التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 241 ] حديث سابع عشر من البلاغات

مالك أنه بلغه عن أهل العلم أنهم كانوا يقولون : الشهداء في سبيل الله لا يغسلون ، ولا يصلى عليهم ، ويدفنون في الثياب التي قتلوا فيها .


قال مالك : وتلك السنة فيمن قتل في المعترك فلم يدرك حتى مات ، قال : وأما من حمل منهم فعاش ما شاء الله بعد ذلك ، فإنه يغسل ، ويصلى عليه كما عمل بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .

وذكر مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - غسل وكفن ، وصلي عليه ، وكان شهيدا - رحمه الله - .

قال أبو عمر :

فيما حكاه مالك ، عن أهل العلم في هذا الباب في الشهداء المقتولين في المعترك أنهم لا يغسلون ، ولا يصلى عليهم ، حديث جابر انفرد به الليث ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن جابر بن عبد الله أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع ( بين ) الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ، ويقول : أيهما أكثر قرآنا ، فإذا أشاروا إلى [ ص: 242 ] أحدهما قدمه في اللحد ، وقال : أنا الشهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم بدمائهم ، ولم يصل عليهم ، ولم يغسلوا ذكره داود ، عن قتيبة ، ويزيد بن خالد جميعا ، عن الليث .

وكذلك رواه ابن وهب ، عن الليث ، وفي هذا الباب أيضا حديث شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن الزهري ، عن ابن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه عن الزهري ، عن أنس ، رواه أسامة بن زيد عنه ، ذكره ابن وهب ، عن أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا بدمائهم ، ولم يصل عليهم .

ورواه ابن عباس أيضا ، ذكره أبو داود قال : أخبرنا زياد بن أيوب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد ، والجلود ، وأن يدفنوا بدمائهم ، وثيابهم .

ورواه ابن وهب ، عن عبد الله بن السمح أنه أخبره ، عن عباد بن كثير ، عن عمر بن الخطاب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد : انزعوا عنهم الحديد ، وادفنوهم في ثيابهم .

واختلف الفقهاء في غسل الشهداء ، والصلاة عليهم ، فذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري ، والليث بن سعد إلى أنهم لا يغسلون ، وحجتهم حديث جابر ، وسائر ما ذكرنا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الأحاديث في هذا الباب ، وبذلك قال : أحمد بن حنبل ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وداود ، وجماعة فقهاء الأمصار ، وأهل الحديث ، وابن علية .

[ ص: 243 ] وقال سعيد بن المسيب ، والحسن البصري يغسل الشهداء ، قال أحدهما : إنما لم يغسل شهداء أحد لكثرتهم ، وللشغل عن ذلك ، ولم يقل بقول سعيد والحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري البصري ، وليس ما ذكروا من الشغل ، عن غسل شهداء أحد علة ; لأن كل واحد منهم كان له ولي يشتغل ( به ) ويقوم بأمره ، والعلة - والله أعلم - في ترك غسلهم ما جاء في الحديث المرفوع في دمائهم أنها تأتي يوم القيامة كريح المسك ، رواه الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقتلى أحد : زملوهم بجراحهم ، فإنه ليس من كلم يكلمه المومن في سبيل الله إلا أتى يوم القيامة لونه لون الدم ، وريحه ريح المسك .

وروي مثل هذا من وجوه ، فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال ذلك ، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر ، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقلته الكافة في قتلى أحد أنهم لم يغسلوا ، ولثبوت أخبار الآحاد العدول بذلك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن ، وسعيد في هذه المسألة بقوله - صلى الله عليه وسلم - في شهداء أحد : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة .

وقال هذا يدل على خصوصهم ، وأنهم لا يشركهم في ذلك غيرهم .

قال : ويلزم من قال : في المحرم الذي وقصته ناقته فقال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا تخمروا رأسه ، ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث ملبيا [ ص: 244 ] أن ذلك خصوص بذكر بعثه ملبيا ، ولا يقال ذلك في غيره أن يقول مثل ذلك في الشهداء بأحد ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشهداء أحد : أنا شهيد على هؤلاء ، وخصهم بترك الغسل .

