التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 362 ] حديث موفي أربعين من البلاغات

مالك ، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم سلمة ، وهي حاد على أبي سلمة ، وقد جعلت على عينيها صبرا ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ قالت : إنما هو صبر يا رسول الله ، قال : فاجعليه بالليل ، وامسحيه بالنهار .


وهذا الحديث معروف ، عن أم سلمة من حديث بكير بن الأشج ، وهو حديث فيه طول ، اختصره مالك ، وأرسله ، حدثناه عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن صالح .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قراءة مني عليه أن قاسم بن أصبغ حدثهم ، قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا سحنون قالا جميعا ، أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني مخرمة عن أبيه ، قال : سمعت المغيرة بن الضحاك يقول : أخبرتني أم حكيم ابنة أسيد ، عن أمها أن زوجها توفي ، وكانت تشتكي عينيها ، فتكتحل بكحل الجلاء فأرسلت مولى لها إلى أم سلمة فسألتها ، عن كحل الجلاء ، فقالت : لا تكتحلي به إلا من أمر لابد منه يشتد عليك ، فتكتحلي بالليل ، وتمسحيه بالنهار ، ثم قالت : عند ذلك [ ص: 363 ] أم سلمة دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت على عيني صبرا ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ قالت : قلت : إنما هو صبر يا رسول الله ، ليس فيه طيب ، قال : إنه يشب الوجه ، فلا تجعليه إلا بالليل ، وتنزعيه بالنهار ، ولا تمتشطي بالطيب ، ولا بالحناء فإنه خضاب .

قالت : قلت : فبأي شيء أمتشط يا رسول الله ؟ قال : بالسدر تغلفين به رأسك
.

قال أبو عمر :

في حديث أم سلمة هذا دليل على أن المرأة المحد لا تكتحل بشيء يزينها ويشبها ، فإن اضطرت إلى شيء من ذلك جعلته ليلا ، ومسحته بالنهار ، وكل ما جاء عن أم سلمة من الحديث في النهي عن اكتحال المرأة المحد ، فهذا يفسره ، ويقضي عليه ، وعليه فتوى الفقهاء ، قال مالك : لا تكتحل المرأة الحاد إلا أن تضطر ، فإن اضطرت فتكتحل بالليل ، وتمسحه بالنهار ، ويكون الكحل بغير طيب ، ولا تكتحل بالإثمد .

قال أبو عمر :

هذا يدل على أن ذلك الكحل فيه شيء من الزينة ، ولهذا منعت منه بالنهار مع اضطرارها إليه ، وأبيح لها بالليل ; لأن الليل خلاف النهار في رؤية الناس لها ، وقول الشافعي في هذا كقول مالك قال : الشافعي [ ص: 364 ] لا تكتحل بكحل فيه زينة ، فإن اضطرت إلى كحل زينة اكتحلت بالليل ، ومسحته بالنهار .

وقال أبو حنيفة : إذا اشتكت عينيها اكتحلت بالكحل الأسود ، وغيره .

وقال أحمد ، وإسحاق لا تختضب ، ولا تكتحل .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا زهير بن حرب قال : حدثنا يحيى بن أبي بكير قال : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، حدثني بديل ، عن الحسن بن مسلم ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشقة ، ولا الحلي ، ولا تختضب ، ولا تكتحل . قال أبو عمر :

وهذا على التزيين بالكحل ، وأما على الاضطرار ، فهو معنى آخر بالليل خاصة ، وقد ذكرنا في كحل المرأة المحد ، وسائر ما تجتنبه في عدتها ، وما للعلماء في ذلك من المذاهب ممهدا مبسوطا موعبا في باب عبد الله بن أبي بكر ، والحمد لله ، وبه التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية