التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 339 ] حديث خامس وثلاثون من البلاغات

مالك ، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد ، فوجد فيه أبا بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، فسألهما فقالا : أخرجنا الجوع يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : وأنا أخرجني الجوع ، فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري ، فأمر لهم بشعير عنده يعمل ، وقام فذبح لهم شاة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : نكب عن ذات الدر ، فذبح لهم شاة ، واستعذب لهم ماء فعلق في نخلة ، ثم أتوا بذلك الطعام ، فأكلوا منه ، وشربوا من ذلك الماء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لتسألن ، عن نعيم هذا اليوم .


وهذا الحديث يستند من وجوه صحاح من حديث أبي هريرة ، وغيره ، وفيه ما كان القوم عليه في أول الإسلام من ضيق الحال ، وشظف العيش ، وما زال الأنبياء والصالحون يجوعون مرة ، ويشبعون أخرى ، وتزوى عنهم الدنيا ، وفيه طلب الرزق ، والنزول على الصديق ، وأكل ماله ، والسنة في الضيافة ، وبر الضيف بكل ما يمكن ، ويحضر إذا كان مستحقا لذلك .

وفيه كراهية ذبح ما يجري نفعه مداومة ، ومداومة كراهية إرشاد ، لا كراهية تحريم .

وفيه استعذاب الماء ، وتخيره ، وتبريده للريح ، وغير ذلك في معناه .

[ ص: 340 ] وفيه دليل على أن ما سد الجوع ، وستر العورة من خشن الطعام ، واللباس لا يسأل عنه المرء في القيامة ، والله أعلم ، وإنما يسأل عن النعيم ، هذا قاله ابن عيينة ، واحتج بقول الله - عز وجل - لآدم ( وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) وبقوله : ثم ( لتسألن يومئذ عن النعيم ) ، وهذه المسألة فيها نظر واختلاف ، وليس هذا موضع ذكر ذلك ، وبالله التوفيق .

وأما أبو الهيثم بن التيهان ، فاسمه مالك بن التيهان ، وقد ذكرناه في الصحابة ، ونسبناه ، وذكرنا خبره ، فأغنى عن ذكره هاهنا .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال ما أخرجكما من بيوتكما في هذه الساعة ؟ قالا : الجوع يا رسول الله ، قال : وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما ، فقوموا فقاموا معه ، فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت مرحبا وأهلا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أين فلان ؟ قالت : انطلق ليستعذب لنا من الماء ، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وصاحبيه ، فقال : الحمد لله ، وما أحد اليوم أكرم أضيافا مني ، قال : فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر ، وتمر رطب ، فقال : كلوا من هذا ، وأخذ المدية فقال له [ ص: 341 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياك والحلوب ، فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لأبي بكر ، وعمر ، والذي نفسي بيده لتسألن ، عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكما من بيوتكما الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم .

وقال عبد الله بن رواحة في هذه القصة يمدح بها أبا الهيثم ابن التيهان :


فلم أر كالإسلام عزا لأمة ولا مثل أضياف الأراشي معشرا     نبي وصديق وفاروق أمة
وخير بني حواء فرعا وعنصرا     فوافق للميقات قدر قضية
وكان قضاء الله قدرا مقدرا     إلى رجل نجد يباري بجوده
شموس الضحى جودا ومجدا ومفخرا     وفارس خلق الله في كل غارة
إذا لبس القوم الحديد المسمرا     ففدى وحيا ثم أدنى قراهم
فلم يقرهم إلا سمينا معمرا



وقرأت على قاسم بن محمد أن خالد بن سعد حدثهم ، قال : حدثنا محمد بن فطيس قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير قال : حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ساعة لا يخرج فيها ، ولا يلقاه فيها أحد ، فأتاه أبو بكر فقال : ما أخرجك يا أبا بكر ؟ قال : خرجت للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والنظر في وجهه ، قال : فلم يلبث أن جاء عمر ، فقال : ما أخرجك يا عمر ؟ قال : الجوع ، قال : وأنا قد وجدت بعض الذي تجد ، انطلقوا بنا إلى أبي الهيثم بن التيهان ، وكان كثير النخل ، والشاه [ ص: 342 ] ولم يكن له خدم فأتوه فلم يجدوه ، ووجدوا امرأته ، فقالوا : أين صاحبك ؟ فقالت : ذهب يستعذب لنا الماء من قناة بني فلان ، فلم يلبث أن جاء بقربة فوضعها ، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يلتزمه ، ويفديه بأبيه وأمه ، فانطلق بهم إلى ظل ، وبسط لهم بساطا ، ثم انطلق إلى نخله ، فجاء بقنو فوضعه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ألا تنقيت لنا من رطبه ؟ فقال : أردت أن تتخيروا من رطبه وبسره ، فأكلوا ثم شربوا من الماء فلما فرغوا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي أنتم عليه مسئولون ، هذا الظل البارد ، والرطب البارد ، عليه الماء البارد ، ثم انطلق يصنع لهم طعاما ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا تذبح ذات در ، قال : فذبح لهم عناقا فأكلوا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : هل لك من خادم ؟ قال : لا ، قال : فإذا أتانا شيء ، أو قال : سبي ، فأتنا قال : فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسان ليس لهما ثالث ، فأتاه يعني أبا الهيثم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختر أحدهما ، فقال : يا رسول الله ، خر لي ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : المستشار مؤتمن ، خذ هذا فإني رأيته يصلي ، واستوص به معروفا ، وقبض به امرأته فحدثها بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له امرأته : ما أنت ببالغ ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فيه حتى تعتقه ، قال : هو عتيق ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن الله لم يبعث نبيا ، ولا خليفة إلا له بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف ، وتنهاه عن المنكر ، وبطانة لا تألوه خبالا ، ومن يوق بطانة الشر فقد وقي .

[ ص: 343 ] وروى هذا الحديث بتمامه ، عن عبد الملك بن عمير أبو عوانة ، وأبو حمزة السكري ، كما رواه شيبان ، وقد رواه حسين المروزي ، عن شيبان مختصرا ، حدثناه سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا جعفر بن محمد الصائغ قال : حدثنا حسين بن محمد المروزي قال : حدثنا شيبان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بكر ، وعمر أبا الهيثم ابن التيهان الأنصاري ، فأكلوا من رطبه ، وبسره ، وشربوا من الماء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : هذا ، والذي نفسي بيده النعيم الذي أنتم عنه مسئولون يوم القيامة هذا الظل البارد ، والرطب البارد ، والماء البارد ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : هل لك من خادم ؟ فذكر الحديث إلى آخره سواء .

وروي من حديث جابر مختصرا ، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن بكير قال : حدثنا موسى بن هارون الحمال قال : حدثنا إبراهيم بن الحجاج قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن جابر بن عبد الله قال : جاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو بكر ، وعمر فأطعمناهم رطبا ، وسقيناهم من الماء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : هذا من النعيم الذي تسألون عنه .

وقد روي هذا الحديث عن أبي بكر ، وعمر ، وأبي الهيثم بن التيهان ، وأم سلمة بأسانيد صالحة ، ومعان متقاربة .

وذكر الفرياني قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) قال : كل شيء من لذة الدنيا .

التالي السابق


الخدمات العلمية