التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
[ ص: 417 ] حديث خامس وخمسون من البلاغات

مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : عرفة كلها موقف ، وارتفعوا ، عن بطن عرنة ، والمزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا ، عن بطن محسر .


وهذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث علي بن أبي طالب ، قال : ابن وهب : سألت سفيان بن عيينة عن عرنة ؟ فقال : موضع الممر في عرفة ، ثم ذلك الوادي كله قبلة المسجد إلى العلم الموضوع للحرم بطريق مكة ، وأما بطن محسر ، فذكر ابن وهب أيضا ، عن سفيان بن عيينة ، قال : بطن محسر حين تنحدر من الجبل الذي ، عند المشعر الحرام ، عند النخيلات ، عند المشلل .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن عمران ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا أسامة يعني ابن زيد ، عن عطاء ، عن جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : عرفة كلها موقف ، ومنى كلها منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر .

[ ص: 418 ] قال أبو عمر :

هذا هو الصحيح إن شاء الله ، ومن رواه ، عن عطاء ، عن ابن عباس فليس بشيء روي من حديث عبيد الله بن عمر ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وليس دون عبيد الله من يحتج به في ذلك .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، حدثني أبي ، عن جابر ، قال : ثم قال : النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ، ووقف بعرفة فقال : قد وقفت هاهنا ، وعرفة كلها موقف ، ووقف بالمزدلفة ، فقال : قد وقفت هاهنا ، والمزدلفة كلها موقف .

وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا بكر بن حماد ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا حفص ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وقفت هاهنا بعرفة ، وعرفة كلها موقف ، ووقفت هاهنا بجمع ، وجمع كلها موقف ، ونحرت هاهنا بمنى ، ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم .

قال أبو عمر :

أكثر الآثار ليس فيها استثناء بطن عرنة من عرفة ، ولا بطن محسر من المزدلفة ، وكذلك نقلها الحفاظ الأثبات الثقات من أهل الحديث في حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر في الحديث الطويل في الحج ليس فيه استثناء عرنة ، ولا محسر .

وقد روى الدراوردي ، عن محمد بن أبي حميد ، عن ابن المنكدر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث مالك سواء : المزدلفة ، كلها موقف إلا بطن [ ص: 419 ] محسر ، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة .

ومحمد بن أبي حميد مدني ضعيف .

وذكره ابن وهب في موطئه قال : أخبرني محمد بن أبي حميد ، عن محمد بن المنكدر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كل عرفة موقف إلا ما جاز بطن عرنة ، وكل المزدلفة موقف إلا ما خلف بطن محسر ، قال : وقال لي مالك : الوقوف بعرفة على الدواب ، والإبل أحب إلي من أن صليت قائما ، وإن وقف قائما فلا بأس أن يستريح .

قال ابن وهب : وأخبرني يزيد بن عياض ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن عمرو بن شعيب ، وسلمة بن كهيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا الموقف ، وكل عرفة موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ، ومن أجاز بطن عرنة قال : أن تغيب الشمس فلا حج له .

قال أبو عمر :

يزيد بن عياض متروك الحديث لا يرى أهل العلم بالحديث أن يكتب حديثه ، وحديثه ( هذا ) أيضا منقطع ليس بشيء من جهة الإسناد ، وأما بطن عرنة فهو بغربي مسجد عرفة حتى لقد قال : بعض العلماء : إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط في بطن عرنة .

وقال الشافعي : وعرفة ما جاز ، وادي عرنة الذي فيه المسجد ، قال : ووادي عرنة من عرفة إلى الجبال المقابلة على عرفة ، كلها مما يلي حوائط بني عامر ، وطريق حضن ، فإذا جاوزت ذلك فليس بعرفة .

[ ص: 420 ] وأما وادي محسر ، فهو دون المزدلفة فكل من وقف بعرفة للدعاء ارتفع ، عن بطن عرنة ، وكذلك من وقف صبيحة يوم النحر للدعاء بالمشعر الحرام - وهو المزدلفة - ارتفع عن وادي محسر .

قال : الشافعي ، والمزدلفة مما يلي عرفة ، وليس المأزمان من المزدلفة إلى أن تأتي وادي محسر ، عن يمينك ، وشمالك من تلك البطون ، والشعاب والجبال كلها من مزدلفة .

واختلف الفقهاء فيمن وقف من عرفة بعرنة ، فقال مالك فيما ذكر ابن المنذر عنه : يهريق دما ، وحجه تام .

وهذه رواية رواها خالد بن نزار ، عن مالك .

قال أبو إسحاق بن شعبان : عرنة موضع الممر من عرفة ، ثم ذلك الوادي من فناء المسجد إلى مكة إلى العلم الموضوع للحرم ، قال : وعرفة كل سهل ، وجبل أقبل على الموقف فيما بين التلعة إلى أن يفضوا إلى طريق نعمان ، وما أقبل من كبكب من عرفة .

وذكر أبو المصعب : أنه كمن لم يقف ، وحجه فائت ، وعليه الحج من قابل إذا وقف ببطن عرنة .

وروي عن ابن عباس ، قال : من أفاض من عرنة فلا حج له .

وقال القاسم وسالم : من وقف بعرنة حتى دفع فلا حج له .

وذكر ابن المنذر هذا القول عن الشافعي قال : وبه أقول لأنه لا يجزيه أن يقف بمكان أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقف به .

[ ص: 421 ] قال أبو عمر :

قد ذكرنا أن الاستثناء لبطن عرنة من عرفة لم يجئ مجيئا تلزم حجته لا من جهة النقل ، ولا من جهة الإجماع ، والذي ذكر المزني ، عن الشافعي ، قال : ثم يركب فيروح إلى الموقف ، عند الصخرات ، ثم يستقبل القبلة بالدعاء ، قال : وحيثما وقف الناس من عرفة أجزأهم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هذا موقف ، وكل عرفة موقف .

قال أبو عمر :

ومن حجة من ذهب مذهب أبي المصعب : أن الوقوف بعرفة فرض مجتمع عليه في موضع معين ، فلا يجوز أداؤه إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا فرض الوقوف بعرفة بالليل والنهار ، وما في ذلك ما تنازع علماء الأمصار ، ووجوه ذلك كله ، ومعانيه في باب ابن شهاب ، عن سالم ، وكذلك مضى القول في باب ابن شهاب ، عن سالم في أحكام الوقوف بالمزدلفة ، والمبيت بها ممهدا ذلك كله مبسوطا ، واضحا ، والحمد لله .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن عبد [ ص: 422 ] الله بن صفوان ، عن يزيد بن سنان ، قال : أتانا ابن مربع الأنصاري ، ونحن بعرفة في مكان يباعده عمرو ، عن الإمام ، فقال أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم يقول : قفوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم .

وروى هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كانت قريش ، ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر الناس يقفون بعرفة ، قالت : فلما جاء الإسلام ، أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ، ثم يفيض منها ، فذلك قوله : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) .

وأما بطن محسر ، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسرع السير في بطن محسر .

أخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، قال : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضع في وادي محسر .

ورواه أبو نعيم ، والقطان ، وابن مهدي ، ومحمد بن كثير ، عن الثوري ، قال : حدثني أبو الزبير ، عن جابر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

[ ص: 423 ] قال أبو عمر :

الإيضاع سرعة السير ، وذكر ابن وهب ، عن يحيى بن عبد الله بن سالم ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن زيد بن علي بن حسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة ، وقال : هذا الموقف ، وكل عرفة موقف ، ثم دفع فجعل يسير العنق ، ويقول السكينة حتى جاء المزدلفة فجمع بها بين الصلاتين ، ثم وقف بالمزدلفة على قزح ، قال : هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف ، ثم دفع فجعل يسير العنق ، وهو يقول : السكينة أيها الناس حتى وقف على محسر فعرج راحلته فخبت به حتى خرج عنه ، ثم سار سيره الأول حتى رمى ، ثم دخل المنحر ، فقال : هذا المنحر ، وكل منى منحر .

وفي حديث جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر الحديث الطويل في الحج ، رواه عن جعفر بن جماعة من أئمة أهل الحديث ، وفيه : حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها .

وفيه أنه أردف الفضل بن عباس حتى أتى محسرا فحرك قليلا .

وروى هشام بن عروة ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يحرك في محسر ، ويقول :


إليك تعدو قلقا وضينها مخالفا دين النصارى دينها



( وزاد غير هشام ) :

معترضا في بطنها جنينها     قد ذهب الشحم الذي يزينها



التالي السابق


الخدمات العلمية