التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1048 [ ص: 214 ] حديث حادي عاشر لربيعة منقطع متصل من وجوه شتى

مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري : أنه قدم من سفر ، فقدم إليه أهله لحما ، فقال : انظروا أن يكون هذا من لحوم الأضاحي فقالوا : هو منها فقالأبو سعيد : ألم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ؟ فقالوا : إنه قد كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدك فيها أمر ، فخرج أبو سعيد ، فسأل عن ذلك : فأخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : نهيتكم عن لحوم الأضاحي ، بعد ثلاث ، فكلوا وتصدقوا وادخروا ، ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا ، وكل مسكر حرام ، ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ولا تقولوا هجرا ، يعني لا تقولوا سوءا .


قال أبو عمر :

لم يسمع ربيعة من أبي سعيد الخدري ، وهذا الحديث يتصل من غير حديث ربيعة ، ويستند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق حسان من حديث علي بن أبي طالب ، وأبي سعيد [ ص: 215 ] وبريدة الأسلمي ، وجابر ، وأنس ، وغيرهم ، وهو حديث صحيح .

وفيه من الفقه ترك الإقدام على ما في النفس منه شك ، حتى يستبرأ ذلك بالسؤال والبحث ، والوقوف على الحقيقة .

وفيه أن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه الناسخ ، والمنسوخ ، كما في كتاب الله عز وجل ، وهذا إنما يكون في الأوامر والنواهي من الكتاب والسنة ، وأما في الخبر عن الله عز وجل أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز النسخ في الأخبار البتة بحال ; لأن المخبر عن الشيء أنه كان أو يكون ، إذا رجع عن ذلك لم يخل من السهو أو الكذب ، وذلك لا يعزى إلى الله ، ولا إلى رسوله فيما يخبر به عن ربه في دينه ، وأما الأمر والنهي ، فجائز عليهما النسخ للتخفيف ، ولما شاء الله من مصالح عباده ، وذلك من حكمته لا إله إلا هو .

وقد أنكر قوم من الروافض ، والخوارج ، النسخ في القرآن والسنة ، وضاهوا في ذلك قول اليهود ، ولو أمعنوا النظر لعلموا أن ذلك ليس من باب البداء كما زعموا ، ولكنه من باب الموت بعد الحياة ، والكبر بعد الصغر ، والغنى بعد الفقر إلى أشباه ذلك من حكمة الله تعالى ، ولكن الله يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وليس هذا موضع الكلام في هذا المعنى لئلا نخرج عما قصدناه .

وفيه أن النهي حكمه إذا ورد أن يتلقى باستعمال ترك ما نهي عنه والامتناع منه ، وأن النهي محمول على الحظر والتحريم [ ص: 216 ] والمنع حتى يصحبه دليل من فحوى القصة والخطاب ، أو دليل من غير ذلك يخرجه من هذا الباب إلى باب الإرشاد ، والندب .

وفيه أن الآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسخ لما تقدم منه إذا لم يمكن استعماله ، وصح تعارضه ، ولذلك لا خلاف علمته من العلماء في إجازة أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، وقبل ثلاث ، وأن النهي عن ذلك منسوخ على ما جاء في هذا الحديث ، لا خلاف بين فقهاء المسلمين في ذلك .

وقد روت عمرة ، عن عائشة بيان العلة في النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، وأن ذلك إنما كان محبة في الصدقة من أجل الدافة التي كانت قد دفت عليهم يعني الجماعة من الفقراء القادمة عليهم .

وروى ذلك مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة ، وسنذكره في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا سليمان بن الأشعث قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي المليح ، عن نبيشة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 217 ] إنا كنا نهيناكم عن لحومها أن تأكلوها فوق ثلاث ; لكي تسعكم ، فقد جاء الله بالسعة ، فكلوا وادخروا وائتجروا ، ألا وإن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل .

قال أبو عمر :

هكذا في حديث نبيشة الخير ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : فكلوا وادخروا وائتجروا ، ومعناه : اتخذوا الأجر فيما تتصدقون به منها ، يبين ذلك حديث عمرة ، عن عائشة المتقدم ذكره فيه : فكلوا وتصدقوا وادخروا ( ومعناهما عندي واحد - والله أعلم - .

وأما قوله فكلوا وتصدقوا وادخروا ) على لفظ الأمر فإن معناه الإباحة لا الإيجاب ، وهكذا كل أمر يأتي في الكتاب والسنة بعد حظر ، ومنع تقدمه ، فمعناه الإباحة ، ألا ترى أن الصيد لما حظر على المحرم ومنع منه ، ثم قيل له بعد أن حل : اصطد إذا حللت ، كان ذلك إباحة له في الاصطياد ، [ ص: 218 ] لا إيجابا لذلك عليه ، قال الله عز وجل : وإذا حللتم فاصطادوا ، ومثل ذلك فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ، وهو كثير في القرآن والسنة ، والحمد لله ، وهذا أصل جسيم في العلم فقف عليه ، وإذا كان هذا كما ذكرنا ، فجائز للمضحي أن يأكل أضحيته كلها ، وجائز أن يتصدق بها كلها ، وجائز أن يدخر وأن لا يدخر ، وعلى هذا جماعة العلماء ، إلا أنهم يستحبون للمضحي أن يأكل ويتصدق ، ويكرهون له أن لا يتصدق منها بشيء .

وكان الشافعي رحمه الله يستحب أن يأكل من أضحيته ثلثها ، ويتصدق بثلث ، ويدخر ثلثا على ما جاء في الحديث .

وكان غيره يستحب أن يتصدق بنصف ، ويأكل نصفا لقول الله في البدن فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر .

وأما مالك رحمه الله فلم يحد في ذلك حدا ، وكان يستحب أن يأكل منها ، ويتصدق من غير أن يحد في ذلك حدا .

حدثني أحمد بن عمر قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال : حدثنا معن بن عيسى ، عن معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن ثوبان قال : [ ص: 219 ] ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ، ثم قال : يا ثوبان ، أصلح لحم هذه الأضحية ، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة .

ففي هذا الحديث ادخار لحم الأضحية ، وفيه الضحية في السفر .

وأما قوله : ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا ، وكل مسكر حرام فإن ذلك عند أهل العلم محمول على أن النهي عنها معناه لسرعة الشدة فيها ، ولهذا ثبت على كراهية الانتباذ فيها جماعة من العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الناسخ : وكل مسكر حرام ، وكرهوا الانتباذ فيها خوفا من موافقة المسكر - والله أعلم - .

فإن انتبذ أحد في شيء منها ، ولم يشرب مسكرا فلا حرج عليه .

والأوعية التي نهي عن الانتباذ فيها : هي الدباء ، والنقير ، والحنتم ، والمزفت ، والمقير ، والجر ، وما كان مثلها .

[ ص: 220 ] وبذكر هذه الأوعية ، وردت الآثار في كراهية النبيذ فيها .

وكان عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس لا يريان الانتباذ في شيء منها بحال ، لما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عنها وعن نبيذ الجر ، وكان ابن عباس يقول : الجر كل ما يصنع من مدر ، وكانا لا يجيزان النبيذ إلا في الجلود بعضهم يقول : ( ( أسقية الأدم ، وبعضهم يقول : الجلد الموكا عليه ، ونحو هذا .

وابن عباس هو الذي روى حديث وفد عبد القيس ، وفيه النهي عن الشرب في الدباء ، والنقير ، والمقير ، وبعضهم يقول : المزفت ، والحنتم .

وفي ذلك الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله أرأيت إن اشتد في الأسقية قال : فصبوا عليه الماء ، قالوا : يا رسول الله ، فقال لهم في الثالثة أو الرابعة : اهرقوه ، ثم قال : إن الله حرم الخمر ، والميسر ، وكل مسكر حرام .

قال أبو عمر :

ففي هذا الحديث دليل على أن النهي عن ذلك خشية مواقعة الحرام - والله أعلم - ، وإذا كان ذلك كذلك ، فواجب أن تكون الكراهية باقية على كل حال ; لأن الخشية مرتفعة ، ويكون على هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - فانتبذوا فيما بدا لكم ، كشفا عن المراد ، لا أنه نسخ أباح فيه ما حرم قبل ، هذا ما يحضرني من التأويل فيه ، وبالله التوفيق .

[ ص: 221 ] ومما يدل على أن الوجه ما ذكرنا : ما خرجه أبو داود ، عن مسدد ، عن يحيى القطان ، عن الثوري ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر بن عبد الله قال : لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأوعية قالت الأنصار : إنه لا بد لنا ، قال : فلا إذا .

وهذا حديث صحيح ، ويدل على ذلك أيضا اختلاف الفقهاء في هذا الباب مع علمهم بهذا الحديث ، وروايتهم له .

وذكر ابن القاسم ، عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء ، والمزفت ، ولا يكره غير ذلك .

قال أبو عمر :

هذا لما خشي من سرعة الفساد إلى النبيذ في هذين الظرفين - والله أعلم - .

وكره الثوري الانتباذ في الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمزفت .

وقال الشافعي : لا أكره من الأنبذة - إذا لم يكن الشراب يسكر - شيئا بعد ما سمي في الآثار من الحنتم ، والنقير ، والدباء ، والمزفت .

قال أبو عمر :

قد أحاط علمنا بأن مالكا ، والثوري ، والشافعي رووا الآثار الناسخة المذكورة في هذا الباب ، وعنهم رويناها ، فلا وجه [ ص: 222 ] لكراهيتهم الانتباذ في هذه الأوعية مع سرعتهم إلى القول بما صح عندهم من الآثار المسندة ، إلا ما ذكرنا ، وبالله التوفيق .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : لا بأس بالانتباذ في جميع الأواني ، وحجتهم الآثار التي ذكر فيها النسخ لما قبلها ، ورووا عن أنس أنه كان ينبذ له في جرة خضراء ، وهو أحد من روى النهي عن نبيذ الجر ، فدل ذلك على أنه منسوخ .

فأما الآثار في هذا الباب : فحدثنا خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا سعيد بن منصور قال : حدثنا فليح بن سليمان ، عن محمد بن عمرو العتواري قال : حدثني أبي أن عبد الله بن عمر مر به فقال له : أين أصبحت غاديا يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : أردت أبا سعيد الخدري قال : فانطلقت معه فقال له ابن عمر : يا أبا سعيد ما حديث بلغني عنك أنك تحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في لحوم الأضاحي ، وادخارها بعد ثلاث ( وفي زيارة القبور ، وفي الأنبذة ؟ فقال أبو سعيد : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي ، وادخارها بعد ثلاث ) فقد جاء الله بالسعة فكلوا ، وادخروا ما بدا لكم ، وكنت نهيتكم عن [ ص: 223 ] زيارة القبور ، فإن زرتموها فلا تقولوا هجرا ، ونهيتكم عن الأنبذة فاشربوا كما بدا لكم ، وكل مسكر حرام .

( وأما حديث علي بن أبي طالب فسنذكره بعد في هذا الباب .

وأما حديث ابن مسعود ) فروى واسع بن حبان ، عن أبي سعيد ، عن النبي عليه السلام نحوه ، وأخبرني أحمد بن محمد قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن زيد قال : حدثنا فرقد السبخي قال : حدثنا جابر بن يزيد ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، وإنه قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها تذكركم الآخرة ، ونهيتكم عن هذه الأوعية ، وإن الأوعية لا تحل شيئا منها ، ولا تحرمه ، فاشربوا فيها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فاحبسوا ما بدا لكم .

[ ص: 224 ] وأخبرني عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن يونس قال : حدثنا معرف بن واصل ، عن محارب بن دثار ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نهيتكم عن ثلاث ، وإني آمركم بهن : عن زيارة القبور فزوروها ; فإن في زيارتها تذكرة ، ونهيتكم عن الأشربة أن تشربوا إلا في ظروف الأدم ، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث فكلوا ، واستمتعوا بها في أسفاركم .

وروى الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ( قال : كنت [ ص: 225 ] نهيتكم عن زيارة القبور ، فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها ما بدا لكم ; فإنها تذكر الآخرة ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تأكلوها فوق ثلاث ، وإنما أردنا بذلك أن يوسع أهل السعة على من لا سعة له ، فكلوا مما بدا لكم ، ونهيتكم عن الظروف ، وإن الظروف لا تحل شيئا ، ولا تحرمه ، وكل مسكر حرام ) .

قال أبو عمر :

قد تقدم القول في أن هذا القول إباحة ، فمن شاء انتبذ ، ومن شاء لم ينتبذ ، ومن شاء زار القبور ، ومن لم يشأ لم يزر .

وروى عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت نهيتكم أن تنتبذوا في الدباء ، والحنتم ، والمقير ، والمزفت فانتبذوا ، ولا أحل مسكرا .

وروى أبو بردة بن نيار ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، أو نحوه .

[ ص: 226 ] وقال عبد الله بن المغفل : شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نهى عن نبيذ الجر ، وشهدته حين أمر بشربه فقال : اجتنبوا المسكر .

أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان قال : حدثنا محمد بن العباس قال : حدثنا ابن الطائفي قال : حدثنا زهير بن عباد قال : حدثني ضمرة ، عن عثمان بن عطاء ، عن أبيه ، عن ابن بريدة ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أحل نبيذ الجر بعد أن حرمه .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال : حدثنا حجاج بن منهال ، وسليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن يزيد ، عن ربيعة بن النابغة ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب [ ص: 227 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كنت نهيتكم عن الأوعية ، فانتبذوا فيم بدا لكم ، وإياكم والمسكر ، فكل مسكر حرام ، ونهيتكم عن زيارة القبور ، فإن زرتموها فلا تقولوا هجرا .

وحدثنا أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل الخفاف قال : حدثنا عبد الملك بن محمد الدقاق قال : حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال : حدثنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن عطاء الخراساني ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة ، ونهيتكم عن نبيذ الجر ، فانتبذوا في كل وعاء ، واجتنبوا كل مسكر ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، وكلوا ، وادخروا ، وتزودوا .

وحدثني أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا شريك بن عبد الله ، عن سماك بن حرب ، عن ابن بريدة ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 228 ] نهى عن زيارة القبور ، ولحوم الأضاحي أن تحبس فوق ثلاث ، وعن الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمزفت ، ثم إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا ، وأطعموا ، وادخروا ، ونهيتكم عن الظروف ، فانتبذوا فيما بدا لكم ، واجتنبوا كل مسكر .

( وروى محمد بن إسحاق ، عن سلمة بن كهيل ، عن ابن بريدة ، عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في الظروف بعد أن نهى عنها ، وانفرد به محمد بن إسحاق ، عن سلمة بن كهيل ، وليس لسلمة عن ابن بريدة غير هذا الحديث .

قال أبو عمر :

احتج بعض من أجاز شرب النبيذ الصلب بأحاديث هذا الباب ، وقالوا : هذه الأحاديث تدل على أن الذي نهي عنه من شرب النبيذ هو ما أسكر شاربه منه ، وما لم يسكره فليس بحرام عليه ، قالوا : والمسكر مثل المحنتم من الأطعمة ، والمبشم ، والمشبع ، وهو ما أشبع من الأطعمة ، وأتخم ، ولا يقال لمن أكل لقمة واحدة : أكل ما يتخمه ، ويشبعه ، وأكثروا من القول في هذا المعنى مما لا وجه لإيراده هاهنا .

[ ص: 229 ] وقالوا : قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اشربوا في الظروف كلها ، ولا تسكروا بعد أن كان نهاهم عن الانتباذ في بعضها قالوا : ومحال أن يقول رسول الله : اشربوا ما لا يسكر قليله ، ولا كثيره ، وإياكم أن تسكروا ; لأن هذا غير جائز أن يضاف مثله إليه ; لأن الحلو الذي لا يسكر كثيره ، ولا قليله ، ليس يقال في مثله : اشرب منه ، ولا تسكر ، وأتوا بضروب من خطأ القول ، والتعسف في الاحتجاج بما لا يلزم .

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام ما يرفع الإشكال فيما ذكروه ، ويوهم أن النهي عن شرب قليل الجنس من المسكر وكثيره ، لا عن الفعل من فعل الشارب ، وخرج القول في نبيذ الظروف على خوف الشدة فيه على ما وصفنا ، وقد بينا هذا المعنى في باب إسحاق ) .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث : ونهيتكم عن زيارة [ ص: 230 ] القبور فزوروها ، ولا تقولوا هجرا فإن العلماء اختلفوا في ذلك على وجهين :

أحدهما : أن الإباحة في زيارة القبور إباحة عموم ، كما كان النهي عن زيارتها نهي عموم ، ثم ورد النسخ بالإباحة على العموم ، فجائز للنساء ، والرجال زيارة القبور على ظاهر هذا الحديث ; لأنه لم يستثن فيه رجلا ، ولا امرأة اهـ .

حدثني خلف بن القاسم الحافظ قال : حدثنا أبو علي سعيد بن السكن قال : حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد قال : حدثنا حميد بن الربيع الخزاز قال : حدثنا يحيى بن اليمان قال : أخبرنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن ابن بريدة ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زار قبر أمه في ألف مقنع ، قال : فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من يومئذ .

[ ص: 231 ] قال أبو علي : قال لي ابن صاعد : كان حميد لا يحدث بهذا الحديث إلا في كل سنة مرة .

( قال أبو عمر .

زعم قوم أن يحيى بن اليمان انفرد بهذا الحديث ; لأن سائر أصحاب الثوري يروونه عن الثوري ، عن علقمة مرسلا ، والذي قال أن حميد بن الربيع انفرد بتوصيله ، لأن البزار ذكره ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن سفيان ، عن علقمة مرسلا ، وذكره البزاز أيضا ، عن حميد بن الربيع متصلا كما ذكرنا ) .

وقال آخرون : إنما اقتضت الإباحة زيارة القبور للرجال والنساء ، فجائز للرجال زيارة القبور ، وغير جائز ذلك للنساء لما خصص في ذلك ، واحتجوا لما ذهبوا إليه مما ذكرنا عنهم بحديث ابن عباس ، عن النبي عليه السلام ، وهو ما حدثناه أبو القاسم خلف بن القاسم قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبيد بن آدم بن أبي إياس قال : حدثنا أبو معن ثابت بن نعيم قال : حدثنا آدم بن أبي إياس قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن [ ص: 232 ] جحادة ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزائرات للقبور ، والمتخذين عليها المساجد ، والسرج .

وحدثنا أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا غندر قال : حدثنا شعبة ، عن محمد بن جحادة ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد ، والسرج .

وحدثناه محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : حدثنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا عبد الوارث ، عن محمد بن جحادة ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس فذكره سواء .

قال أبو عمر :

ممكن أن يكون هذا قبل الإباحة ، وتوقي ذلك للنساء المتجالات أحب إلي ، فأما الشواب ، فلا تؤمن الفتنة عليهن ، وبهن ، حيث [ ص: 233 ] خرجن ، ولا شيء للمرأة أفضل من لزوم قعر بيتها ، ولقد كره أكثر العلماء خروجهن إلى الصلوات ، فكيف إلى المقابر ، وما أظن سقوط فرض الجمعة عنهن إلا دليلا على إمساكهن عن الخروج فيما عداها - والله أعلم - .

واحتج من أباح زيارة القبور للنساء بما حدثناه عبد الله بن محمد قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق قال : حدثنا الحسن بن داود قال : حدثنا أبو بكر الأثرم قال : حدثنا محمد بن المنهال قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا بسطام بن مسلم ، عن أبي التياح يزيد بن حميد ، عن عبد الله بن أبي مليكة : أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها : يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقلت لها : أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور ، قالت : نعم ، كان نهى عن زيارتها ، ثم أمر بزيارتها .

قال أبو بكر : وحدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان بن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : زارت عائشة قبر أخيها في هودج .

قال أبو بكر : وحدثنا مسدد قال : حدثنا نوح بن [ ص: 234 ] دراج ، عن أبان بن تغلب ، عن جعفر بن محمد قال : ( ( كانت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة ، وعلمته بصخرة ) ) .

قال أبو بكر : وسمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يسأل عن المرأة تزور القبر فقال : أرجو إن شاء الله أن لا يكون به بأس ، عائشة زارت قبر أخيها قال : ولكن حديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور ، ثم قال : هذا أبو صالح ماذا ؟ كأنه يضعفه ، ثم قال : أرجو إن شاء الله ، عائشة زارت قبر أخيها ، قيل لأبي عبد الله : فالرجال ، قال : أما الرجال فلا بأس به .

قال أبو عمر :

قد روي حديث : لعن زوارات القبور من غير رواية أبي صالح ومن غير حديث ابن عباس .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا عبد الملك بن بحر قال : حدثنا موسى بن هارون قال : حدثنا العباس بن الوليد قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر [ ص: 235 ] ابن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ( وبه ، عن موسى بن هارون ) قال : حدثنا العباس بن الوليد قال : حدثنا عبد الجبار بن الورد قال : سمعت ابن أبي مليكة يقول : ركبت عائشة فخرج إلينا غلامها فقلت : أين ذهبت أم المؤمنين قال : ذهبت إلى قبر أخيها ( عبد الرحمن تسلم عليه ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية