التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 290 ] حديث سادس وعشرون من البلاغات

مالك أنه بلغه أن ( عبد الله ) بن مسعود كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع ، أو يترادان .


هكذا قال مالك في هذا الحديث : أيما بيعين تبايعا ، ولم يقل فاختلفا ، وهي لفظة مدار الحديث عليها ، ومن أجلها ورد ، وسقطت كما ترى ، وفي قوله فيه : فالقول قول البائع دليل على اختلافهما ، والله أعلم .

وهذا الحديث محفوظ ، عن ابن مسعود كما قال مالك ، وهو عند جماعة العلماء أصل تلقوه بالقبول ، وبنوا عليه كثيرا من فروعه ، واشتهر عندهم بالحجاز ، والعراق شهرة يستغنى بها عن الإسناد ، كما اشتهر عندهم قوله - عليه السلام - : لا وصية لوارث .

ومثل هذا من الآثار التي قد اشتهرت عند جماعة العلماء استفاضة يكاد يستغنى فيها عن الإسناد ; لأن استفاضتها وشهرتها - عندهم - أقوى من الإسناد .

[ ص: 291 ] أخبرنا أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال : حدثنا الطحاوي قال : حدثنا المزني قال : حدثنا الشافعي ، أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن محمد بن عجلان ، عن عون بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع ، والمبتاع بالخيار ، وهذا مرسل ; لأن عونا لم يسمع من ابن مسعود .

وحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، ويحيى بن سعيد ، عن ابن عجلان ، عن عون بن عبد الله ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع ، والمبتاع بالخيار .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المومن قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال : حدثنا عمر بن حفص بن غياث قال : حدثني أبي ، عن الأعمش قال : أخبرني عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث ، عن أبيه ، عن جده قال : اشترى الأشعث رقيقا من رقيق الخمس من عبد الله بعشرين ألفا ، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم ، فقال : إنما أخذتهم بعشرة آلاف ، فقال عبد الله : فاختر رجلا يكون بيني وبينك . قال : الأشعث أنت بيني وبين نفسك ، قال : عبد الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إذا اختلف البيعان ، وليس بينهما بينة ، فهو ما يقول [ ص: 292 ] رب السلعة ، أو يتتاركان . هكذا في كتابي في مصنف أبي داود ، وذكره ابن الجارود ، عن محمد بن يحيى ، عن عمر بن حفص بن غياث ، عن أبيه ، عن أبي العميس ، عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث ، عن أبيه ، عن جده مثله سواء .

ولأبي العميس يعرف هذا الحديث عن عبد الرحمن هذا ، لا عن الأعمش ، وعبد الرحمن هذا غير معروف بحمل العلم ، وهذا الإسناد ليس بحجة عند أهل العلم ، ولكن هذا الحديث عندهم مشهور ، ومعلوم ، والله أعلم .

وحدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال : حدثنا هشيم ، أخبرنا ابن أبي ليلى ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، أن ابن مسعود باع من الأشعث بن قيس رقيقا . فذكر معناه والكلام يزيد ، وينقص .

هكذا رواه ابن أبي ليلى ، وعمر بن قيس الماصر ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، وعمر بن قيس الماصر هذا كوفي ثقة روى عنه ابن عون ، وغيره .

ذكر العقيلي قال : حدثنا محمد بن إدريس قال : حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عمر بن قيس الماصر ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود قال : [ ص: 293 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إذا تبايع المتبايعان بيعا ليس بينهما شهود ، فالقول ما قال البائع ، أو يترادان البيع .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد ، عن أبان بن تغلب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، أن الأشعث اشترى من عبد الله رقيقا من رقيق الإمارة ، فأتاه فقاضاه فاختلفا في الثمن ، فقال له عبد الله : أترضى أن أقضي بيني وبينك بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البائع ، أو يترادان .

ورواه حجاج ، عن ابن جريج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية ، عن عبد الملك بن عبيدة قال : حضرنا أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، فذكر عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه .

قال أبو عمر :

هذا الحديث ، وإن كان في إسناده مقال من جهة الانقطاع مرة ، وضعف بعض نقلته أخرى ، فإن شهرته عند العلماء بالحجاز ، والعراق يكفي ويغني .

وأما اختلاف الفقهاء في هذا الباب ، فقال ابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهم ، وأحمد ، وإسحاق إذا اختلف [ ص: 294 ] المتبايعان في الثمن - والسلعة قائمة - تحالفا ، وترادا البيع ، وبدئ البائع باليمين ، ثم قيل للمشتري : إما أن تأخذ بما حلف عليه البائع ، وإما أن تحلف على دعواك ، وتبرأ فإن حلفا جميعا رد البيع ، وإن نكلا جميعا رد البيع ، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر ، كان البيع لمن حلف ، وسواء عند هؤلاء كلهم كانت السلعة قائمة بيد البائع ، أو بيد المشتري ، بعد أن تكون قائمة ، وكذلك روى ابن القاسم ، عن مالك : إن السلعة إذا كانت قائمة بيد البائع ، أو بيد المشتري تحالفا ، وترادا على حسب ما ذكرنا ، عن هؤلاء سواء .

وروى ابن وهب ، عن مالك : أن السلعة إذا بان بها المشتري إلى نفسه لم يتحالفا ، وكان القول قول المشتري مع يمينه ، وإنما يتحالفان إذا كانت السلعة قائمة بيد البائع ، هذه رواية ابن وهب ، عن مالك .

وقال سحنون رواية ابن وهب عن مالك ، هو قول مالك الأول ، وعليه اجتمع الرواة ، وقول مالك الذي رواه ابن القاسم ، وأخذ به هو آخر قول مالك ، واختلفوا - والمسألة بحالها - إذا فاتت السلعة بيد المشتري ، وهلكت ، ولم تكن قائمة .

فقال مالك ، وأصحابه كلهم حاشا أشهب : القول قول المشتري مع يمينه ، ولا يتحالفان ، وهو قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، والثوري ، والحسن بن حي ، والليث بن سعد .

وقال الشافعي ، ومحمد بن الحسن - وهو قول أشهب صاحب مالك - أنهما يتحالفان ، ويتفاسخان ، ويرد المشتري القيمة ، وهو قول عبيد الله بن العنبري ، قاضي البصرة .

[ ص: 295 ] وقال زفر : إن اتفقا في هذه المسألة : أن الثمن كان من جنس واحد ، كان القول قول المشتري ، وإن اختلفا في جنسه ، تحالفا وترادا قيمة البيع ، وقول الشافعي : سواء كانت السلعة قائمة بيد البائع ، أو بيد المشتري ، أو هلكت ، عند البائع ، وعند المشتري هما أبدا - إذا اختلفا في الثمن يتحالفان ، ويترادان السلعة - إن كانت قائمة ، أو قيمتها إن كانت فائتة .

وقال أبو ثور في اختلاف المتبايعين في الثمن : القول أبدا قول المشتري ، وسواء كانت السلعة قائمة بيد البائع ، أو بيد المشتري ، أو فاتت ، عند البائع أو عند المشتري ، القول أبدا في ذلك كله قول المشتري مع يمينه ، وضعف أبو ثور الحديث في هذا الباب ، ولم يوجب به حكما ، ولكل واحد منهم حجج من جهة النظر تكاد تتوازى ، وأما أبو ثور ، فلم يقل بشيء من معنى حديث هذا الباب ، وشذ في ذلك إلى قياس يعارضه قياس مثله لخصمه ، والله المستعان .

فمن حجة أبي ثور : أن البائع مقر بزوال ملكه ، عن السلعة مصدق للمشتري في زوالها عن ملكه ، وهو مدع عليه من الثمن ما لا يقر له به المشتري ، ولا بينة معه ، فصار القول قول المشتري مع يمينه على كل حال .

وروى ابن سماعة ، عن أبي يوسف قال : قال أبو حنيفة ، القياس في المتبايعين إذا اختلفا ، فادعى البائع ألفا وخمسمائة ، وادعى المشتري ألفا أن يكون المقول قول المشتري ، ولا يتحالفان ، ولا يترادان ; لأنهما [ ص: 296 ] قد أجمعا على ملك المشتري السلعة المبيعة ، واختلفا في ملك البائع على المشتري من الثمن ما لا يقر به المشتري ، فهما كرجلين ادعى أحدهما على الآخر ألف درهم ، وخمسمائة درهم ، وأقر هو بألف درهم ، فالقول قوله ، إلا أنا تركنا القياس للأثر في حال قيام السلعة ، فإذا فاتت السلعة عاد القياس .

قال أبو عمر :

هذا القياس الذي ذكره أبو حنيفة ، امتثله كل من ذهب في هذا الباب مذهبه من أصحابه ، ومن المالكيين ، وغيرهم ، قال أبو محمد بن أبي زيد : ظاهر قوله في الحديث ، أو يترادان الإشارة إلى رد الأعيان ، فإذا ذهبت الأعيان ، خرج من ظاهر الحديث ; لأن ما فات بيد المبتاع لا سبيل إلى رده ، وصار المبتاع مقرا بثمن يدعى عليه أكثر منه ، فدخل في باب الحديث الآخر ، البينة على المدعي ، واليمين على المدعى عليه .

قال أبو عمر :

من حجة الشافعي ، وأشهب ، وعبيد الله بن الحسن ، ومن ذهب مذهبهم في هذا الباب ، وجعل المتبايعين إذا اختلفا في الثمن يتحالفان ، ويترادان أبدا : أنه يقول إن البائع لم يقر بخروج السلعة ، عن ملكه إلا بصفة ما لا يصدقه عليها المبتاع ، وكذلك المشتري لم يقر بانتقال الملك إليه إلا بصفة ما لا يصدقه عليها البائع ، والأصل أن السلعة [ ص: 297 ] للبائع فلا تخرج من ملكه إلا بيقين من إقرار أو بينة ، وإقراره منوط بصفة لا سبيل إلى دفعها لعدم بينة المشتري بدعواه ، فحصل كل واحد منهما مدع ، ومدعى عليه ، ووردت السنة بأن يبدأ البائع باليمين ، وذلك - والله أعلم - لأن الأصل أن السلعة له ، فلا يعطاها أحد بدعواه ، فإذا حلف خير المبتاع في أخذها بما حلف البائع عليه إن شاء ، وإلا حلف أنه ما ابتاع إلا بما ذكر ، ثم يفسخ البيع بينهما ، وبهذا المعنى ، وردت السنة مجملة ، لم تخص كون السلعة بيد واحد دون آخر ، ومعلوم أن التراد إذا وجب بالتحالف - والسلعة خاضة - وجب بعد هلاكها ; لأن القيمة تقوم مقامها ، كما تقوم في كل ما فات مقامه ، ومن ادعى في شيء من ذلك خصوصا ، فقد ادعى ما لا يقوم من ظاهر الحديث ، ولا معناه .

قالوا : وليس اختلاف المتبايعين من باب " البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر " . في شيء لأن ذلك حكم ، ورد به الشرع في مدع لا يدعى عليه ، وفي مدعى عليه لا يدعي ، وورد في الشرع في المدعي المدعى عليه ، والمدعى عليه المدعي بغير ذلك ، وكل أصل في نفسه يجب امتثاله ، ولكل واحد منهم حجج يطول ذكرها ، ومدارها على ما ذكرنا .

وقال ابن القاسم : إذا اختلف المتبايعان في قلة الثمن وكثرته ، والسلعة بيد المبتاع لم تفت ، ولم تتغير في بدن ، أو سوق ، أو لم يكن قبضها أحلف البائع ، أولا على ما ذكر : أنه ما باعها إلا بكذا ، فإن حلف خير المبتاع في أخذها بذلك ، أو يحلف ما ابتاع إلا بكذا ، ثم يردا إلا أن يرضى قبل الفسخ أخذها بما قال البائع : قال سحنون : بل [ ص: 298 ] بتمام التحالف ينفسخ البيع ، ورواه سحنون ، عن شريح قال شريح : إذا اختلف المتبايعان ، ولا بينة بينهما أنهما إن حلفا ترادا ، وإن نكلا ترادا ، وإن حلف أحدهما ، ونكل الآخر ، ترك البيع يريد على قول الحالف .

وروى ابن المواز ، عن ابن القاسم مثل قول شريح .

وقال ابن حبيب : إذا استحلفا فسخ ، وإن نكلا كان القول قول البائع ، وذكره عن مالك ، وقال ابن القاسم : إن قبضها المبتاع ، ثم فاتت بيده بنماء ، أو نقصان ، أو تغير سوق ، أو بيع ، أو عتق ، أو هبة ، أو هلاك ، أو تقطيع في الثياب ، فالقول قول المبتاع مع يمينه ، وكذلك لو كانت دارا فبناها ، أو طال الزمان ، أو تغيرت المساكن .

وأما الشافعي فليس يجعل شيئا من هذا كله فوتا في معنى من المعاني ، وفي هذه المسألة عنده يتحالفان إذا فاتت السلعة ، وتقوم القيمة مقامها ، وهو قول أشهب .

ومن أصل مذهب مالك ، وأصحابه في هذه المسألة : أن من جاء منهما بما لا يشبه ، كان القول قول الآخر ، وإنما يحلف من ادعى ما يشبه ، ولو اختلف المتبايعان في الأجل : فقال البائع : حال ، وقال المشتري : إلى شهر ، فإن لم يتقابضا ، تحالفا وترادا ، وإن قبض المشتري السلعة ، فالقول قوله مع يمينه على رواية ابن وهب .

[ ص: 299 ] وروى ابن القاسم أنهما يتحالفان ، إن كانت السلعة قائمة عند البائع أو عند المشتري ، وإن فاتت فالقول قول المشتري مع يمينه ، إلا أن يكون للناس عرف ، وعادة في تلك السلعة في شرائها بالنقد والأجل ، فلا يكون لواحد منهما قوله ، ويحملان على عرف الناس في تلك السلعة ، ويكون القول قول من ادعى العرف ، هذا كله مذهب مالك ، والليث بن سعد .

وقال الشافعي ، وعبيد الله بن الحسن الاختلاف في الأجل كالاختلاف في الثمن ، والقول في ذلك واحد .

وقال أبو حنيفة : إذا قال البائع هو حال ، وقال المشتري : إلى شهر ، فالقول قول البائع مع يمينه ، وكذلك إذا قال البائع : إلى شهر ، وقال المشتري : إلى شهرين ، وهو قول الثوري .

قال أبو عمر :

في هذه المسألة قول آخر غير ما ذكرنا عن هؤلاء ذكره المروزي قال : قال بعض أصحابنا : إن كان المشتري هو المستهلك للسلعة ، تحالفا ورد القيمة ، وإن كانت السلعة هلكت من غير فعل المشتري تحالفا ، فإن حلفا لم يكن على المشتري رد قيمة ، ولا غيرها ; لأنه لم يكن متعديا على السلعة ، ولا جانيا ، ولا يضمن إلا جان ، أو متعد ، قال المروزي ، وهذا القياس .

التالي السابق


الخدمات العلمية