التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 273 ] حديث ثالث وعشرون من البلاغات

مالك أنه بلغه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة حتى إذا قعد عنده ، قرت فيه ، أو نحو هذا .


وهذا حديث محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر كما قال مالك ، ولا يحفظ أيضا من حديث أنس ، ومن حديث عمرو بن حزم ، وغيرهم ، وحديث عمرو بن حزم كحديث جابر سواء ، ونذكر هاهنا حديث جابر خاصة ، وهو حديث مدني صحيح .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي قال : حدثنا بكر بن بكار ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر قال : حدثتني أمي مندوس بنت علي ، قالت : مرض عمر بن الحكم فعاده أهل المسجد ، فقال عمر بن الحكم سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من عاد مريضا خاض الرحمة ، فإذا جلس عنده استنقع فيها ، فإذا خرج من عنده خاض الرحمة حتى يرجع إلى بيته .

وهذا الحديث رواه الواقدي قال : حدثنا عبد الحميد بن جعفر سمع عمر بن الحكم قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول [ ص: 274 ] الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من عاد مريضا خاض الرحمة ، حتى إذا قعد استقر فيها .

حدثناه أحمد بن قاسم قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا محمد بن عمر الواقدي فذكره ، وهو خطأ من الواقدي ، ولم يسمعه عبد الحميد من عمر بن الحكم ، وإنما رواه عن أمه عنه - والله أعلم - والواقدي ضعيف ، عند أكثرهم .

وقد رواه هشيم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن عمر بن الحكم بن ثوبان ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لم يقل : إن عبد الحميد سمعه من عمر بن الحكم كما قال الواقدي ، وحديث هشيم ذكره أبو بكر بن أبي شيبة ، ويحيى بن معين ، عن هشيم .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن المفسر ، حدثنا أحمد بن علي بن سعيد ، حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا هشيم ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن عمر بن حكم بن ثوبان ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من عاد مريضا لم يزل يخوض الرحمة حتى يجلس ، فإذا جلس انغمس فيها .

وذكر البزار قال : حدثنا زيد بن أخزم قال : حدثنا عبد الله بن حمدان قال : حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن عمر بن الحكم ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال في آخره فإذا جلس عنده غمرته .

[ ص: 275 ] ولا أحفظ لحديث جابر في هذا الإسناد ، ولا أعلم لجابر حديثا في عيادة المريض غير هذا إلا ما رواه محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني ليس براكب بغلا ، ولا برذونا ذكره أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن الثوري ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر .

وفي فضل العيادة آثار كثيرة رواها جماعة من الصحابة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم علي ، وابن عباس ، وأبو أيوب ، وأبو موسى ، وعائشة ، وأنس ، وأبو سعيد الخدري ، وثوبان ، ولكنها بغير لفظ حديث مالك هذا ، وبغير معناه .

أخبرنا سعيد ، حدثنا قاسم ، حدثنا ابن وضاح ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : جاء أبو موسى يعود الحسن بن علي ، وكان شاكيا ، فقال علي : أعائدا جئت أم شامتا ؟ قال : بل عائدا ، فقال علي : أما إذ جئت عائدا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خرافة الجنة حتى يجلس ، فإذا جلس غمرته الرحمة ، فإن كان غدوة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح .

وأما لفظ حديث مالك ففي حديث جابر على حسبما ذكرنا من رواية عبد الحميد بن جعفر ، ومثله حديث أنس قال : سمعت رسول [ ص: 276 ] الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : عائد المريض يخوض الرحمة ، فإذا جلس غمرته .

وليس إسناد حديث أنس بالقوي .

وأما لفظ حديث عمرو بن حزم فبلفظ حديث جابر هذا ، وفي هذا الحديث فضل عيادة المريض ، وهذا على عمومه في الصالح ، وغيره وفي المسلم ، وغيره ، والله أعلم .

وقد عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافرا ، وقد كره بعض أهل العلم عيادة الكافر لما في العيادة من الكرامة ، وقد أمرنا أن لا نبدأهم بالسلام فالعيادة أولى أن لا تكون ، فإن أتونا فلا بأس بحسن تلقيهم ، لقول الله - عز وجل - : ( وقولوا للناس حسنا ) دخل فيه الكافر والمومن ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم : إذا أتاكم كريم قوم ، أو كريمة قوم فأكرموه .

وقد أكثر الناس في هذين المعنيين ، وقد كان طاوس من يسلم على كل من لقي من مسلم ، وذمي ، ويقول : هي للمسلم تحية ، وللكافر ذمة .

وعلى هذا الحديث ، وعمومه لا بأس بالعيادة في كل وقت ، وقد كرهها طائفة من العلماء في أوقات .

قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - وقال له شيخ كان يخدمه : تجيء إلى فلان مريض سماه يعوده ، وذلك عند ارتفاع النهار في الصيف ، فقال : ليس هذا وقت عيادة .

وقال [ ص: 277 ] الأثرم : حدثنا أبو الوليد قال : حدثنا مندل بن علي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : عيادة حمقى القرى أشد على أهل المريض من مرض صاحبهم ، يجيئون في غير حين عيادة ، ويطيلون الجلوس .

قال أبو عمر :

لقد أحسن ابن حذار في نحو هذا حيث يقول :


إن العيادة يوم بين يومين واجلس قليلا كلحظ العين بالعين     لا تبرمن مريضا في مسألة
يكفيك من ذاك تسأل بحرفين



ذكر الحسن بن علي الحلواني قال : حدثنا أبو سعيد الجعفي قال : حدثنا ضمرة قال : حدثني الأوزاعي قال : خرجت إلى البصرة أريد محمد بن سيرين ، فوجدته مريضا به البطن ، فكنا ندخل عليه نعوده قياما .

حدثنا أحمد بن عمر قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن علي قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا محمد بن إسحاق السجزي قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : أفضل العيادة أخفها .

وقال ابن وضاح في تفسير الحديث : أفضل العيادة أخفها ، قال : هو أن لا يطول الرجل في القعود إذا عاد المريض .

التالي السابق


الخدمات العلمية