التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
5 [ ص: 270 ] حديث خامس لزيد بن أسلم متصل صحيح مسند

مالك ، عن زيد ابن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، وعن بسر بن سعيد ، وعن الأعرج كلهم يحدثه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر .


قال أبو عمر :

عطاء بن يسار قد تقدم ذكره ، والخبر عنه في باب إسماعيل بن أبي حكيم ( وذكر الحسن بن علي الحلواني قال : حدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا ابن وهب قال : حدثنا أبو صخر [ ص: 271 ] عن هلال بن أسامة قال : كان عطاء بن يسار إذا جلس ، يكون زيد بن أسلم عن يمينه ، وكنت عن يساره ) .

وأما بسر بن سعيد ، فإنه كان مولى لحضر موت من أهل المدينة ، وكان ثقة فاضلا مسنا ، سمع سعد بن أبي وقاص ، وجالسه كثيرا ، ولم ينكر يحيى القطان أن يكون سمع زيد بن ثابت .

قال علي بن المديني : قلت ليحيى بن سعيد ، يعني القطان : بسر بن سعيد لقي زيد بن ثابت قال : وما تنكر أن يكون لقيه ، قلت : قد روى عن أبي صالح عبيد مولى السفاح ، عن زيد بن ثابت ، فقال : قد روى سفيان ، عن رجل ، عن عبد الله .

قال أبو عمر : الحديث الذي رواه بسر بن سعيد ، عن أبي صالح عبيد مولى السفاح ، عن زيد بن ثابت ( وهو حديث ) عجل لي ، وأضع عنك ، ذكره مالك ، وغيره .

وكان مالك رحمه الله يثني على بسر بن سعيد ، ويفضله ، ويرفع به في ورعه ، وفضله .

[ ص: 272 ] وذكر علي بن المديني قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : بسر بن سعيد أحب إلي من عطاء بن يسار .

قال يحيى : ( كان بسر بن سعيد يذكر بخير ) : بسر بن سعيد مولى الحضرميين ، كان من أهل الفضل ، روى عن أصحاب النبي عليه السلام .

مات في خلافة عمر بن عبد العزيز .

وأما الأعرج فهو عبد الرحمن بن هرمز ، كان صاحب قرآن وحديث ، قرأ عليه نافع القارئ ، وكان ثقة مأمونا ، قال : ( مصعب بن عبد الله ) : عبد الرحمن ( بن هرمز ) الأعرج مولى محمد بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يكنى أبا داود .

روى عنه ابن شهاب ، وأبو الزناد ، ويحيى بن سعيد ، وغيرهم ، توفي بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة .

( وقال المدائني : مات أبو داود عبد الرحمن الأعرج مولى محمد بن ربيعة بالإسكندرية سنة تسع عشرة ومائة ) .

وأما أبو هريرة رضي الله عنه فمذكور في كتابنا في الصحابة ، بما يجب أن يذكر به ، وبالله التوفيق .

وقد قيل : إن زيد بن أسلم روى هذا الحديث أيضا ، عن أبي صالح مع هؤلاء كلهم ، عن أبي هريرة ، وحدثني خلف بن القاسم قال : حدثنا إبراهيم بن محمد الديلي قال : حدثنا محمد بن علي بن زيد الجوهري ، قال : حدثنا [ ص: 273 ] سعيد بن منصور قال : حدثنا حفص بن ميسرة الصنعاني ، عن زيد بن أسلم ، عن الأعرج ، وبسر بن سعيد ، وأبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فلم تفته ، ومن أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فلم تفته .

قال أبو عمر :

الإدراك في هذا الحديث إدراك الوقت ، لا أن ركعة من الصلاة من أدركها من ذلك الوقت أجزأته من تمام صلاته .

وهذا إجماع من المسلمين ، لا يختلفون في أن هذا المصلي فرض عليه واجب أن يأتي بتمام صلاة الصبح ، وتمام صلاة العصر ، فأغنى ذلك عن الإكثار ، وبان بذلك أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : فقد أدرك الصلاة ، يريد : فقد أدرك وقت الصلاة ، إلا أن ثم أدلة تدل على أن الوقت المختار في هاتين الصلاتين غير ذلك الوقت .

منها قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( وآخر وقت العصر ) ما لم تصفر الشمس يعني آخر الوقت المختار ، لئلا تتعارض الأحاديث .

[ ص: 274 ] ومثل ذلك حديث العلاء ، عن أنس مرفوعا : تلك صلاة المنافقين ، يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس ، وكانت بين قرني الشيطان ، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا .

وهذا التغليظ على من ترك اختيار رسول الله لأمته في الوقت ، ورغب عن ذلك ، ولم يكن له عذر مقبول .

والآثار في تعجيل العصر كثيرة جدا ، ومعناها كلها ما ذكرناه ، وبهذا كتب عمر بن الخطاب إلى عماله ( أن صلوا العصر ، والشمس بيضاء نقية ، قبل أن تدخلها صفرة ) .

هذا كله على الاختيار ، بدليل حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب .

( حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا عبد الحميد بن أحمد قال : حدثنا الخضر قال : حدثنا الأثرم قال : قيل لأحمد بن حنبل قوله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقال : هذا على الفوات ، ليس على أن يترك العصر إلى هذا الوقت .

