التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
144 [ ص: 14 ]

حديث رابع وخمسون ليحيى بن سعيد

757 مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال : دخل أعرابي المسجد فكشف ، عن فرجه ليبول فصاح الناس به حتى علا الصوت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتركوه فتركوه فبال ، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء ، فصب على ذلك المكان .


الذنوب : الدلو الكبيرة ههنا ، وقد يكون الذنوب الحظ والنصيب من قوله تعالى ( ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم )

هذا حديث مرسل في الموطأ ، عند جماعة الرواة ، وقد روي مسندا متصلا ، عن يحيى بن سعيد عن أنس من وجوه صحاح ، وهو محفوظ ثابت من حديث أنس ومن حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ههنا حديث أنس خاصة ; لأنه عنه رواه يحيى بن سعيد .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن قراءة مني عليه ، أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا يحيى بن سعيد قال : سمعت أنس بن مالك يقول : دخل أعرابي المسجد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى حاجته ، فلما قام بال في ناحية المسجد فصاح به [ ص: 15 ] الناس ، فكفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى فرغ من بوله ، ثم دعا بدلو من ماء فصبه على بول الأعرابي .

وأخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا نعيم بن حماد وحدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا سويد بن نصر قالا جميعا : أخبرنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سمعت أنس بن مالك يقول : جاء أعرابي إلى المسجد قال : فبال قال : فصاح به الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتركوه . فتركوه حتى بال ، ثم أمر بدلو فصب عليه .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا عبدة عن يحيى بن سعيد عن أنس قال : بال أعرابي في المسجد فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدلو من ماء فصب عليه .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : سمعت أنس بن مالك يقول : إن أعرابيا بال في المسجد فذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنعونه فقال : دعوه ، ثم أمر بماء فصب عليه .

ورواه ثابت البناني وإسحاق بن أبي طلحة عن أنس مثله [ ص: 16 ] .

أخبرنا محمد بن إبراهيم قال : حدثنا محمد بن معاوية قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا قتيبة بن سعيد قال : حدثنا حماد عن ثابت عن أنس : أن أعرابيا بال في المسجد فقام إليه بعض القوم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دعوه ، لا تزرموه ، فلما فرغ دعا بدلو فصبه عليه .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا سعيد بن السكن قال : حدثنا محمد بن يوسف قال : حدثنا البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد الوراق حدثنا الخضر بن داود حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا مسلم بن إبراهيم قالا جميعا : حدثنا همام قال : حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك : أن أعرابيا أتى المسجد ، فبال فيه فسكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم دعا بماء فصبه عليه .

ورواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة وعن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وهذا الحديث أصح حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الماء ، وهو ينفي التحديد في مقدار الماء الذي تلحقه النجاسة ، ويقضي أن الماء طاهر مطهر لكل ما غلب عليه ، وأن كل ما مازجه من النجاسات ، وخالطه من الأقذار لا يفسده إلا أن يظهر ذلك فيه ، أو يغلب عليه فإن [ ص: 17 ] كان الماء غالبا مستهلكا النجاسات فهو مطهر لها وهي غير مؤثرة فيه ، وسواء في ذلك قليل الماء وكثيره ، هذا ما يوجبه هذا الحديث ، وإليه ذهب جماعة من أهل المدينة منهم سعيد بن المسيب وابن شهاب وربيعة وهو مذهب المدنيين من أصحاب مالك ومن قال بقولهم من البغداديين ، وهو مذهب فقهاء البصرة ، وإليه ذهب داود بن علي

وهو أصح مذهب في الماء من جهة الأثر ، ومن جهة النظر لأن الله قد سمى الماء المطلق طهورا يريد طاهرا مطهرا فاعلا في غيره ، وقد بينا وجه ذلك في اللغة في باب إسحاق .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : الماء لا ينجسه شيء يعني إلا ما غلب عليه فغيره : يريد في طعم ، أو لون ، أو ريح ، وقد أوضحنا هذا المعنى ، وذكرنا فيه اختلاف العلماء ، وبينا موضع الاختيار عندنا في ذلك ممهدا مبسوطا في باب إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة من هذا الكتاب فلا معنى لتكرير ذلك ههنا ، والحمد لله .

وهذا الحديث ينقض على أصحاب الشافعي ما أصلوه في الفرق بين ورود النجاسة على الماء ، وبين وروده عليها لأنهم يقولون إن ورود الماء في الأرض على النجاسة ، أو في مستنقع مثل الإناء وشبهه ، أنه لا يطهره حتى يكون الماء قلتين ، وقد علمنا أن الذنوب الذي صبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بول الأعرابي لم يعتبر فيه قلتين ، ولو كان في الماء [ ص: 18 ] مقدار يراعى لاعتبر ذلك في الصب على بول الأعرابي ، ومعلوم أن ذلك الذنوب ليس بمقدار القلتين الذي جعله الشافعي حدا ، والله أعلم .

ومن أصحاب الشافعي من فرق بين ورود الماء على النجاسات ، وبين ورودها عليه فاعتبر مقدار القلتين في ورود النجاسة على الماء ، ولم يعتبر ذلك في ورود الماء عليها بحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غسل اليد لمن استيقظ من نومه قبل أن يدخلها في الإناء ، وقد أوضحنا هذا المعنى في باب أبي الزناد والحمد لله .

وأما الحديث الذي ذهب إليه الشافعي في هذا الباب حديث القلتين فإنه حديث يدور على محمد بن جعفر بن الزبير وهو شيخ ليس بحجة فيما انفرد به .

رواه عنه محمد بن إسحاق والوليد بن كثير فبعضهم يقول فيه ، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وبعضهم يقول فيه ، عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه .

وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه ، وكلهم يرفعه وعاصم بن المنذر عندهم لين ليس بحجة [ ص: 19 ] .

قال إسماعيل بن إسحاق هذان شيخان يعني محمد بن جعفر بن الزبير وعاصم بن المنذر لا يحتملان التفرد بمثل هذا الحكم الجليل ، ولا يكونان حجة فيه .

قال : ومقدار القلتين غير معلوم قال ، ومن ذهب إلى أنها قلال هجر فمحال أن يسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة سنة على قلال هجر مع اختلافها ، وأكثر من القول في ذلك .

قال أبو عمر : إذا لم يصح حديث القلتين في التحديد المفرق بين قليل الماء الذي تلحقه النجاسة ، وبين الكثير منه الذي لا تلحقه إلا بأن يغلب عليه في ريح ، أو لون ، أو طعم فلا وجه للفرق بين اليسير من الماء ، والكثير منه من جهة النظر إذا لم يصح فيه أثر ، وما رواه أهل المغرب عن مالك في ذلك فعلى وجه التنزه ، والاستحباب ، والله الموفق للصواب ، وما مضى في هذا المعنى في باب إسحاق وأبي الزناد كاف إن شاء الله

التالي السابق


الخدمات العلمية