قال أبو عمر :

القول بهذا خلاف على الجمهور ، وهو يشبه الشذوذ ، والقول بترك غسلهم أولى لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أحد ، وغيرهم .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات ، فأدرج في ثيابه كما هو قال : ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأما الصلاة عليهم ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، واختلفت فيه الآثار : فذهب مالك ، والليث ، والشافعي ، وأحمد ، وداود - إلى أن لا يصلى عليهم لحديث الليث ، عن الزهري ، عن ابن كعب بن مالك ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في قتلى أحد - على ما تقدم ذكره .

وقال فقهاء الكوفة ، والبصرة ، والشام يصلى عليهم ، ورووا آثارا كثيرة أكثرهم مراسيل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على حمزة ، وعلى سائر شهداء أحد .

وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حيا ، ولم يمت في المعترك ، وعاش أقل شيء ، فإنه يصلى عليه كما صنع بعمر - رضي الله [ ص: 245 ] عنه - ، واختلفوا في غسل من قتل مظلوما كقتيل الخوارج ، وقطاع السبيل ، واللصوص ، وما أشبه ذلك ممن قتل مظلوما ، فقال مالك : لا يغسل إلا من قتله الكفار ، ومات في المعترك ، هذا وحده ، وأما من قتل في فتنة ، أو ثائرة ، أو قتله اللصوص ، أو البغاة ، أو قتل قودا ، أو قتل نفسه ، وكل مقتول غير المقتول في المعترك قتيل الكفار فإنه يغسل ، ويصلى عليه .

وقال أبو حنيفة ، والثوري : كل من قتل مظلوما لم يغسل ، ولكنه يصلى عليه ، وعلى كل شهيد ، وهو قول سائر أهل العراق .

ورووا من طرق كثيرة صحاح ، عن زيد بن صوحان أنه قال : لا تنزعوا عني ثوبا ، ولا تغسلوا عني دماء ، وادفنوني في ثيابي ، وقد روي عنه إلا الخفين .

وقتل زيد بن صوحان يوم الجمل ، وثبت عن عمار بن ياسر أنه قال : مثل قول زيد بن صوحان ، وقتل عمار بصفين سنة سبع وثلاثين ، وصلى عليه علي ، ولم يغسله .

وروى هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين في خبر حجر بن عدي بن الأدبر أنه قال : لا تطلقوا عني حديدا ، ولا تغسلوا عني دماء ، وادفنوني في ثيابي ، فإني لاق معاوية بالجادة ، وإني مخاصم .

وللشافعي في ذلك قولان ، أحدهما يغسل جميع الموتى إلا من قتله أهل الحرب ، والآخر لا يغسل قتيل البغاة .

وقول أحمد بن حنبل في هذا الباب كله كقول مالك سواء .

[ ص: 246 ] وروى شعبة ، والثوري ، ومسعر - بمعنى واحد - عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب - أن سعد بن عبيد القاري - وهو أبو زيد قال : يوم القادسية : إني مستشهد غدا ، فلا تغسلوا عني دما ، ولا تنزعوا عني ثوبا .

وسئل مكحول عن الشهيد ، أيصلى عليه ؟ قال : نعم ، وينزع عنه كل خف ومنطقة ، وخاتم وجلد إلا الفرو ، فإنه من ثيابه ، ولا ينزع عنه شيء من ثيابه ، ولا يزاد عليه ثوب إلا أن تضم عليه ثيابه بثوب يلفونه به ، قال مكحول : فإن لم يقتل قعصا ، ولم يجهز عليه ، وبات وطعم ثم مات ، نزعت عنه ثيابه وطهر ، وهو قول فقهاء الشام : الأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، وجماعتهم .

قال أبو عمر :

غسل الموتى قد ثبت بالإجماع ، ونقل الكافة ، فواجب غسل كل ميت إلا من أخرجه إجماع ، أو سنة ثابتة ، وهذا قول مالك ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية