التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1688 مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني أنمار قال جابر : فبينا أنا نازل تحت شجرة ، إذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فقلت : يا رسول الله هلم إلى الظل ، قال : فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقمت إلى غرارة لنا [ ص: 252 ] فالتمست فيها ، فوجدت جرو قثاء ، فكسرته ، ثم قربته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : من أين لكم هذا ؟ فقلت : خرجنا به يا رسول الله من المدينة قال جابر : وعندنا صاحب لنا نجهزه يذهب يرعى ظهرنا قال : فجهزته ، ثم أدبر يذهب في الظهر ، وعليه بردان له قد خلقا ، قال : فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أما له ثوبان غير هذين ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ، ثوبان في العيبة كسوته إياهما ، قال : فادعه ، فمره ، فيلبسهما ، قال : فدعوته فلبسهما ، ثم ولى يذهب قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما له ؟ ضرب الله عنقه ، أليس هذا خيرا ؟ قال : فسمعه الرجل فقال : يا رسول الله في سبيل الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : في سبيل الله ، فقتل الرجل في سبيل الله .


( هكذا هذا الحديث في الموطأ ، لم يختلف فيه الرواة .

وقد حدث أبو نعيم الحلبي عبيد بن هشام ، عن ابن [ ص: 253 ] المبارك ، عن مالك بحديث هو عندهم خطأ إن أراد حديث زيد بن أسلم هذا .

حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا أبو الحسين علي بن الحسين بن بندار قال : حدثنا أبو عثمان سعيد بن عبد العزيز قال : حدثنا أبو نعيم الحلبي ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن مالك ، عن محمد بن المنكدر ، عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : يا فلان ضرب الله عنقك ، قال : في سبيل الله يا رسول الله ، قال : في سبيل الله ، قال : وهي كانت نية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

رواه عن أبي نعيم الحلبي جماعة هكذا بهذا الإسناد ، منهم أبو عمران موسى بن محمد الأنطاكي ، وسعيد بن عبد العزيز بن مروان الحلبي ) .

في هذا الحديث إباحة طلب الظل والراحة ، وأن الوقوف للشمس مع وجود الظل ، ليس من البر في غزو كان ذلك ، أو غيره ; لأنهم كانوا غازين مجاهدين حينئذ .

وفيه الخروج بالزاد ، وفي ذلك رد على من قال من الصوفية لا يدخر لغد .

وفيه إكرام الرجل الجليل السيد بيسير الطعام ، وقبول الجلة ليسير ما يدعون إليه .

وفيه أن للرجل أن يسأل من أين هذا الطعام ؟ إذا خاف منه شيئا ، أو خاف من صاحب غفلة لمعنى معهود ، فينبهه على ذلك ، وكان جابر يومئذ حدثا - والله أعلم - بمعنى سؤال رسول الله [ ص: 254 ] - صلى الله عليه وسلم - إياه عن ذلك ، ولم يكن جابر ممن يتهم ، ولكن رسول الله بعث معلما - صلى الله عليه وسلم - .

وفيه أن من وسع الله عليه لم يجز له إدمان لبس الخلق من الثياب ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : إذا أنعم الله على عبد بنعمة ، أحب أن يرى أثرها عليه .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا وسع الله عليكم ، فأوسعوا على أنفسكم ، جمع الرجل عليه ثيابه اهـ .

حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال : حدثنا محمد بن العباس الحلبي قال : حدثنا علي بن عبد الحميد الغضائري قال : حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثني أبي ، عن بكر المزني ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده .

[ ص: 255 ] ( وهذا الحديث يعارض ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : البذاذة من الإيمان .

والبذاذة : رثاثة الهيئة
) .

وفيه إباحة الكلام بالمعاريض ، وبما فحواه يسمع إذا كان المتكلم به يريد به وجها محمودا ، ألا ترى إلى قوله : ما له ؟ ضرب الله عنقه ، وهو يريد بذلك الشهادة له ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قلما يقول مثل هذا إلا كان كما قال .

ألا ترى إلى ما روي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا : حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثة إلى مؤتة ، وأمر عليهم زيد بن حارثة فقال : إن قتل فجعفر بن أبي طالب ، فإن قتل جعفر ، فعبد الله بن رواحة قالوا : فلما قال ذلك علمنا أنهم سيقتلون .

ومثل هذا ما حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا هاشم بن القاسم قال : حدثنا عكرمة بن عمار قال : حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع ( قال : أخبرني أبي في حديث ذكره : أن عامر بن الأكوع ) حين خرج إلى خيبر جعل يرتجز بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 256 ] وفيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل يسوق بهم الركاب ، وهو يقول :


تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ، ولا صلينا     إن الذين قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا     ونحن عن فضلك ما استغنينا
فثبت الأقدام إن لاقينا


وأنزلن سكينة علينا

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، من هذا ؟ قالوا : عامر يا رسول الله قال : غفر لك ربك قال : وما استغفر لإنسان قط يخصه إلا استشهد .

قال : فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب قال : يا رسول الله لو متعتنا بعامر ، فقام عامر إلى الحرب فبارزه مرحب اليهودي فاستشهد ، وذكر تمام الحديث ، ألا ترى إلى قوله : وما استغفر لإنسان يخصه إلا استشهد ، وإلى قول عمر : لو متعتنا بعامر ، وهذا كله في معنى قوله : ما له ؟ ضرب الله عنقه .

وفيه إجابة دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ودعاؤه كله عندنا مجاب إن شاء الله .

وسيأتي القول في معنى حديثه - صلى الله عليه وسلم - : فاختبأت دعوتي ; شفاعة لأمتي في موضعه من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية