : إذا استأذن الرجل ، ولم يسلم فلا يؤذن له حتى يأتي بمفتاح ، قلت : السلام ؟ قال : نعم .

قال أبو عمر :

تهذيب هذه الآثار كلها على ما جاء في حديث ابن عباس : السلام عليكم أيدخل عمر ؟ فمن سلم ، ولم يقل أأدخل ؟ أو يدخل فلان ؟ أو قال : أدخل ؟ أو يدخل فلان ؟ ولم يسلم ، فليس بإذن يستحق به أن يؤذن له - والله أعلم - .

وقد أخبرنا ابن عباس : أن الاستئذان ترك العمل به الناس ، وأظن ذلك لقرع الأبواب اليوم - والله أعلم - .

حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا القعنبي قال : حدثنا الدراوردي [ ص: 204 ] عن عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فأمرهم الله بالاستئذان ، ثم جاءهم الله بالستور والخير ، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد .

وقد أوضحنا هذا المعنى في باب صفوان بن سليم ، والحمد لله ) .

[ ص: 205 ] وأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( على جابر حين دق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباب فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : من ؟ فقالجابر : أنا ، فأنكر ذلك عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : أنا أنا ! مرتين أو ثلاثا إنكارا لذلك ، ورواه شعبة ، وغيره ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله : أنه ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين أبيه قال : فدققت الباب فقال : من هذا ؟ قلت : أنا قال : أنا أنا ! فكرهه .

التالي السابق


الخدمات العلمية