التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 377 ] حديث خامس وأربعون من البلاغات

مالك ، أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : إذا أنشأت بحرية ، ثم تشاءمت فتلك عين غديقة .


هذا حديث لا أعرفه بوجه من الوجوه في غير الموطأ إلا ما ذكره الشافعي في كتاب الاستسقاء ، عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ، عن إسحاق بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا نشأت بحرية ، ثم استحالت شآمية ، فهو أمطر لها .

وابن أبي يحيى مطعون عليه متروك ، وإن كان فيه نبل ويقظة ، اتهم بالقدر والرفض ، وبلاغ مالك خير من حديثه ، والله أعلم .

وأما قوله إذا نشأت بحرية فمعناه : إذا ظهرت سحابة من ناحية البحر وارتفعت ، يقال : أنشأ فلان ، يقول كذا إذا ابتدأ قوله ، وأظهره بعد سكوت ، وكذلك قولهم : أنشأ فلان حائط نخل ، أو بئرا ، أو كرما أي عمل ذلك ، وأظهره للناس ، وكل ما بدأ من الأعمال ، وظهر [ ص: 378 ] فقد أنشأ ، ومنه قول الله - عز وجل - ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ) أي السفن الظاهرات في البحر كالجبال الظاهرات في الأرض ، وإنما سمى السحابة بحرية ، لظهورها من ناحية البحر ، يقول : إذا طلعت سحابة من ناحية البحر ، وناحية البحر بالمدينة الغرب ، ثم تشاءمت ، أي أخذت نحو الشام ، والشام من المدينة في ناحية الشمال ، كأنه يقول : إذا مالت السحابة الظاهرة من جهة الغرب إلى جهة الشمال ، فتلك عين غديقة ، أي ماء معين ، والعين مطر أيام لا يقلع ، وقيل : العين ماء ، عن يمين قبلة العراق ، وقيل : كل ماء مر من ناحية الفرات ، يقول : فتلك سحابة يكون ماؤها غدقا ، والغديق الغزير ، وغديقة تصغير غدقة ، وسمي الرجل الغيداق ; لكثرة سخائه ، ومن هذا قول الله - عز وجل - : ( لأسقيناهم ماء غدقا ) أي غزيرا كثيرا .

قال : كثير


وتغدق أعداد به ومشارب



يقول : يكثر المطر عليه ، وأعداد جمع عد ، وهو الماء الغزير ، ومنه الحديث في الماء العد .

وقال عمر بن أبي ربيعة :


إذا ما زينب ذكرت     سكبت الدمع متسقا
كأن سحابة تهمي     بماء حملت غدقا



[ ص: 379 ] وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إنما خرج على العرف والعادة ، لا على أنه يعلم نزول الماء بشيء من الأشياء علما صحيحا لا يخلف ( لأن ذلك من علم الغيب ) بل قد صح أن المدرك لعلم شيء من ذلك مرة قد يخطئ فيه من الوجه الذي أصاب مرة أخرى ، فليس بعلم صحيح يقطع عليه ، ومعلوم أن النوء قد يخوي فلا ينزل شيئا ، وإنما هي تجارب تخطيء وتصيب ، وعلم الغيب على صحة هو لله - عز وجل - ، وحده لا شريك له ، ونزول الغيث من مفاتيح الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله - عز وجل - .

حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا عبد الله بن عمر بن إسحاق الجوهري ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج ، حدثنا يحيى بن بكير ، وسعيد بن عفير قالا : حدثنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر إلا الله ، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله .

هكذا حدثني به موقوفا ، عن ابن عمر لم يتجاوزه .

[ ص: 380 ] وقد روي هذا الحديث مرفوعا ، عن مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، ثم تلا : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ) .

وممن رفع هذا الحديث سليمان بن بلال ، وإسماعيل بن جعفر ، وصالح بن قدامة رووه ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال : مطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب ، وهذا - عند أهل العلم - محمول على ما كان أهل الشرك يقولونه من إضافة المطر إلى الأنواء ، دون الله تعالى ، فمن قال ذلك واعتقده فهو كافر بالله ، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأن النوء مخلوق ، والمخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا .

وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، على معنى مطرنا في وقت كذا وكذا ، فإن النوء الوقت في لسان العرب أيضا ، يريد أن ذلك الوقت يعهد فيه ، ويعرف نزول الغيث بفعل الله وفضله ورحمته ، فهذا ليس بكافر .

وقد جاء عن عمر أنه قال للعباس : ما بقي من نوء الثريا ، وما [ ص: 381 ] بقي من نوء الربيع ؟ على العادة ، والعرف عندهم أن تلك الأوقات أوقات أمطار ، إذا شاء ذلك الواحد القهار ، وقد زدنا هذا المعنى بيانا في باب صالح بن كيسان من هذا الكتاب ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية