التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
896 [ ص: 356 ] حديث موفي أربعين ليحيى بن سعيد

يحيى عن عمرة :

مالك ، عن يحيى بن سعيد قال : حدثتني عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة أم المومنين تقول : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس ليال بقين من ذي القعدة ، ولا نرى إلا أنه الحج ، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة أن يحل . قالت عائشة : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه .


قال يحيى بن سعيد : فذكرت هذا الحديث للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك والله بالحديث على وجهه .

قال أبو عمر : هذا خلاف رواية عروة عنها ; لأن عروة يقول عنها : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهللنا بعمرة ، وهي حجة واحدة ، وخروج واحد .

[ ص: 357 ] وقد تقدم القول في ذلك كله مبسوطا في باب ابن شهاب ، عن عروة من هذا الكتاب .

وأما قولها : فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت ، وسعى بين الصفا والمروة أن يحل فهذا فسخ الحج في العمرة .

وقد تواترت به الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق صحاح من حديث عائشة وغيرها ، ولم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يدفعه ، إلا أن أكثر العلماء يقولون : إن ذلك خصوص لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، واعتلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر أصحابه أن يفسخوا الحج في العمرة ليوري الناس أن العمرة في أشهر الحج جائزة ، وذلك أن قريشا كانت تراها في أشهر الحج من أفجر الفجور ، وكانت لا تستجيز ذلك ألبتة ، وكانت تقول : إذا خرج صفر - وكانوا يجعلون المحرم في صفر - وبرأ الدبر ، وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر . فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من لم يكن منهم معه هدي أن يفسخ حجه في عمرة ليعلم الناس أنه لا بأس بالعمرة في أشهر الحج .

واعتلوا بقول الله - عز وجل - ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وهذا يوجب إتمام الحج على كل من دخل فيه إلا من خص بالسنة الثابتة ، وهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على الوجه الذي ذكرنا ، واعتلوا بأن عمر بن الخطاب كان يقول : متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما : متعة النساء ، ومتعة الحج - يعني فسخ [ ص: 358 ] الحج في العمرة .

ومعلوم أن عمر لم يكن لينهى عن شيء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أباحه أو أمر به ، ولا ليعاقب عليه إلا وقد علم أن ذلك إما خصوص ، وإما منسوخ ، هذا ما لا يشك فيه ذو لب .

واعتلوا - أيضا - بما روي في ذلك عن أبي ذر ، وبلال بن الحارث المزني أن ذلك خصوص لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وممن ذهب إلى أن فسخ الحج في العمرة لا يجوز لأحد اليوم ، وأنه لم يجز لغير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث بن سعد في جماعة من التابعين بالحجاز ، والعراق ، والشام ، ومصر ، وبه قال أبو ثور ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد ، والطبري ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وكان أحمد بن حنبل ، وداود بن علي يذهبان إلى أن فسخ الحج في العمرة جائز إلى اليوم ثابت ، وأن كل من شاء أن يفسخ حجه في عمرة إذا كان ممن لم يسق هديا كان ذلك له اتباعا للآثار التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .

وقال أحمد بن حنبل : في فسخ الحج أحاديث ثابتة لا تترك لمثل حديث أبي ذر ، وحديث بلال بن الحارث - وضعفهما ، وقال : من المرقع بن صيفي الذي يرويه عن أبي ذر ؟ قال : وروي الفسخ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر ، وعائشة ، وأسماء ابنة أبي بكر ، وابن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وأنس بن مالك ، وسهل بن حنيف ، [ ص: 359 ] وأبي سعيد الخدري ، والبراء بن عازب ، وابن عمر ، وسبرة الجهني ; قال أحمد : من أهل الحج مفردا أو قرن الحج مع العمرة ، فإن شاء أن يجعلها عمرة ( فعل ) ويفسخ إحرامه في عمرة - إن شاء فعل ، وإن شاء لم يفعل .

واحتج - أيضا - أحمد ، ومن ذهب مذهبه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة ويقول سراقة بن جعشم : يا رسول الله علمنا تعليم قوم أسلموا اليوم ، أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم لأبد ؟ فقال : بل لأبد ، بل لأبد .

قال أبو عمر : ليس في هذا حجة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة إنما معناه لأهللت بعمرة ، وجعلت إحرامي بعمرة أتمتع بها ، وإنما في هذا حجة لمن فضل التمتع ، وأما من أجاز فسخ الحج في العمرة ، فما له في هذا حجة لاحتمال ما ذكرنا ، وهو الأظهر فيه .

وأما قوله لسراقة : بل للأبد - فإنما معناه : أن حجته تلك ، وعمرته ليس عليه ولا على من حج معه غيرها للأبد ، ولا على أمته غير حجة واحدة أو عمرة واحدة في مذهب من أوجبها في دهره للأبد ، لا فريضة في الحج غيرها ; هذا معنى قوله لسراقة - والله أعلم - .

[ ص: 360 ] وذكر عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج ، ومعمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : قدموا بالحج خالصا لا يخالطه شيء ، وكانوا يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور ، وكانوا يقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر . وكانوا يدعون المحرم صفرا ، فلما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبهم ، فقال : من كان أهل بالحج فليطف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم ليحلق أو ليقصر ، ثم ليحل إلا من كان معه هدي . قال : فبلغه أنهم يقولون : يأمرنا أن نحل ، فقال : لو شعرت ما أهديت ، نزل الأمر عليه من السماء بعدما طاف بين الصفا والمروة ، فكلمهم بذلك . فقال سراقة : يا رسول الله ، علمنا تعليم قوم أسلموا اليوم ، عمرتنا هذه لعامنا هذا أم لأبد ؟ فقال : بل لأبد ، بل لأبد .

قال أبو عمر : يحتمل أن يكون قوله هذا نحو حديث الزهري ، عن أبي سنان ، عن ابن عباس : أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله الحج في كل عام أو مرة واحدة ؟ قال : بل مرة واحدة ، ومن زاد فهو متطوع .

وروى أبو هريرة ، وأبو واقد الليثي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأزواجه في حجة الوداع : هذه ثم ظهور الحصر .

حدثنا أحمد بن قاسم حدثنا عبيد الله بن محمد بن حبابة ببغداد حدثنا البغوي حدثنا جدي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا ابن أبي [ ص: 361 ] ذئب ، عن صالح مولى التوءمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنسائه في حجة الوداع : هذه ثم ظهور الحصر .

ورواه صالح بن كيسان ، عن صالح مولى التوءمة مثله ; قال بشر بن عمر : سألت مالك بن أنس ، عن صالح مولى التوءمة ، فقال : ليس بثقة .

وذكر عباس ، عن ابن معين قال : هو ثقة ، ولكنه خرف ، فمن سمع منه قبل أن يختلط ، فهو ثبت . وهو صالح بن نبهان مولى التوءمة بنت أمية بن خلف الجمحي .

وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه قول مالك في صالح مولى التوءمة ، فقال : أدركه مالك ، وقد اختلط ، ومن سمع منه قديما فلا بأس ، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة ، وقال أبو حاتم الرازي : روى عنه أبو الزناد ، وزياد بن سعد ، وعمارة بن غزية ، والثوري ، وابن جريج ، وابن أبي ذئب .

أخبرنا عبد الله حدثنا محمد حدثنا أبو داود حدثنا النفيلي حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن لأبي واقد الليثي ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأزواجه في حجة الوداع : هذه ثم ظهور الحصر .

[ ص: 362 ] وروى شعبة ، عن عبد الملك ، عن طاوس ، عن سراقة بن جعشم أنه قال : يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه لعامنا أم للأبد ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأبد .

وذكر النسائي ، عن هناد ، عن عبدة ، عن ابن أبي عروبة ، عن مالك بن دينار ، عن عطاء ، عن سراقة قال : تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا : ألنا خاصة أم للأبد ؟ فقال : بل للأبد .

وهذا يحتمل أن يكون التمتع المعروف لا فسخ الحج .

وأما حديث بلال بن الحارث المزني ، فحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، وأخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قالا : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال المزني ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ ، فقال : بل لنا خاصة .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن المرقع ، عن أبي ذر أنه قال : إنما كان فسخ الحج من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا خاصة .

[ ص: 363 ] حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا النفيلي قال : حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد قال : أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال بن الحارث ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أم لمن بعدنا ؟ قال : لكم خاصة .

وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود حدثنا هناد بن السري قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها عمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أخبرنا عبد العزيز ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل لنا خاصة .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال أخبرنا محمد بن معاوية قال أخبرنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا عمرو بن يزيد ، عن عبد الرحمن [ ص: 364 ] حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، وعياش الغامري ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر في متعة الحج قال : كانت لنا رخصة .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : أخبرنا محمد بن معاوية قال : أخبرنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا بشر بن خالد قال : أخبرنا غندر ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر قال : كانت المتعة رخصة لنا .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : أخبرنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا عبد الأعلى بن واصل قال : حدثنا أبو أسامة عن وهيب بن خالد قال : حدثنا عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الوبر ، وانسلخ صفر أو قال : دخل صفر حلت العمرة لمن اعتمر . فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله أي الحل ؟ قال : الحل كله .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو عبيدة بن أحمد قال : حدثنا أبو خالد يزيد بن سنان [ ص: 365 ] البصري حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال عمر : متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما : متعة النساء ، ومتعة الحج .

وحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : قال عمر ، فذكر مثله .

قال أبو عمر :

فسخ الحج في العمرة هي المتعة التي كان عمر ينهى عنها في الحج ، ويعاقب عليها لا التمتع الذي أذن الله ورسوله فيه .

وقال بعض أصحابنا : في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يفسخوا حجهم في عمرة ، أوضح دليل على أنه لا يجوز إدخال العمرة على الحج ; لأنه لو جاز ذلك لم يؤمروا بفسخ الحج في العمرة ; إذ الغرض كان في ذلك أن يريهم - صلى الله عليه وسلم - جواز العمرة في أشهر الحج لما كانوا عليه من أن ذلك لا يحل ، ولا يجوز على ما كانوا عليه في جاهليتهم ، فأراهم - صلى الله عليه وسلم - فسخ ذلك وإبطاله بعمل العمرة في أشهر الحج ، ولو جاز إدخالها على الحج ما احتاج - والله أعلم - إلى الخروج عما دخل فيه ، واستئنافه بعد المعنى المذكور ، والله الموفق للصواب .

[ ص: 366 ] وفي قوله : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه البقر دليل على أن نحر البقر جائز ، وعلى جواز ذلك أهل العلم ، إلا أنهم يستحبون الذبح في البقر لقول الله - عز وجل - في البقرة ( فذبحوها ) ، ولم يقل فنحروها ، فذبح البقرة ونحرها جائز بالقرآن والسنة ، والحمد لله .

وقال الشافعي ، عن مالك في هذا الحديث : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بقرة ، ومنهم من يرويه بقرا ، وقد ذكرنا هذا المعنى في باب مرسل ابن شهاب من هذا الكتاب ، وذكرنا حكم الاشتراك في الهدي هناك ، وفي باب أبي الزبير ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية