التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 365 ] حديث حاد وأربعون من البلاغات

قال مالك : السنة في الذي يرفع رأسه قبل الإمام في ركوع ، أو سجود : أن يخر راكعا ، أو ساجدا ، ولا يقف ينتظر الإمام ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه .

وقال أبو هريرة الذي يرفع رأسه ، ويخفضه قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان .


أما قوله : السنة فإنه أمر لا أعلم فيه خلافا ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التغليظ فيمن رفع رأسه قبل الإمام .

روى شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام راكعا ، أو ساجدا أن يحول الله رأسه رأس حمار ، أو صورته صورة حمار .

وهذا وعيد ، وتهديد ، وليس فيه أمر بإعادة فهو فعل مكروه لمن فعله ، ولا شيء عليه إذا أكمل ركوعه ، وسجوده .

وقد أساء وخالف سنة المأموم ، وعلى كراهية هذا الفعل للمأموم جماعة العلماء من غير [ ص: 366 ] أن يوجبوا فيه إعادة ، وكذلك قال أبو هريرة ناصيته بيد شيطان ، ولم يأمر فيه بإعادة .

وذكر مالك ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن مليح بن عبد الله السعدي ، عن أبي هريرة قال : الذي يرفع رأسه ، ويخفض قبل الإمام فإنما ناصيته بيد شيطان .

وأما قوله : وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإن قوله : إنما جعل الإمام ليؤتم به يستند من حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، وقد مضى ذكره في باب ابن شهاب ، إلا أنه ليس فيه : فلا تختلفوا عليه ، ويستند قوله : فلا تختلفوا عليه من حديث مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله ، فقولوا : اللهم ربنا ، ولك الحمد ، وإذا صلى قاعدا ، فصلوا قعودا أجمعين رواه معن بن عيسى ، وحده في الموطأ ، عن مالك ، وقد روي من حديث همام بن منبه ، عن أبي هريرة .

ذكر عبد الرزاق ، حدثنا معمر بن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن [ ص: 367 ] حمده فقولوا : اللهم ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين .

وقد مضى القول في معنى هذا الحديث في باب ابن شهاب إلا قوله : فلا تختلفوا عليه .

وفي قوله : فلا تختلفوا عليه ، دليل على أنه لا يجوز أن يكون الإمام في صلاة ، ويكون المأموم في غيرها ، مثل أن يكون الإمام في ظهر ، والمأموم في عصر ، أو يكون الإمام في نافلة ، والمأموم في فريضة ، وهذا موضع اختلف الفقهاء فيه : فقال مالك ، وأصحابه : لا يجزي أحدا أن يصلي صلاة الفريضة خلف المتنفل ، ولا يصلي عصرا خلف من صلى ظهرا ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وقول جمهور التابعين بالمدينة والكوفة ، وحجتهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فمن خالفه في نيته فلم يأتم به ، وقال : فلا تختلفوا عليه ، ولا اختلاف أشد من اختلاف النيات ، إذ هي ركن العمل .

ومعلوم أن من صلى ظهرا خلف من يصلي عصرا ، أو صلى فريضة خلف من يصلي نافلة فلم يأتم بإمامه ، وقد اختلف عليه فبطلت صلاته ، وصلاة الإمام جائزة ; لأنه المتبوع لا التابع ، واحتجوا من قصة معاذ برواية عمرو بن يحيى ، عن معاذ بن رفاعة الزرقي ، عن رجل من بني سلمة أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطويل معاذ بهم ، فقال له [ ص: 368 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يا معاذ لا تكن فتانا ، إما أن تصلي معي ، وإما أن تخفف ، عن قومك .

قالوا : وهذا يدل على أن صلاته بقومه كانت فريضته ، وكان متطوعا بصلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قالوا : وصلاة المتنفل خلف من يصلي الفريضة لا يختلفون في جوازها .

وقال الشافعي ، والأوزاعي ، وداود ، والطبري : وهو المشهور ، عن أحمد بن حنبل بجواز أن يقتدي في الفريضة بالمتنفل ، ويصلي الظهر خلف من يصلي العصر ، فإن كل مصل يصلي لنفسه ، ومن حجتهم أن قالوا : إنما أمرنا أن نأتم به فيما ظهر من أفعاله أما النية فمغيبة عنا ، وما غاب عنا لم نكلفه .

قالوا : وفي هذا الحديث نفسه ، دليل على صحة ذلك ; لأنه قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه .

إذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا كبر فكبروا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا
.

فعرفنا أفعاله التي يؤتم به فيها ، وهي الظاهرة إلينا من ركوعه ، وسجوده ، وتكبيره ، وقيامه ، وقعوده ، ففي هذه أمرنا أن لا نختلف عليه .

قالوا : والدليل على صحة هذا التأويل ، حديث جابر في قصة معاذ ، إذ كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء ، ثم ينصرف فيؤم قومه في تلك الصلاة هي له نافلة ، ولهم فريضة ، وهو حديث ثابت صحيح لا يختلف في صحته .

[ ص: 369 ] قالوا : ولا يصح أن يجعل معاذ صلاته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نافلة ، ويزهد في فضل الفريضة معه - صلى الله عليه وسلم - ، ويدلك على ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، وهذا مانع لكل أحد أن تقام صلاة فريضة لم يصلها فيشتغل بنافلة عنها .

وقد روى ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر أن معاذا كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ( الآخرة ) ، ثم ينصرف إلى قومه فيصلي معهم هي له تطوع ، ولهم فريضة .

قال ابن جريج : وحديث عكرمة ، عن ابن عباس أن معاذا فذكر مثل حديث جابر سواء .

ومثل ذلك أيضا حديث أبي بكرة في صلاة الخوف صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطائفة ركعتين ، ثم بطائفة ركعتين ، وهو مسافر خائف ، فعلمنا أنه في الثانية متنفل .

وقد أجمعوا أنه جائز أن يصلي النافلة خلف من يصلي الفريضة إن شاء ، وفي ذلك دليل على أن النيات لا تراعى في ذلك ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية