التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
789 [ ص: 341 ] حديث سابع وثلاثون ليحيى بن سعيد

47047 مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال : أخبرني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله ، عن عمير بن سلمة الضمري ، عن البهزي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد مكة وهو محرم ، حتى إذا كان بالروحاء ، إذا حمار وحشي عقير ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعوه ، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه . فجاء البهزي ، وهو صاحبه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله شأنكم بهذا الحمار ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، فقسمه بين الرفاق ، ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج ، إذا ظبي حاقف في ظل شجرة ، وفيه سهم ، فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا أن يقف عنده لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزه .


لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث ، واختلف أصحاب يحيى بن سعيد فيه على يحيى بن سعيد ، فرواه جماعة كما رواه مالك ، ورواه حماد بن زيد ، وهشيم ، ويزيد بن هارون ، وعلي بن مسهر ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 342 ] قرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا يحيى بن سعيد أن محمد بن إبراهيم أخبره عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري .

وأخبرنا قاسم بن محمد ، واللفظ لحديثه قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو قال : حدثنا محمد بن سنجر قال : حدثنا عارم قال : حدثنا حماد بن زيد قال : حدثني يحيى ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل أو خرج ، وهم محرمون حتى إذا كانوا بالروحاء ، فإذا في بعض أفنائها حمار وحش عقير ، فقيل : يا رسول الله هذا حمار عقير ، فقال : دعوه حتى يأتي طالبه قال : فجاء رجل من بهز ، فقال : يا رسول الله أصبت هذا بالأمس ، فشأنكم به ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقسم لحمه بين الرفاق ، قال : ثم سار حتى إذا كان بالأثاية بين العرج والرويثة ، إذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم ، فقيل : يا رسول الله هذا ظبي حاقف في ظل فيه سهم ، قال : لا يعرض له حتى يمر آخر الناس ، فأمر رجلا أن يقيم عنده حتى آخر الناس ) .

هكذا قال حماد بن زيد في هذا الحديث ، عن عمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وعمير بن سلمة من كبار الصحابة ، وقد ذكرناه في كتاب الصحابة بما يغني عن [ ص: 343 ] ذكره هاهنا .

فالحديث لعمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما قال حماد بن زيد ، وتابعه على ذلك جماعة منهم : هشيم ، وعلي بن مسهر ، ويزيد بن هارون وجعله مالك ، عن عمير ، عن البهزي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يدلك على صحة رواية حماد بن زيد ومن تابعه ، عن يحيى بن سعيد على ما ذكرنا : أن يزيد بن الهادي ، وعبد ربه بن سعيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي حديث يزيد بن الهادي : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

رواه الليث بن سعد هكذا عن يزيد بن الهادي ، وقال موسى بن هارون : والصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد .

قال : وذلك بين في رواية يزيد بن الهادي ، وعبد ربه بن سعيد قال موسى بن هارون : ولم يأت ذلك من مالك ; لأن جماعة رووه عن يحيى بن سعيد - كما رواه مالك ، ولكن إنما جاء ذلك من يحيى بن سعيد كان يرويه أحيانا فيقول فيه : عن البهزي ، وأحيانا لا يقول فيه : عن البهزي ، وأظن المشيخة الأولى كان ذلك جائزا عندهم ، وليس هو رواية عن فلان ، وإنما هو عن قصة فلان ; - هذا كله كلام موسى بن هارون .

قال أبو عمر : البهزي اسمه زيد بن كعب ، وقد ذكرناه في الصحابة .

[ ص: 344 ] قال أبو عمر : الروحاء والأثاية والعرج مواضع ومناهل بين مكة والمدينة ، وإلى العرج نسب العرجي الشاعر ، وقيل : بل نسب العرجي الشاعر إلى موضع آخر يدعى - أيضا - بالعرج قرب الطائف كان نزله ; لأنه كان له به مال .

واسم العرجي الشاعر : عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وهو أشعر بني أمية .

وفي هذا الحديث من الفقه : أن كل ما صاد الحلال جائز للمحرم أكله ، وهذا موضع اختلف العلماء فيه قديما وحديثا ، واختلفت الآثار فيه - أيضا - وقد بينا ذلك وأوضحناه في باب ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، وفي باب أبي النضر - أيضا - من هذا الكتاب ، والحمد لله .

وفيه - أيضا - دليل على أن المحرم لا يجوز له أن ينفر الصيد ، ولا يعين عليه ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلا أن يقف عند الظبي الحاقف حتى يجاوزه الناس لا يريبه أحد أي لا يمسه أحد ، ولا يحركه ، ولا يهيجه أحد ، والحاقف : الواقف المنثني والمنحني ، وكل منحن فهو محقوقف ، وإذا صار رأس الظبي بين يديه إلى رجليه ، وميل رأسه فهو حاقف ، ومحقوقف ; هذا قول الأخفش ، وقال غيره من أهل اللغة : الحاقف الذي قد لجأ إلى حقف ، وهو ما انعطف من الرمل .

[ ص: 345 ] وقال العجاج :


سماوة الهلال حتى احقوقفا

يعني انعطف ، وسماوته شخصه .

وقال أبو عبيد : حاقف يعني : قد انحنى وتثنى في نومه ، ويقال للرجل إذا انحنى : حقف فهو حاقف قال : وأما الأحقاف ، فجمع حقف ، ومن ذلك قول الله - عز وجل - ( إذ أنذر قومه بالأحقاف )

قال أبو عبيد إنما سميت منازلهم بالأحقاف ; لأنها كانت بالرمال .

وفي هذا الحديث - أيضا - من الفقه أن الصائد إذا أثبت الصيد برمحه أو نبله ، فقد ملكه بذلك إذا كان الصيد لا يمتنع من أجل ذلك الفعل ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوشك أن يأتي صاحبه .

وقد استدل قوم بهذا الحديث - أيضا - على جواز هبة المشاع لقول البهزي للجماعة : شأنكم بهذا الحمار ، ثم قسمه أبو بكر بينهم بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفيه من الفقه جواز أكل الصيد إذا غاب عنه صاحبه أو بات تحته ، وإذا عرف أنها رميته ، وليس في حديث مالك ما يدل على أن ذلك الظبي كان قد غاب عن صاحبه ليلة ، وذلك في حديث حماد بن زيد لقوله فيه : أصبت هذا بالأمس .

وقد اختلف الفقهاء في هذا المعنى ، فقال مالك : إذا أدركه الصائد من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا ، وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جرحه ، وإن كان قد بات عنه لم يأكله .

[ ص: 346 ] وقال الثوري : إذا غاب عنه يوما وليلة كرهت أكله .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إذا توارى عنه الصيد ، وهو في طلبه فوجده وقد قتله جاز أكله ، فإن ترك الطلب ، واشتغل بعمل غيره ، ثم ذهب في طلبه ، فوجده مقتولا ، والكلب عنده كرهنا أكله .

وقال الأوزاعي : إذا وجده من الغد ميتا ، ووجد فيه سهما أو أثرا ، فليأكله .

وقال الشافعي : القياس ألا يأكله إذا غاب عنه .

وروي عن ابن عباس : كل ما أصبت ، ودع ما أنميت - يريد كل ما عاينت صيده وموته من سلاحك أو كلبك ، ودع ما غاب عنك .

وفي حديث أبي رزين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره أكل ما غاب عنك مصرعه من الصيد ، وهو حديث مرسل ; لأنه ليسبأبي رزين العقيلي ، وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل .

رواه عنه موسى بن أبي عائشة من حديث الثوري وغيره .

وروى أبو ثعلبة الخشني ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يدرك صيده بعد ثلاث يأكله ما لم ينتن .

وفي حديث عدي بن حاتم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيد يغيب عن صاحبه الليلة والليلتين ، فقال : إذا وجدت فيه سهمك ، ولم تجد أثر سبع ، وعلمت أن سهمك قتله ، فكله .

[ ص: 347 ] وفي حديث هذا الباب رد لقول أبي حنيفة وأصحابه في اشتراطهم التراخي في الطلب ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل للبهزي : هل تراخيت في طلبه ؟ وأباح أكله لأصحابه المحرمين ، ولم يسأله عن ذلك ، وبالله التوفيق ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية