التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1024 [ ص: 206 ] حديث عاشر لربيعة منقطع يتصل من وجوه صحاح

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : قدم على أبي بكر الصديق مال من البحرين فقال : من كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأي أو عدة فليأت ؟ فجاء جابر بن عبد الله فحفن له ثلاث حفنات .


هذا الحديث يتصل من وجوه ثابتة عن جابر ، رواه عنه جماعة ، منهم :

أبو جعفر محمد بن علي ، ومحمد بن المنكدر ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وأبو الزبير ، والشعبي .

وسنذكر وجوه هذا الحديث وطرقه ، من القول في معانيه إن شاء الله .

وفيه من الفقه : أن العدة واجب الوفاء بها وجوب سنة وكرامة ، وذلك من أخلاق أهل الإيمان ، وقد جاء في الأثر ( ( وأي المؤمن واجب ) ) أي واجب في أخلاق المؤمنين ، [ ص: 207 ] وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا ; لإجماع الجميع على أن من وعد بمال ما كان لم يضرب به مع الغرماء ، كذلك قلنا ( إيجاب الوفاء به ، حسن في المروءة ) ، ولا يقضى به ، ولا أعلم خلافا أن ذلك مستحسن ، يستحق صاحبه الحمد والشكر على الوفاء به ، ويستحق على الخلف في ذلك الذم ، وقد أثنى الله عز وجل على من صدق وعده ، ووفى بنذره ، وكفى بهذا مدحا ، وبما خالفه ذما ( ولم تزل العرب تمدح بالوفاء ، وتذم بالغدر والخلف ، وكذلك سائر الأمم - والله أعلم - .

قال سابق بن خديم :


متى ما يقل حر لطالب حاجة نعم يقضها والحر للوأي ضامن

والوأي العدة .

ولما كان هذا من مكارم الأخلاق ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بها وأنذرهم إليها ، وكان أبو بكر خليفته أدى ذلك وقام فيه مقامه في الموضع الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيمه ) .

وقد اختلف الفقهاء فيما يلزم من العدة ، وما لا يلزم منها ، وكذلك اختلفوا في تأخير الدين الحال ، هل يلزم أم لا يلزم ، وهو من هذا الباب ، فقال مالك ، وأصحابه : من أقرض رجلا مالا ، دنانير أو دراهم ، أو شيئا مما يكال أو يوزن ، وغير ذلك إلى [ ص: 208 ] أجل ، أو منح منحة ، أو أعار عارية ، أو أسلف سلفا ، كل ذلك إلى أجل ، ثم أراد الانصراف في ذلك ، وأخذه قبل الأجل لم يكن ذلك له ; لأن هذا مما يتقرب به إلى الله عز وجل ، وهو من باب الحسبة .

قال أبو عمر :

ومن الحجة لمالك رحمه الله في ذلك عموم قوله تعالى وأوفوا بالعهد ، وقوله عليه السلام كل معروف صدقة ، وأجمعوا أنه لا يتصرف في الصدقات ، وكذلك سائر الهبات ) .

قال مالك : وأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له : نعم ، ثم يبدو له أن لا يفعل ، فما أرى ذلك يلزمه ، قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال : نعم ، وثم رجال يشهدون عليه ، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان .

وقال ابن القاسم : إذا وعد الغرماء فقال : أشهدكم ، إني قد وهبت لهذا ، من أين يؤدي إليكم ، فإن هذا يلزمه ، وأما أن يقول : نعم أنا أفعل ، ثم يبدو له ، فلا أرى ذلك عليه .

وقال سحنون : الذي يلزمه من العدة في السلف ، والعارية أن يقول للرجل : اهدم دارك ، وأنا أسلفك ما تبنيها به ، أو اخرج إلى الحج ، وأنا أسلفك ما يبلغك ، أو اشتر كذا ، أو تزوج وأنا أسلفك ثمن السلعة ، وصداق المرأة ، وما أشبهه مما [ ص: 209 ] يدخله فيه ، وينشبه به ، فهذا كله يلزمه قال : وأما أن يقول : أنا أسلفك ، وأنا أعطيك بغير شيء يلزم المأمور نفسه ، فإن هذا لا يلزمه منه شيء .

قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي ، وعبيد الله بن الحسين ، وسائر الفقهاء : أما العدة فلا يلزمه منها شيء ; لأنها منافع لم يقبضها في العارية ; لأنها طارئة ، وفي غير العارية أشخاص ، وأعيان موهوبة ، لم تقبض ، ولصاحبها الرجوع فيها .

وأما القرض فقال أبو حنيفة ، وأصحابه سواء كان القرض إلى أجل أو إلى غير أجل : له أن يأخذه متى أحب ، وكذلك العارية ، وما كان مثل ذلك كله ، ولا يجوز تأخير القرض ألبتة بحال ، ويجوز عندهم تأخير المغصوب ( وقيم المستهلكات ، إلا زفر ، فإنه قال : لا يجوز التأجيل في القرض ، ولا في الغصب ) ، واضطرب قول أبي يوسف في هذا الباب .

وقال الشافعي : إذا أخره بدين حال ، فله أن يرجع متى شاء ، وسواء كان من قرض أو من غير قرض ، أو من أي وجه كان ، وكذلك العارية وغيرها ; لأن ذلك من باب العدة والهبة غير المقبوضة وهبة ما لم يخلق .

قال أبو عمر :

في هذا الحديث أيضا دليل على أن يقضي الإنسان عن غيره [ ص: 210 ] بغير إذنه فيبرأ ، وإن الميت يسقط عنه ما كان عليه بقضاء من قضى عنه - والله أعلم - .

قال أبو عمر :

أما الآثار المتصلة في معنى حديث ربيعة فحدثنا خلف بن قاسم الحافظ قراءة مني عليه أن أبا أحمد الحسين بن جعفر الزيات حدثهم قال : حدثنا يوسف بن يزيد القراطيسي قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله . قال : سفيان وحدثني عمرو بن دينار ، عن محمد بن علي بن جابر بن عبد الله ، يزيد أحدهما على الآخر قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو قدم مال من البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا ، ( ( وهكذا ) ) ( فما قدم مال من البحرين حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ) فلما قدم مال من البحرين قال أبو بكر : [ ص: 211 ] من كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين أو عدة فليأتنا ، قال جابر : فأتيت أبا بكر فقلت : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدني إذا قدم مال من البحرين أعطيتك هكذا وهكذا ، وهكذا ، قال : فحثى لي أبو بكر حثية ، ثم قال لي : عدها فإذا هي خمسمائة ، قال : خذ مثلها مرتين ، وزاد فيه ابن المنكدر ، ثم أتيت أبا بكر بعد ذلك فردني ، فسألته فردني ، فقلت في الثالثة : سألتك مرتين فلم تعطني قال : إنك لم تأتني مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك ، وأي داء أدوأ من البخل ؟ اهـ .

وحدثني أبو عبد الله محمد بن رشيق رحمه الله قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم الخراساني قال : حدثنا بكر بن محمد بن حمدان قال : حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا مقاتل بن إبراهيم قال : حدثنا نوح [ ص: 212 ] بن أبي مريم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : لو جاءنا مال لحثيت لك ، ثم حثيت لك ، ثم حثيت لك ، قال : فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأتيت أبا بكر فحدثته ، فقال : ونحن لو جاءنا مال لحثيت لك ، ثم حثيت لك ، ثم حثيت لك ، قال : فأتى مال فحثى لي ، ثم حثى لي ، ثم حثى لي ، ثم قال : ليس لي عليك فيه صدقة حتى يحول الحول ، فوزنها فكانت ألفا وخمسمائة درهم .

وحدثنا محمد بن إبراهيم ، وإبراهيم بن شاكر قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب الرقي قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار قال : حدثنا محمد بن جابر قال : حدثنا عبد الله بن نمير قال : حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : لما قتل أبي ، دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتحب الدراهم [ ص: 213 ] فقلت : نعم قال : لو جاءني مال لأعطيتك هكذا ، وهكذا ، قال : فمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يعطيني ، فلما استخلف أبو بكر ، أتاه مال من البحرين فقال : خذ كما قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت .

ورواه سعيد بن سليمان سعدويه ، عن فليح بن سليمان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر ، نحوه ، بمعناه .

( وذكر أهل السير : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعد عمرو بن العاص حين بعثه إلى المنذر بن ساوى ، أن يستعمله على صدقات معد ، فلما قدم بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، استعمله عليها أبو بكر إنفاذا لرأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية