التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1620 [ ص: 436 ] حديث حاد وخمسون ليحيى بن سعيد

مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب : أن رجلا من بني مدلج يقال له : قتادة ، حذف ابنه بالسيف فأصاب ساقه ، فنزى في جرحه فمات . فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب ، فذكر ذلك له ، فقال له عمر : اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك ، فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة ، ثم قال : أين أخو المقتول ؟ قال : هأنذا قال : خذها ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس لقاتل شيء .


لم يختلف على مالك في هذا الحديث وإرساله ، وقد رواه حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب أن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليس لقاتل شيء مختصرا ، وهذا منقطع كرواية مالك سواء .

وقد روي مسندا من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك روي قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يقاد والد بولد من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده .

[ ص: 437 ] ومن حديث عمر بن الخطاب - أيضا - ومن حديث ابن عباس ، وهو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق ، مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكاد أن يكون الإسناد في مثله لشهرته تكلفا .

وأما قوله : حذف ابنه بالسيف ، فمعناه : رماه فقطعه ، والحذف : الرمي والقطع بالسيف أو العصا ، ومن رواه بالخاء المنقوطة فقد صحف ; لأن الخذف بالخاء إنما هو الرمي بالحصى أو النوى .

وحديث هذا الباب ليس فيه تصريح بطرح القود بين الأب وابنه إذا قتله ، ولكنه فيه دليل على ذلك ; لأن عمر إنما أمر فيه بالدية المغلظة لطرح القود ، وهذا ما لا إشكال فيه إن شاء الله .

وقد اختلف الفقهاء في ذلك بعض الاختلاف ، فروي عن مالك أنه قال : يقتل بولده إذا قتله عمدا ، وهو قول عثمان البتي ، ودفع من ذهب هذا المذهب ما روي من الأثر في ذلك ; لأنها كلها معلولة الأسانيد ، والمشهور من مذهب مالك - عند أصحابه أن الرجل إذا ذبح ولده أو عمل به عملا لا يشك في أنه عمد إلى قتله دون أدب ، فإنه يقاد به ، وإن حذفه بسيف أو عصا لم يقتل به .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي : لا يقاد والد بولده على حال ، وكذلك الجد لا يقاد بابن ابنه .

[ ص: 438 ] وقال الحسن بن حي : يقاد الجد بابن الابن ، ولا يقاد الأب بابنه ، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه .

وفي هذا الحديث - أيضا - تغليظ الدية على الأب في قتله ابنه ; لأن عمر غلظها على قتادة المدلجي في قتله ابنه ، وقد يحتمل أن يكون قتله عمدا ، ويحتمل أن يكون شبه عمد على مذهب من أثبت شبه العمد ، وقد ذكرنا حكم الديات في العمد وشبهه ، وفي الخطأ ، وما يغلظ منها ، وما لا يغلظ ، وكيف الحكم فيها ممهدا مبسوطا في باب عبد الله بن أبي بكر من هذا الكتاب ، والحمد لله .

ولم يدخل مالك هذا الحديث في باب الديات ، وإنما أدخله في باب ميراث العقل ، فإن كان قتل قتادة المدلجي ابنه خطأ بأن يكون أراد غيره وأصابه ، فالدية في ذلك على عاقلته ، وإن كان أراده ، فليس الحذف بالسيف من شأن القتل به ، ولا خلاف بين العلماء أن من قصد إلى غيره بحديدة يقال مثلها إنه عمد صحيح فيه القود ; إلا أن يكون القاتل أبا ، فإنهم اختلفوا فيه ، وقد حكم مالك في حذف الرجل ابنه بالسيف بغير حكم الأجنبي في ذلك ; لأن ذلك من الأجنبي عنده عمد يجب فيه القود ; لأنه لا يعرف شبه العمد وينكره .

وقد ذكرنا وجه العمد والخطأ ، ووجه شبه العمد في القتل في كتاب الأجوبة عن المسائل المستغربة وجرى من ذلك ذكر كاف في باب ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب .

وأما قول عمر في هذا الحديث لسراقة بن جعشم : اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير ، فإنه أراد أن يأخذ منها ثلاثين حقة ، وثلاثين [ ص: 439 ] جذعة ، وأربعين خلفة حوامل ، يختار ذلك في المائة والعشرين ، وهذا بين في الحديث ، وهكذا التغليظ على الأب في دية الإبل .

وأما تغليظها في الذهب أو الورق على أهلها ، فإنه ينظر إلى قيمة أسنان الدية غير مغلظة فتعرف ، ثم ينظر إلى قيمة أسنان التغليظ ، ثم يحكم بزيادة ما بينهما ، فإن كان قيمة الأسنان في الخطأ ستمائة ، وقيمة المغلظة ثمانمائة ، فبين القيمتين مائتان ، وذلك ثلث دية الخطأ ، فيزاد على أهل الورق أو الذهب ثلث الدية أو أقل أو أكثر على حسبما بين القيمتين ، وتكون الدية المغلظة على الأب في ماله .

هذا مذهب مالك ، وأصحابه ، وعامة العلماء ، ومعنى قول عمر عندهم لسراقة المدلجي : اعدد على ماء قديد كذا وكذا ، قال له ذلك ; لأنه كان المخاطب بذلك لوجاهته في قومه ، ومعرفة عمر به ; لأنه أحد الصحابة ، وكان سيد بني مدلج ، فاستغنى عمر بمخاطبته عن مخاطبة الأب ; لأنه كان الذي قدم عليه بخبر قتل قتادة المدلجي لابنه ، فلذلك توجه الخبر إليه ، لا لأن ذلك على عاقلة قتادة ; هذا قول من جعل الدية في قتل الأب ابنه في مال الأب ، ومن جعلها على عاقلة يجعل الخطاب لسراقة ; لأنه وجه قومه الذين يعقلون عنه ، وهو يجمعها فيهم .

وذكر ابن وهب في موطئه - وقد تقدم إسناده قال : أخبرني حفص بن ميسرة أن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي حدثه قال [ ص: 440 ] حدثني غير واحد : أن عديا الجذامي كان له امرأتان فاقتتلتا ، فرمى إحداهما ، فماتت منها ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اعقلها ، ولا ترثها .

ومذهب مالك أن الدية تغلظ على الأب في قتل ابنه ، ولا تغلظ عنده على أحد الدية إلا على الأب أو الجد في قتل ابنه أو ابن ابنه ، والأم في هذا مثل الأب ، وتغلظ - عنده - الدية في الإبل ، وفي الذهب ، والورق ، وتغلظ في النفس ، وفي الأعضاء ، وقد ذكرنا مذهبه ، ومذهب غيره في الديات المغلظات فيما سلف من هذا الكتاب ، والحمد لله ، فلا وجه لإعادة ذلك هاهنا .

والحجة لمذهب مالك في قتل الأب بابنه ظاهر قول الله - عز وجل - ( الحر بالحر ) ( النفس بالنفس ) ، ولم يخص أبا من غيره ، وقوله - عز وجل - ( ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب ) . وحجة من لم ير قتله بابنه ; الآثار المرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .

حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا أحمد بن صالح المقرئ قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن جعفر بن أحمد بن عمر الناقد يعرف بابن الكوفي قال : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال : حدثنا محمد بن [ ص: 441 ] جابر ، عن يعقوب بن عطاء ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يقاد والد بولد .

حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يقتل الوالد بالولد .

ورواه ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو قال عمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره مثله سواء .

وقد روي هذا الخبر عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن سراقة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا خلف بن القاسم حدثنا محمد بن الحسين بن صالح الحلبي حدثنا أحمد بن عبد الجبار الصوفي حدثنا الهيثم بن خارجة قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن سراقة بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان لا يقيد الأب من ابنه ، ولا يقيد الابن من أبيه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن الجهم ، وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا محمد [ ص: 442 ] بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قالا جميعا : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف قال : حدثنا إسماعيل بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد .

وليس في حديث خلف بن القاسم ، عن طاوس سقط إن شاء الله من الإسناد .

وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن مهران السراج قال : حدثنا بشر بن موسى قال : حدثنا خلاد بن يحيى المقرئ ، عن قيس بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقاد بالولد الوالد .

قال أبو عمر : استفاض عند أهل العلم قوله - صلى الله عليه وسلم - لا يقاد بالولد الوالد .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - لا وصية لوارث استفاضة هي أقوى من الإسناد ، والحمد لله .

وأما منع القاتل عمدا من الميراث ، فإنها عقوبة لاستعجاله إياه من غير وجهه ، والمخطئ عند مالك ليس كذلك ; لأنه لم يقصد إلى القتل ، وقد قال الله - عز وجل - ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) . فجعل ذلك كله كفارة ، ومن كفر عنه قالوا : فلا عقوبة [ ص: 443 ] عليه - والله أعلم - فلهذا لم يمنع عند مالك وجماعة معه الميراث إلا أنه لا يرث من الدية عندهم ; لأنها محمولة عنه ، ويستحيل أن تحمل عنه إليه .

وفي هذا الحديث - أيضا - أن القاتل لا يرث ولا يحجب ; ألا ترى أن عمر رد إلى ابن قتادة المدلجي دية أخيه ، ولم يعط الأب منها شيئا ، وقال لأخي المقتول : خذها ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليس لقاتل شيء .

وأجمع العلماء على أن القاتل عمدا لا يرث شيئا من مال المقتول ، ولا من ديته ; روي عن عمر ، وعلي أن القاتل عمدا لا خطأ لا يرث من المال ولا من الدية شيئا ، ولا مخالف لهما من الصحابة .

واختلفوا في قاتل الخطأ ، فقالت طائفة من أهل العلم : يرث قاتل الخطأ من المال ، ولا يرث من الدية ، وإلى هذا ذهب مالك ، وقال آخرون : لا يرث قاتل الخطأ من المال ولا من الدية ، كما لا يرث قاتل العمد ; لأن الحديث عام في كل قاتل ، وإلى هذا ذهب الشافعي ، وأبو حنيفة ، ومعنى هذا عند جماعة من أهل النظر عقوبة لئلا يتطرق إلى الميراث بالقتل .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس للقاتل من الميراث شيء .

[ ص: 444 ] وروى أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب أن قتادة رجلا من بني مدلج قتل ابنه ، فأخذ عمر منه مائة من الإبل ، وقال : أين أخو المقتول ؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليس لقاتل ميراث .

أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أسد حدثنا الحياش محمد بن محمد حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب أن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليس لقاتل شيء قال يزيد بن هارون : وأخبرنا ابن أبي ذئب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن لا يرث قاتل عمدا من الدية شيئا .

رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : القاتل لا يرث .

وروى أحمد بن حنبل قال : حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثني أبي ، عن ابن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، وعمرو بن شعيب ; كلاهما حدثني عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليس لقاتل شيء .

قال أحمد : وحدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن رجل سمع عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قتل قتيلا ، فإنه لا [ ص: 445 ] يرثه ، وإن لم يكن له وارث غيره ، وإن كان والده أو ولده ، وليس لقاتل ميراث .

روى عبد الواحد بن زياد ، عن الحجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلا قتل ابنه ، فغرمه عمر الدية مائة من الإبل ، ولم يورثه من الدية ، ولا من سائر ميراثه شيئا ، وقال : لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يقتل والد بولد لقتلتك .

وروى أبو بكر بن عياش ، عن مطرف ، عن الشعبي قال : قال عمر : لا يرث قاتل خطأ ولا عمد .

وروى وكيع ، عن الحسن بن صالح ، عن ليث ، عن أبي عمرو العبدي ، عن علي قال : لا يرث القاتل من المال ولا من الدية شيئا .

وروى ابن سيرين ، عن عبيدة قال : لم يورث قاتل بعد صاحب البقرة .

وروى الشعبي ، عن علي ، وعبد الله ، وزيد قالوا : لا يرث قاتل عمدا ولا خطأ شيئا ، وابن أبي ليلى عن علي مثله ، ومجاهد عن عمر مثله ، وبهذا قال مجاهد ، وطاوس وجابر بن زيد ، وشريح ، وإبراهيم ، وعروة ، والحكم بن عتيبة ، وسفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وزفر ، وشريك ، والحسن بن صالح ، ووكيع ، ويحيى بن [ ص: 446 ] آدم كل هؤلاء يقول : لا يرث قاتل عمدا ، ولا خطأ من المال ولا من الدية شيئا .

وقال سعيد بن المسيب ، وعطاء ، والحسن ، والزهري ، ومكحول ، ومالك بن أنس ، وابن أبي ذئب ، والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، وأبو ثور ، وداود : لا يرث قاتل العمد شيئا ، ويرث قاتل الخطأ من المال ، ولا يرث من الدية شيئا .

وقالت طائفة من البصريين : يرث من ماله وديته جميعا ، وروي عن مجاهد : أن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية .

التالي السابق


الخدمات العلمية