وذكر حديث قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو قال : [ ص: 275 ] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ) فالأوقات في ترتيب السنن - والله أعلم - ، وقتان في الحضر : وقت رفاهية وسعة ، ووقت عذر وضرورة ، يبين لك ذلك ما ذكرنا من الآثار ، ويزيد لك في ذلك بيانا أقاويل فقهاء أئمة الأمصار ، فنذكر هنا أقاويلهم في وقت الصبح ، والعصر ; إذ لم يتضمن حديث هذا الباب ذكر غيرهما من الصلوات .

ونذكر في باب ابن شهاب ، عن عروة جملة مواقيت الصلاة ، ونبسط ذلك ، ونمهده هناك إن شاء الله .

أجمع العلماء على أن أول وقت صلاة الصبح طلوع الفجر الثاني إذا تبين طلوعه المنتشر من أفق المشرق ، والذي لا ظلمة بعده .

( وقد ذكرنا أسماء الفجر في اللغة ، وشواهد الشعر على ذلك ، والمعنى فيه عند الفقهاء في أول حديث من مراسيل عطاء ، ومن باب يزيد أيضا ، والحمد لله ) .

واختلفوا في آخر وقتها ، فذكر ابن وهب ، عن مالك قال : وقت الصبح من حين يطلع الفجر إلى طلوع الشمس .

وقال ابن القاسم ، عن مالك : وقت الصبح الإغلاس ، والنجوم بادية مشتبكة ، وآخر وقتها إذا أسفر .

[ ص: 276 ] قال أبو عمر :

هذا عندنا على الوقت المختار ; لأن مالكا لم يختلف قوله فيمن أدرك ركعة منها قبل طلوع الشمس ممن له عذر في سقوط الصلاة عند خروج الوقت مثل الحائض تطهر ، ومن جرى مجراها أن تلك الصلاة واجبة عليها بإدراك مقدار ركعة من وقتها ، وإن صلت الركعة الثانية مع الطلوع أو بعده .

وقال الثوري : آخر وقتها ما لم تطلع الشمس ، وكانوا يستحبون أن يسفروا بها ، ومثل قول الثوري قال أبو حنيفة ، وأصحابه .

وكذلك قال الشافعي : آخر وقتها طلوع الشمس إلا أنه يستحب التغليس بها ، ولا تفوت عنده حتى تطلع الشمس قبل أن يصلي منها ركعة بسجدتيها ، فمن لم يكمل منها ركعة بسجدتيها قبل طلوع الشمس فقد فاتته .

وقال أحمد بن حنبل مثل قول الشافعي سواء ، قال : وقت الصبح من طلوع الفجر إلى أن تطلع الشمس ، ومن أدرك منها ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدركها مع الضرورة ، وهذا كقول الشافعي سواء .

ولا خلاف بين العلماء في ذلك ، إلا أن منهم من جعل آخر وقتها إدراك ركعة منها قبل طلوع الشمس لضرورة ، وغير ضرورة ، وهو قول داود ، وإسحاق .

وأما سائر العلماء فجعلوا هذا وقتا لأصحاب العذر والضرورات ، وممن ذهب إلى هذا مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل .

[ ص: 277 ] واختلفوا في أول وقت العصر وآخره ، فقال مالك : أول وقت العصر إذا كان الظل قامة بعد القدر الذي زالت عنه الشمس ، ويستحب لمساجد الجماعات أن يؤخروا ذلك قليلا قال : وآخر وقتها أن يكون ظل كل شيء مثليه .

هذه حكاية ابن عبد الحكم ، وابن القاسم عنه ، وهذا عندنا على وقت الاختيار ; لأنه قد روي عنه أن ( لا خلاف عندنا في ) مدرك ركعة منها قبل الغروب ، ممن كانت الصلاة لا تجب عليه لو خرج وقتها لحالة كالمغمى عليه عنده ، والحائض ، ومن كان مثلهما تجب عليه صلاة العصر فرضا بإدراك مقدار ركعة منها قبل غروب الشمس ، فدل ذلك على أن وقتها عنده إلى غروب الشمس ، وكذلك ذكر ابن وهب أيضا ، عن مالك وقت الظهر ، والعصر إلى غروب الشمس .

وهذا عندنا أيضا على أصحاب الضرورات ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الوقوف في السفر في وقت إحداهما لضرورة السفر فكل ضرورة وعذر فكذلك .

وسنذكر وجه الجمع بين الوقوف في السفر والمطر في باب أبي الزبير إن شاء الله .

وقد قال الأوزاعي : إن ركع ركعة من العصر قبل غروب الشمس ، وركعة بعد غروبها ، فقد أدركها ، والصبح عنده كذلك ( قال الثوري : أول وقت العصر إذا كان ظلك مثلك ، وإن أخرتها ما لم تغير الشمس أجزأك ) .

[ ص: 278 ] وقال الشافعي : أول وقتها في الصيف إذا جاوز ظل كل شيء مثله بشيء ما كان ، ومن أخر العصر حتى يجاوز ظل كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء ، فقد فاته وقت الاختيار ، ولا يجوز أن يقال : قد فاته وقت العصر مطلقا كما جاز على الذي أخر الظهر إلى أن جاوز ظل كل شيء مثله قال : وإنما قلت ذلك لحديث أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ، فقد أدركها .

قال أبو عمر :

قول الشافعي هاهنا في وقت الظهر ينفي الاشتراك بينها وبين العصر في ظاهر كلامه ، وهو شيء ينقضه ما بنى عليه مذهبه في الحائض تطهر ، والمغمى عليه يفيق ، والكافر يسلم ، والصبي يحتلم ; لأنه يوجب على كل واحد منهم إذا أدرك ركعة واحدة قبل الغروب ، أن يصلي الظهر والعصر جميعا ، وفي بعض أقاويله إذا أدرك أحد هؤلاء مقدار تكبيرة واحدة قبل الغروب لزمه الظهر والعصر جميعا .

فكيف يسوغ لمن هذا مذهبه أن يقول : إن الظهر يفوت فواتا صحيحا بمجاوزة ظل كل شيء مثله أكثر من فوات العصر بمجاوزة ظل كل شيء مثليه ؟

وأما قوله في وقت العصر : إذا جاوز ظل كل شيء مثليه ، فقد جاوز وقت الاختيار ، فهذا أيضا فيه شيء ; لأنه هو وغيره من العلماء يقولون : من صلى العصر ، والشمس بيضاء نقية ، فقد صلاها في وقتها المختار ، لا أعلمهم يختلفون في ذلك .

[ ص: 279 ] فقف على ما وصفت لك يتبين لك بذلك سعة الوقت المختار أيضا ، وبالله التوفيق .

قال أبو ثور : أول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله بعد الزوال ، وزاد على الظل زيادة تتبين إلى أن تصفر الشمس ( وهو قول داود ) .

قال أبو عمر :

أما قول الشافعي ، وأبي ثور في أن وقت العصر لا يدخل حتى يزيد الظل على القامة زيادة تظهر ، فمخالف لحديث إمامة جبريل عليه السلام ; لأن حديث إمامة جبريل يقتضي أن يكون آخر وقت الظهر هو أول وقت العصر بلا فصل ( ولكنه مأخوذ من حديث أبي قتادة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ) .

وقد بينا اختلاف العلماء في هذا المعنى ، وذكرنا علل أقاويلهم فيه في باب ابن شهاب ، عن عروة من هذا الكتاب .

وقال أحمد بن حنبل في هذه المسألة مثل قول الشافعي أيضا قال : ( وإذا زاد ظل كل شيء مثليه ) خرج وقت الاختيار ، ومن أدرك منها ركعة قبل أن تغرب [ ص: 280 ] الشمس فقد أدركها ، قال : وهذا مع الضرورة ( هذه حكاية الخزفي عنه .

وأما الأثر فقال : سمعت أبا عبد الله يقول : آخر الظهر هو أول وقت العصر قال لي ذلك غير مرة ، وسمعته يقول : آخر وقت العصر تغير الشمس ، قيل له : ولا تقل بالمثل والمثلين ، قال : لا هذا أكثر عندي ) .

وقال أبو حنيفة : لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه ، فخالف الآثار وجماعة العلماء في ذلك ، وجعل وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ( وجعل بينهما واسطة ليست منهما ، وهذا لم يقله أحد ) هذه رواية أبي يوسف عنه .

( وللحسين بن زياد اللؤلؤي ) أن الظل إذا صار مثله خرج وقت الظهر ، وإذا خرج تلاه وقت العصر إلى غروب الشمس .

وقال أبو يوسف ، ومحمد ، وزفر : آخر وقت الظهر أن يصير ظل كل شيء مثله ، وهو أول وقت العصر إلى أن تتغير الشمس .

وقال إسحاق بن راهويه : آخر وقت العصر أن يدرك المصلي منها ركعة قبل الغروب ، وهو قول داود لكل الناس معذور ، [ ص: 281 ] وغير معذور ، والأفضل عندهما أول الوقت .

قال أبو عمر :

فقد بان بما ذكرنا من أقاويل أئمة فقهاء الأمصار ، وما روينا من الآثار في هذا الباب ، أن أول الوقت منه مختار في الحضر للسعة ، والرفاهية ، ومنه وقت ضرورة وعذر ، ولا يلحق الإثم ، واللوم حتى يخرج الوقت كله - والله أعلم - .

وقد أفادنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ) ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر معاني ووجوها : منها أن المدرك لركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، أو لركعة من العصر قبل غروبها كالمدرك لوقت الصبح ، ولوقت العصر : الوقت الذي يأثم بالتأخير إليه ، كأنه قد أدرك الوقت من أوله ، وهذا لمن كان له عذر من نسيان أو ضرورة على ما قدمنا ذكره .

ومنها جواز صلاة من صلى ذلك الوقت فرضه ممن نام عن صلاة أو نسيها ; لأنه المراد بالخطاب المذكور ، والمأمور بالبدار إلى إدراك بقية الوقت ، وإن كان غيره يدخل في ذلك الخطاب بالمعنى ; فإن هذا هو المشار إليه فيه بالنص إن شاء الله - والله أعلم - .

[ ص: 282 ] ومنها أنه أفادنا في حكم من أسلم من الكفار ، أو بلغ ، أو طهر من الحيض في ذلك الوقت ، أنه كمن أدرك الوقت بكماله في وجوب صلاة ذلك الوقت ، وتلزمه تلك الصلاة بكمالها ، كما لو أدرك وقتها من أوله ففرط فيها ، وكذلك حكم المسافر يقدم الحضر ، وحكم الحضري يخرج مسافرا في بقية من الوقت أو بعد دخول الوقت ، وحكم المغمى عليه يفيق .

وهذا الحديث أصل هذا الباب كله ، فقف عليه ( إلا أن الفقهاء اختلفوا هاهنا : فذهب مالك ، وأصحابه إلى ظاهر هذا الحديث فقالوا : من خرج مسافرا ، وقد بقي عليه من النهار مقدار ركعة بعد أن جاوز مصره ، أو قريته صلى العصر ركعتين ، ولو خرج وقد بقي عليه مقدار ثلاث ركعات ، ولم يكن صلى الظهر ، والعصر ، صلاهما جميعا مقصورتين .

وهذا عنده حكم المغرب ، والعشاء ، يراعى منهما مقدار ركعة من كل واحدة منهما على أصله فيمن سافر ، وقد بقي عليه مقدار ركعة ، أنه يقصر تلك الصلاة ، ولو قدم في ذلك الوقت من سفره أتم .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والأوزاعي : إذا خرج من مصره قبل خروج الوقت صلى ركعتين ، وإن قدم قبل خروج الوقت أتم ، وهذا قول مالك .

وقال زفر : إن جاوز بيوت القرية ، والمصر ، ولم يبق من الوقت إلا ركعة ، فإنه مفرط ، وعليه أن يصلي العصر أربعا ، وإن قدم من [ ص: 283 ] سفره ، ودخل مصره ، ولم يبق من الوقت إلا ركعة أتم الصلاة ، وقال الحسن بن حي ، والشافعي : إذا خرج بعد دخول الوقت أتم ، وكذلك إن قدم المسافر قبل خروج الوقت أتم ، وستأتي زيادة في هذا المعنى عن الشافعي ، ومن تابعهما في آخر هذا الباب ) .

وأما اختلاف الفقهاء في صلاة الحائض ، والمغمى عليه ، ومن جرى مجراهما : فقال مالك : إذا طهرت المرأة قبل الغروب ، فإن كان بقي عليها من النهار ما تصلي خمس ركعات ، صلت الظهر ، والعصر ، وإن لم يكن بقي من النهار ما تصلي خمس ركعات صلت العصر ، وإذا طهرت قبل الفجر ، وكان ما بقي عليها من الليل قدر ما تصلي أربع ركعات ثلاثا للمغرب ، وركعة من العشاء ، صلت المغرب ، والعشاء ، وإن لم يبق عليها إلا ما تصلي فيه ثلاث ركعات صلت العشاء ، ذكره أشهب ، وابن عبد الحكم ، وابن القاسم ، وابن وهب ، عن مالك .

قال أشهب : وسئل مالك عن النصراني يسلم ، والمغمى عليه يفيق ، أهما مثل الحائض تطهر ؟ قال : نعم ، يقضي كل واحد منهما ما لم يفت وقته ، وما فات وقته لم يقضه .

قال ابن وهب : سألت مالكا عن المرأة تنسى ، وتغفل عن صلاة الظهر ، فلا تصليها حتى تغشاها الحيضة قبل غروب الشمس .

[ ص: 284 ] قال مالك : لا أرى عليها قضاء إلا أن تحيض بعد غروب الشمس ، ولم تكن صلت الظهر ، والعصر ، رأيت عليها القضاء .

( وقال مالك : إذا طهرت قبل غروب الشمس فاشتغلت بالغسل ، فلم تزل مجتهدة حتى غربت الشمس ، لا أرى أن تصلي شيئا من صلاة النهار ) .

( قال مالك : إذا طهرت قبل غروب الشمس لا أرى أن تصلي شيئا من صلاة النهار ) .

وقال : المرأة الطاهر تنسى الظهر ، والعصر حتى تصفر الشمس ، ثم تحيض فليس عليها قضاؤهما ، فإن لم تحض حتى غابت الشمس فعليها القضاء ، ناسية كانت أو متعمدة .

قال مالك : إذا رأت الطهر عند الغروب فأرى أن تغتسل ، فإن فرغت من غسلها قبل غروب الشمس ، فإن كان فيما أدركت ما تصلي الظهر ، وركعة من العصر ، فلتصل الظهر ، والعصر ، وإن كان الذي بقي من النهار ليس فيه إلا قدر صلاة واحدة ، صلت العصر ، وإن لم يكن بقي من النهار إلا قدر ركعة واحدة فلتصل تلك الركعة ، ثم تقضي ما بقي من تلك الصلاة .

وقال مالك : من أغمي عليه في وقت صلاة فلم يفق حتى ذهب وقتها ظهرا كانت أو عصرا قال : والظهر ، والعصر ، وقتهما في هذا إلى مغيب الشمس فلا إعادة عليه قال : وكذلك المغرب ، والعشاء ، وقتهما الليل كله .

[ ص: 285 ] وقول الليث بن سعد في الحائض ، والمغمى عليه ، كقول مالك هذا سواء .

وقال الأوزاعي ، وقد سئل عن الحائض تصلي ركعتين ، ثم تحيض ( وكيف وإن كانت أخرت الصلاة ؟ قال : إن أدركها المحيض في صلاة انصرفت عنها ، ولا شيء عليها ) ، وإن كانت أخرت الصلاة ، ولم يذهب الوقت فلا شيء عليها .

قال : وإذا طهرت المرأة بعد العصر فأخذت في غسلها ، فلم تفرغ منه حتى غابت الشمس ، فلا شيء عليها ، ذكره الوليد بن يزيد ، عن الأوزاعي .

وقال الشافعي : إذا طهرت المرأة قبل مغيب الشمس بركعة أعادت الظهر ، والعصر ، وكذلك إن طهرت قبل الفجر بركعة أعادت المغرب ، والعشاء ، واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ، وبجمعه - صلى الله عليه وسلم - بين الوقوف في أسفاره ، وبعرفة ، وبالمزدلفة في وقت إحداهما ، يعني صلاتي الليل ، وصلاتي النهار ، الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء .

( وهذا القول للشافعي ) في هذه المسألة أشهر أقاويله عند أصحابه فيها ، وأصحها عندهم ، وهو الذي لم يذكر البويطي غيره ، وللشافعي في هذه المسألة قولان آخران : أحدهما : مثل قول مالك سواء في مراعاة قدر خمس ركعات [ ص: 286 ] للظهر ، والعصر ، وما دون إلى ركعة للعصر ، ومقدار أربع ركعات للمغرب ، والعشاء ، وما دون ذلك للعشاء ، وآخر الوقت عنده في هذا القول لآخر الصلاتين .

والقول الآخر قاله في الكتاب المصري قال في المغمى عليه : إنه إذا أفاق ، وقد بقي عليه من النهار قدر ما يكبر فيه الإحرام أعاد الظهر ، والعصر ، ولم يعد ما قبلهما لا صبحا ، ولا مغربا ، ولا عشاء .

قال : وإذا أفاق ، وقد بقي عليه من الليل قبل أن يطلع الفجر قدر تكبيرة واحدة قضى المغرب والعشاء ، وإذا أفاق قبل طلوع الشمس بقدر قضى الصبح ، وإذا طلعت الشمس قبل أن يفيق لم يقضها .

قال : وكذلك الحائض ، والرجل يسلم .

وقال فيمن جن بأمر لا يكون به عاصيا ، فذهب عقله : لا قضاء عليه ، ومن كان زوال عقله بما يكون به عاصيا ، قضى كل صلاة فاتته في حال زوال عقله ، وذلك مثل السكران ، وشارب السم ، والسكران عامدا لإذهاب عقله .

قال أبو عمر :

قوله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من الصبح أو من العصر على ما في هذا الحديث ، يقتضي فساد قول من قال : من أدرك تكبيرة ; لأن دليل ابن الخطاب في ذلك أن من لم يدرك من الوقت مقدار ركعة فقد فاته ، ومن فاته الوقت بعذر يسقط عنه فيه الصلاة كالحائض ، وشبهها ، فلا شيء عليه ، - والله أعلم - .

[ ص: 287 ] ( وما احتج به بعض أصحاب الشافعي بهذه القولة حيث قالوا : إنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر الركعة البعض من الصلاة ; لأنه قد روي عنه : من أدرك ركعتين من العصر ، فأشار إلى بعض الصلاة مرة بركعة ومرة بركعتين . والتكبير في حكم الركعة ; لأنه بعض الصلاة ، فمن أدركها فكأنه أدرك ركعة من الصلاة ، فليس بشيء ; لأنه ينتقض عليه أصله في الجمعة ، ولم يختلف قوله فيها أن من لم يدرك منها ركعة تامة فلم يدركها ، وهو ظاهر الخبر ; لأن قوله في جماعة أصحابه : من لم يدرك من صلاة الجمعة ركعة بسجدتيها أتمها ظهرا ، وهذا يقضي عليه ، على سائر أقواله ، وهو أصحها - والله أعلم - ) .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وهو قول ابن علية : من طهر من الحيض أو بلغ أو أسلم من الكفار لم يكن عليه أن يصلي شيئا مما فات وقته ، وإنما يقضي ما أدرك وقته بمقدار ركعة فما زاد ، وهم لا يقولون بالاشتراك ( في الأوقات ) لا في صلاتي الليل ، ولا في صلاتي النهار ، ولا يرون لأحد الجمع بين الوقوف لا لمسافر ، ولا لمريض ، ولا لعذر من الأعذار في وقت إحداهما ، لا يجوز ذلك عندهم في غير عرفة ، والمزدلفة .

وسيأتي ذكر مذاهب العلماء في الجمع بين الصلاتين في باب أبي الزبير إن شاء الله .

وقول حماد بن ( أبي سليمان في هذه المسألة كقول أبي [ ص: 288 ] حنيفة ، ذكره غندر ، عن شعبة قال : سألت حمادا عن المرأة تطهر في وقت العصر قال : تصلي العصر فقط .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه فيمن أغمي عليه خمس صلوات فأقل منها ، ثم أفاق : أنه يقضيها ، ومن أغمي عليه أكثر من ذلك ، ثم أفاق لم يقضه ، وهذا قول الثوري إلا أنه قال : أحب إلي أن يقضي .

وقال الحسن بن حي : إذا أغمي عليه خمس صلوات فما دونها ، قضى ذلك كله إذا أفاق ، وإن أغمي عليه أياما قضى خمس صلوات فقط ، ينظر حتى يفيق فيقضي ما يليه .

وقال زفر في المغمى عليه يفيق ، والحائض تطهر ، والنصراني يسلم ، والصبي يحتلم : إنه لا يجب على واحد منهم قضاء صلاة إلا بأن يدركوا من وقتها مقدار الصلاة كلها بكمالها ، كما لا يجب عليه من الصيام إلا ما أدرك وقته بكماله .

قال أبو عمر : قوله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة على ما في حديث هذا الباب يرد قول زفر هذا ، والله المستعان .

وقال أبو ثور في المغمى عليه : لا يقضي إلا صلاة وقته ، مثل أن يفيق نهارا قبل غروب الشمس فيقضي الظهر ، والعصر ، ولا يصلي الفجر ، وإن أفاق قبل الفجر صلى المغرب ، والعشاء ( وإن أفاق بعد طلوع الفجر ، لم يجب عليه من صلاة الليل شيء ، [ ص: 289 ] فإن أفاق ) بعد طلوع الشمس فليس عليه صلاة الصبح .

وقال أحمد بن حنبل : إذا طهرت الحائض أو أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل أن تغرب الشمس ، صلوا الظهر ، والعصر .

وإن كان ذلك قبل أن يطلع الفجر صلى المغرب ، والعشاء .

وقال أحمد بن حنبل - أيضا - في المغمى عليه : فإنه يجب عليه عنده أن يقضي الصلوات كلها التي كانت في إغمائه ، وهو قول عبيد الله بن قاضي البصرة ، لا فرق عندهما بين النائم ، وبين المغمى عليه في أن كل واحد منهما يقضي جميع ما فاته وقته ، وإن كثر ، وهو قول عطاء بن أبي رباح ، وروى ذلك عن عمار بن ياسر ، وعمران بن حصين ، وروى ابن رستم ، عن محمد بن الحسن : أن النائم إذا نام أكثر من يوم ، وليلة فلا قضاء عليه .

قال أبو عمر :

لا أعلم أحدا قال هذا القول في النائم غير محمد بن الحسن ، فإن صح هذا عنه فهو خلاف السنة ; لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [ ص: 290 ] وأجمعوا أن من نام عن خمس صلوات قضاها ، فكذلك في القياس ما زاد عليها .

وأما قول من قال : يقضي المغمى عليه إذا أغمي عليه خمس صلوات فدون ، ولا يقضي أكثر ، فقول ضعيف لا وجه له في النظر ; لأنه تحكم لا يجب امتثاله إلا لو كان قول من يجب التسليم له .

وأصح ما في هذا الباب في المغمى عليه يفيق : أنه لا قضاء عليه لما فاته وقته ، وبه قال ابن شهاب ، والحسن ، وابن سيرين ، وربيعة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وهو مذهب عبد الله بن عمر : أغمي عليه فلم يقض شيئا مما فات وقته ، وهذا هو القياس عندي - والله أعلم - ; لأن الصلاة تجب للوقت ; فإذا فات الوقت لم تجب إلا بدليل لا تنازع فيه ، ومن لم يدرك من الوقت مقدار ركعة ، وفاته ذلك بقدر من الله فلا قضاء عليه .

والأصول مختلفة في قضاء ما يجب من الأعمال في أوقات معينة ( إذا فاتت أوقاتها .

فمنها أن صوم رمضان في وقت بعينه ، فإذا منع المسلم من صيامه علة ، كان عليه أن يأتي بعدته من أيام أخر ، ومنها أن أعمال الحج أوقات معينة ) فإذا فات وقتها لم تعمل في غيرها كالوقوف بعرفة ، وبالمزدلفة ، وغير ذلك من أعمال الحج ، وكرمي الجمار في أيامها ، وكالضحايا في أيامها ، لا يعمل [ ص: 291 ] شيء من ذلك في غيرها ، قام دليل الإجماع على ذلك ، وقام الدليل من القرآن على ما ذكرنا في قضاء الصيام ، فلما احتملت الصلاة الوجهين جميعا ، طلبنا الدليل على ذلك فوجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين مراد الله منها فيمن نام ، أو نسي أنه يقضي ، ورأينا العاجز عن القيام في الصلاة أنه يسقط عنه ، وكذلك إن عجز عن الجلوس وغيره حتى يومي إيماء ، فإذا لم يقدر على الإيماء فهو المغمى عليه ، ووجب سقوط ذلك عنه بخروج الوقت .

( ودليل آخر ) من الإجماع ، وذلك أنهم أجمعوا على أن المجنون المطبق لا شيء عليه ( بخروج الوقت ) من صلاة ، ولا صيام إذا أفاق من جنونه ، وإطباقه ، وكان المغمى عليه أشبه به منه بالنائم ; إذ لا يجتذبه غير هذين الأصلين ، ووجدناه لا ينتبه إذا نبه ، وكان ذلك فرقا بينه وبين النائم .

وفرق آخر : أن النوم لذة ونعمة ، والإغماء علة ومرض من الأمراض ، فحاله بحال من يجن أشبه منه بحال النائم .

ولقول أحمد بن حنبل ، وعبيد الله بن الحسن وجوه في القياس أيضا مع الاحتياط ، واتباع رجلين من الصحابة .

وأما قول من قال : يقضي خمس صلوات ، ولا يقضي ما زاد ، فقول لا برهان له به ، ولا وجه يجب التسليم له .

وقالت طائفة من العلماء منهم ابن عليه ، وهو أحد أقوال الشافعي ، وهو المشهور عنه في البويطي ، وغيره : إذا طهرت الحائض في وقت صلاة ، وأخذت في غسلها فلم تفرغ حتى خرج وقت تلك الصلاة [ ص: 292 ] وجب عليها قضاء تلك الصلاة ; لأنها في وقتها غير حائض ، وليس فوت الوقت عن الرجل بمسقط عنه الصلاة إن اشتغل بوضوئه أو غسله حتى فاته الوقت ، وكذلك الحائض إذا طهرت لا تسقط عنها الصلاة من أجل غسلها ; لأن شغلها بالاغتسال لا يضيع عنها ما لزمها من فرض الصلاة ، وإنما تسقط الصلاة عن الحائض ما دامت حائضا فإذا طهرت فهي كالجنب ، ولزمها صلاة ، وقتها ( التي طهرت فيه ) .

( قال الشافعي : وكذلك المغمى عليه يفيق ، والنصراني يسلم قبل غروب الشمس ، أو قبل طلوع الفجر ، أو قبل طلوع الشمس بركعة ، ثم اشتغل بالوضوء حتى خرج الوقت ، قال : ولا يقضي أحد من هؤلاء شيئا من الصلوات التي فات وقتها ) .

وقال الشافعي ، وابن علية : لو أن امرأة حاضت في أول وقت الظهر بمقدار ما يمكنها فيه صلاة الظهر ، ولم تكن صلت ، لزمها قضاء صلاة الظهر ; لأن الصلاة تجب بأول الوقت ، وليس تسقط عنها لما كان لها من تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ما وجب عليها من الصلاة بأوله .

قالوا : والدليل على أن الصلاة تجب بأول الوقت : أن مسافرا لو صلى في أول الوقت قبل أن يدخل المصر ، ثم دخل المصر في وقته أجزأه .

فإن حاضت ، وقد مضى من الوقت قدر ما لا يمكنها فيه الصلاة ( بتمامها ، لم يجب قضاؤها ; لأنه لم يأت عليها من الوقت ما يمكنها [ ص: 293 ] فيه الصلاة ) ، كما لو حاضت ، وهي في الصلاة في أول وقتها ، لم تكن عليها إعادتها ; لأن الله منعها أن تصلي ، وهي حائض .

وقال بعض أصحاب الشافعي : لم يجز أن يجعل أول الوقت هاهنا كآخره ، فيلزمها بإدراك ركعة الصلاة كلها أو الصلاتين ; لأن البناء في آخر الوقت يتهيأ على الركعة ، ولا يتهيأ البناء في أول الوقت ; لأن تقديم ذلك قبل دخول الوقت لا يجوز .

وروى ابن وهب ، عن الليث في الرجل تزول عليه الشمس ، وهو يريد سفرا ، فلا يصلي حتى يخرج ، قال : يصلي صلاة المقيم ; لأن الوقت دخل عليه قبل الخروج ، ولو شاء أن يصلي صلى .

والكلام في تعليل هذه المسائل يطول ، وقد ذكرنا منها أصول معانيه ، وما مداره عليه ، والحمد لله .

وقال مالك ، وأبو حنيفة ( والأوزاعي ، وأصحابهم ) : لا شيء على المرأة إذا حاضت في بقية من الوقت ، على ما قدمنا عنهم أن الحائض لا صلاة عليها ، وقد كانت موسعا لها في الوقت ، ومسائل هذا الباب تكثر جدا ، وهذه أصولها التي تضبط بها .

وأصل هذا الباب كله الحديث المذكور في أوله ، وبالله العون ، والتوفيق لا شريك له .

وأما الوجه الثالث من معاني حديث هذا الباب ، وهو جواز ( من صلى ) صلاة الصبح عند طلوع الشمس ، أو العصر عند غروب الشمس ممن نام ، أو نسي ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك [ ص: 294 ] فقال الكوفيون : أبو حنيفة ، وأصحابه : لا يقضي أحد صلاة عند طلوع الشمس ، ولا عند قيام قائم الظهيرة ، ولا عند غروب عصر يومه خاصة ، فإنه لا بأس أن يصليها عند غروب الشمس من يومه لأنه يخرج إلى وقت تجوز فيه الصلاة .

قالوا : ولو دخل في صلاة الفجر فلم يكملها حتى طلعت عليه الشمس بطلت عليه ، واستقبلها بعد ارتفاع الشمس .

ولو دخل في صلاة العصر فاصفرت الشمس أتمها إذا كانت عصر يومه خاصة .

واحتجوا لما ذهبوا إليه في هذا الباب بحديث الصنابحي ، وحديث عمرو بن عبسة ، وحديث عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، وعند استوائها .

وجعلوا نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات نهي عموم ، كنهيه عن صيام يوم الفطر ، ويوم النحر ، لأنه لا يجوز لأحد أن يقضي فيها فرضا من صيام ، ولا يتطوع بصيامها ، وهذا إجماع .

قالوا : فكذلك نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، واستوائها ، يقتضي صلاة النافلة ، والفريضة .

ومنهم من زعم أن حديث هذا الباب منسوخ بأحاديث النهي عن الصلاة في تلك الأوقات ، واحتجوا أيضا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نام عن الصلاة ، واستيقظ في حين طلوع الشمس أخر الصلاة حتى ارتفعت .

[ ص: 295 ] قالوا : وبهذا تبين أن نهيه عن الصلاة في تلك الأوقات ناسخ لحديث الباب .

فذكروا حديث الثوري ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن رجل من ولد كعب بن عجرة أنه نام عن الفجر حتى طلعت الشمس قال : فقمت أصلي ، فدعاني فأجلسني ، أعني : كعب بن عجرة حتى ارتفعت الشمس ، وابيضت ، ثم قال : قم فصل .

وحديث معمر ، والثوري ، عن أيوب ، عن ابن سيرين : أن أبا بكرة أتاهم في بستان لهم فنام عن العصر قال : فرأيناه أنه صلى ، ولم يكن صلى ، فقام فتوضأ ، ولم يصل حتى غابت الشمس .

قال أبو عمر :

أما الخبر عن كعب بن عجرة فلا تقوم به حجة ، لأنه عن رجل مجهول من ولده .

وأما حديث أبي بكرة فهم يخالفونه في عصر يومه ، ويرون جواز ذلك .

وقد أجمعوا أن السنة لا ينسخها إلا سنة مثلها ، ولا تنسخ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول ( غيره ; لأنه مأمور باتباعه ، ومحظور من مخالفته ) .

وقال مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، والثوري ، والأوزاعي ، وداود ، والطبري : من نام عن صلاة أو نسيها أو فاتته بأي [ ص: 296 ] سبب كان فليصلها بعد الصبح ، وبعد العصر ، وعند الطلوع ، وعند الاستواء ، وعند الغروب ، وفي كل وقت ذكرها فيه .

وهو قول أكثر التابعين بالحجاز ، واليمن ، والعراق .

وذكر عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم قال : صلها حين تذكرها ، وإن كان ذلك في وقت تكره فيه الصلاة .

وحجتهم قوله - صلى الله عليه وسلم - : من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح .

فهذا الحديث يبيح الصلاة في حين الطلوع والغروب لمن ذكر صلاة بعد نسيان ، أو غفلة ، أو تفريط .

ويؤيد هذا الظاهر أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، ولم يخص وقتا من وقت فذلك على كل حال وقت لمن نام ، أو نسي .

حدثنا أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن خلاس ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من صلى من الصبح ركعة قبل [ ص: 297 ] أن تطلع الشمس ، وطلعت فليصل إليها أخرى .

وهذا نص في إبطال قول أبي حنيفة ( ومن تابعه ) .

وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ) لا كفارة لها إلا ذلك .

ولا وجه لقول من ادعى النسخ في هذا الباب ; لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض ، ويتضاد ، ولو جاز لقائل أن يقول : إن نهيه عن الصلاة في تلك الأوقات ناسخ لقوله : من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ، وناسخ لقوله : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، ولا يأتي على ذلك بدليل لا معارض له ; لجاز لقائل أن يقول : إن هذين الحديثين قد نسخا نهيه عن الصلاة في تلك الأوقات ، وهذا لا يجوز لأحد أن يدعي النسخ فيما ثبت بالإجماع ، وبدليل لا معارض له ، فلهذا صح قول من قال : إن النهي إنما ورد في النوافل دون الفرائض ; ليصح استعمال الآثار كلها ، ولا يدفع بعضها ببعض ، وقد أمكن استعمالها .

[ ص: 298 ] ألا ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - لو قال في مجلس واحد لا صلاة بعد العصر ، ولا بعد الصبح ، ولا عند طلوع الشمس ، وعند استوائها ، وغروبها ، إلا من نسي صلاة وجبت عليه ، أو نام عنها ، ثم فزع إليها ، لم يكن في هذا الكلام تناقض ، ولا تعارض ، وكذلك هو إذا ورد هذا اللفظ في حديثين لا فرق بينه وبين أن يرد في حديث واحد ، ولا فرق أن يكون ذلك في وقت أو وقتين .

فمن حمل قوله - صلى الله عليه وسلم - من أدرك ركعة من العصر أو الصبح قبل الطلوع ، والغروب ، فقد أدرك ، على الفرائض ، ورتبه على ذلك ، وجعل نهيه عن الصلوات في تلك الأوقات مرتبا على النوافل ، فقد استعمل جميع الآثار ، والسنن ، ولم ينسب إليه أنه رد سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وعلى هذا التأويل في هذه الآثار عامة علماء أهل الأثر .

وهذا أصل عظيم جسيم في ترتيب السنن والآثار ، فتدبره ، وقف عليه ، ورد كل ما يرد عليك من بابه إليه .

ومن قبيح غلطهم في ادعائهم النسخ في هذا الباب أنهم أجازوا لمن غفل أو نام عن عصر يومه أن يصليها في الوقت المنهي عنه ، فلم يقودوا أصلهم في النسخ ، ولا فرق بين عصر يومه ، وغير يومه في نظر ، ولا أثر .

ولو صح النسخ دخل فيه عصر يومه ، وغير يومه ، وفي قولهم هذا إقرار منهم بالخصوص في أحاديث النهي ، والخصوص [ ص: 299 ] أن يقتصر بها على التطوع دون ما عداه من الصلوات ( المنسيات المكتوبات ) .

هذا قول مالك ، وأصحابه ، وزاد الشافعي وأصحابه المسنونات .

وأما قولهم : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخر الفائتة حين انتبه عند طلوع الشمس ، فليس كما ظنوا ، لأنا قد روينا أنهم لم ينتبهوا يومئذ إلا لحر الشمس ، والشمس لا تكون لها حرارة إلا في وقت تحل فيه الصلاة إن شاء الله .

أخبرنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا عفان قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمرو بن دينار ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فقال : من يكلؤنا الليلة لا نرقد عن صلاة الفجر فقال بلال : أنا ، فاستقبل مطلع الشمس فضرب على آذانهم حتى أيقظهم حر الشمس ، ثم قاموا فقادوا ركابهم فتوضئوا ، ثم أذن بلال ( ثم صلوا ركعتي الفجر ، ثم صلوا الفجر ) .

وسنذكر أحاديث النوم عن الصلاة في باب مرسل زيد بن أسلم ، وباب ابن شهاب ، عن ابن المسيب إن شاء الله .

[ ص: 300 ] ونذكر أحاديث النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس ( وعند غروبها ، واستوائها ) في باب زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن الصنابحي ، ونبين معناها عند العلماء .

ونذكر حديث نهيه عن الصلاة بعد الصبح ، وبعد العصر ، في باب محمد بن يحيى بن حبان ( ونذكر أحاديث النوم عن الصلاة في باب مرسل زيد بن أسلم ) ، ونورد في كل باب من هذه الأبواب ما للعلماء في ذلك من المذاهب ، والتنازع ، إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية