التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1384 [ ص: 58 ] حديث عاشر لزيد بن أسلم مسند ثابت

مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكرا ، فجاءته إبل من إبل الصدقة ، قال أبو رافع : فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقضي الرجل بكره ، فقلت : لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أعطه إياه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء .


قال أهل اللغة : البكر من الإبل الفتى ، والخيار المختار الجيد . قال صاحب العين : ناقة خيار ، وجمل خيار ، والجمع خيار أيضا ، ويقال : أربع الفرس ، وأربع الجمل ، إذا ألقى رباعيته ، فهو رباع ، والأنثى رباعية .

قال أبو عمر :

معلوم أن استسلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمل البكر المذكور في هذا الحديث لم يكن لنفسه ; لأنه قضاه من إبل [ ص: 59 ] الصدقة ، ومعلوم أن الصدقة محرمة عليه لا يحل له أكلها ، ولا الانتفاع بها ، وقد مضى بيان هذا في ربيعة ، ولهذا علمنا أنه لم يكن ليؤدي عن نفسه من مال المساكين ، وإذا صح هذا ، علمنا أنه إنما استسلف الجمل للمساكين ، واستقرضه عليهم لما رأى من الحاجة ، ثم رده من إبل الصدقة ، كما يستقرض ولي اليتيم عليه نظرا له ، ثم يرده من ماله إذا طرأ له مال ; وهذا كله لا ينازع فيه ، والحمد لله .

وقد اختلف العلماء في حال المستقرض منه الجمل المذكور في هذا الحديث ، فقال منهم قائلون : لم يكن المستقرض منه ممن تجب عليه صدقة ، ولا يلزمه زكاة ; لأنه قد رد عليه رسول الله صدقته ولم يحتسب له بها وقت أخذ الصدقات ، وخروج السعاة وقتا واحدا يستوي الناس فيه ، فلما لم يحتسب له بما أخذ منه صدقة علم أنه لم يكن ممن تلزمه صدقة في ماشيته لقصور نصابها عن ذلك ، والله أعلم . هذا قول من لم يجز تعجيل الزكاة قبل محلها .

وقال آخرون : جائز أن يكون المستقرض منه في حين رد ما استقرض منه إليه ، ممن لا تجب عليه الصدقة لجائحة لحقته في إبله وماله قبل تمام الحول ، فوجب رد ما أخذ منه إليه ، ومثال ذلك الاستسلاف في هذا الموضع عند هؤلاء أن يقول الإمام للرجل : أقرضني على زكاتك لأهلها ، فإن وجبت عليك زكاة بتمام ملكك للنصاب حولا فذاك ، وإلا فهو دين لك أرده عليك من الصدقة ، وهذا كله على مذهب من أجاز تعجيل الزكاة قبل وقت وجوبها .

وقد اختلف الفقهاء في تعجيل الزكوات قبل حلول الحول ، فأجاز ذلك أكثر أهل العلم ، وممن ذهب إلى إجازة تعجيل الزكاة قبل [ ص: 60 ] الحلول : سفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد .

وروي ذلك عن سعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، وابن شهاب ، والحكم بن عتيبة ، وابن أبي ليلى .

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : يجوز تعجيل الزكاة لما في يده ولما يستفيده في الحول وبعده بسنين ، وقال زفر : التعجيل عما في يده جائز ، ولا يجوز عما يستفيده ، وقال ابن شبرمة : يجوز تعجيل الزكاة لسنين .

وقال مالك : لا يجوز تعجيلها قبل الحلول إلا بيسير . وقالت طائفة : لا يجوز تعجيلها قبل محلها بيسير ولا كثير ، ومن عجلها قبل محلها لم يجزئه ، وكان عليه إعادته كالصلاة .

وروي ذلك عن الحسن البصري ، وهو قول بعض أصحاب داود ، وروى خالد بن خداش وأشهب عن مالك مثل ذلك .

قال أبو عمر :

من لم يجز تعجيلها قاسها على الصلاة ، وعلى سائر ما يجب مؤقتا ; لأنه لا يجزئ من فعله قبل وقته ; ومن أجاز تعجيلها ، قاس ذلك على الديون الواجبة لآجال محدودة أنه جائز تعجيلها ، وفرق بين الصلاة والزكاة ، بأن الصلاة يستوي الناس كلهم في وقتها ، وليس كذلك أوقات الزكاة لاختلاف أحوال الناس فيها ، فأشبهت الديون إذا عجلت ، وقد استدل الشافعي على جواز تعجيل الزكاة بهذا الحديث ، وفي قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المستسلف منه البكر جملا جيدا دليل على أنه لم يكن ممن عليه [ ص: 61 ] صدقة ; لأنه لم يحتسب له بذلك قضاه وبرئ إليه منه ، ولا حجة للشافعي فيما استدل به من هذا الحديث في جواز تعجيل الزكاة .

وقد احتج بعض من نصر مذهبه على ما ذكرناه بأن قال جائز أن يكون الذي استقرض منه البكر ممن تحل له الصدقة ، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيره بمقدار حاجته ، وجمع في ذلك وضع الصدقة في موضعها وحسن القضاء ، قال : وجائز أن يستسلف الإمام للفقراء ، ويقضي من سهمهم أكثر مما أخذ لما يراه من النظر والصلاح ، إذا كان ذلك شرطا ولا منفعة تعجيل .

ثم نعود إلى القول في معنى الاستسلاف المذكور في هذا الحديث ، فنقول : إن قال قائل : لا يجوز أن يكون الاستقراض المذكور على المساكين ; لأنه لو كان قرضا على المساكين لما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أموالهم أكثر مما استقرض لهم ، قيل له : لما بطل أن يستقرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة لغنى ، وأن لا يستقرضها لنفسه لم يبق إلا أنه استقرضها لأهلها وهم الفقراء ومن ذكر معهم ، وكان في هذا الحديث دليل على أنه جائز للإمام إذا استقرض للمساكين أن يرد من مالهم أكثر مما أخذ على وجه النظر والصلاح ، إذا كان من غير شرط ، ووجه النظر في ذلك والمصلحة معلوم ، فإن منفعة تعجيل ما أخذه لشدة حاجة الفقير إليه أضعاف ما يلحقهم في رد الأفضل ; لأن ميل الناس إلى العاجل من أمر الدنيا ، فكيف نعطيه أكثر مما أخذ منه والصدقة لا تحل لغني ؟ فالجواب عن هذا أنه جائز ممكن أن يكون المستقرض منه قد ذهبت إبله بنوع من جوائح الدنيا ، وكان في وقت صرف ما أخذ منه إليه فقيرا [ ص: 62 ] تحل له الزكاة ، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرا من بعيره بمقدار حاجته ، وجمع في ذلك وضع الصدقة في موضعها ، وحسن القضاء ، وجائز أن يكون غارما وغازيا ممن تحل له الصدقة مع القضاء ، ووضع الصدقة موضعها - والله أعلم - وسيأتي في ذكر الخمسة الأغنياء الذين تحل لهم الصدقة فيما بعد من حديث زيد بن أسلم ، إن شاء الله .

وفي هذا الحديث أيضا من الفقه إثبات الحيوان في الذمة ، وإذا صح ثبوت الحيوان في الذمة بما صح من جواز استقراض الحيوان صح فيه السلم على الصفة ، وبطل بذلك قول من لم يجز الاستقراض في الحيوان ، ولا أجازوا السلم فيه .

واختلف الفقهاء في السلم في الحيوان وفي استقراضه ، فذهب العراقيون إلى أن السلم في الحيوان وفي استقراضه لا يجوز ، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وحذيفة ، وعبد الرحمن بن سمرة .

[ ص: 63 ] وحجة من قال بهذا القول : إن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته ; لأن مشيه ، وحركاته ، وملاحته ، وجريه ، كل ذلك لا يدرك وصفه ، وكل ذلك يزيد في ثمنه ، ويرفع من قيمته ، وادعوا النسخ في حديث أبي رافع المذكور وما كان مثله ، وقالوا : نسخه ما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أنه أوجب على المعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر ، إذ أوجب عليه قيمة نصيب شريكه ، ولم يوجب عليه نصف عبد مثله .

وقال داود بن علي وأصحابه : لا يجوز السلم في الحيوان ، ولا في شيء من الأشياء ، إلا في المكيل والموزون خاصة ، وما خرج عن المكيل والموزون ، فالسلم فيه غير جائز عندهم ، لحديث ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : من أسلم ، فليسلم في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم ، ولنهيه عن بيع ما ليس عندك ، قالوا : فكل ما لم يكن مكيلا ، أو موزونا ، فداخل في بيع ما ليس عندك .

قال أبو عمر :

بنوا هذا على ما أصلوا من أن كل بيع جائز بظاهر قول الله عز وجل : وأحل الله البيع ، إلا بيعا ثبت في السنة النهي عنه ، أو أجمعت الأمة على فساده .

[ ص: 64 ] وقال أهل المدينة ، ومالك وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي وأصحابه : السلم في الحيوان جائز بالصفة ، وكذلك كل ما يضبط بالصفة في الأغلب ، وحجتهم في ذلك حديث أبي رافع هذا ، لما فيه من ثبوت الحيوان في الذمة ; ومثله حديث أبي هريرة في استقراض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمل ، ومن حجتهم أيضا : " إيجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه ، وهي أخماس : عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة " ، ودية شبه العمد وذلك من الإبل : " ثلاثون جذعة ، وثلاثون حقة ، وأربعون خلفة ، وفي بطونها أولادها " ، فجعل الحيوان دينا في الذمة إلى أجل ، وقد كان ابن عمر يجيز السلم في الوصف ، وأجاز أصحاب أبي حنيفة أن يكاتب الرجل عبده على مملوك ، وهذه مناقضة منهم ، وأجاز الجميع النكاح على عبد موصوف . وذكر الحسن بن علي الحلواني ، [ ص: 65 ] قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثني يحيى بن سعيد ، قال : قلت لربيعة : إن أهل أنطابلس حدثوني أن خير بن نعيم كان يقضي عندهم بأنه لا يجوز السلف في الحيوان ، وقد كان يجالسك ، ولا أحسبه قضى به إلا عن رأيك . فقال لي ربيعة : قد كان ابن مسعود يقول ذلك ، قال يحيى : فقلت : وما لنا ولابن مسعود في هذا ، قد كان ابن مسعود يتعلم منا ولا نتعلم منه ، وقد كان يقضي في بلاده بأشياء ، فإذا جاء المدينة ، وجد القضاء ما قضى به فيرجع إليه ، وأما اعتلال العراقيين بأن الحيوان لا يمكن صفته ، فغير مسلم لهم ; لأن الصفة في الحيوان ، يأتي الواصف منها بما يدفع الإشكال ، ويوجب الفرق بين الموصوف وغيره كسائر الموصوفات من غير الحيوان ، وإذا أمكنت الصفة في الحيوان ، جاز السلم فيه بظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تصف المرأة المرأة [ ص: 66 ] لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ، فجعل - صلى الله عليه وسلم - الصفة تقوم مقام الرؤية .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجوز استقراض شيء من الحيوان ، كما لا يجوز السلم فيه ; لأن رد المثل لا يمكن لتعذر المماثلة عندهم في الحيوان . وقال مالك ، والأوزاعي ، والليث ، والشافعي : يجوز استقراض الحيوان كله إلا الإماء ، فإنه لا يجوز استقراضهن ، وعند مالك - فيما ذكر ابن المواز - إن استقرض أمة ولم يطأها ردها بعينها ، وإن وطئها لزمته القيمة ولم يردها . وعند الشافعي يردها ويرد معها عقدها - يعني صداق مثلها ، وإن حملت ردها بعد الولادة ، وقيمة ولدها إن ولدوا أحياء يوم سقطوا وما نقصتها الولادة ، وإن ماتت لزمه مثلها ، فإن لم يوجد مثلها فقيمتها .

وحجة من لم يجز استقراض الإماء - وهم جمهور العلماء - : إن الفروج محظورة لا تستباح إلا بنكاح ، أو ملك يمين ، ولأن القرض ليس بعقد لازم من جهة المقترض ; لأنه يرده متى شاء ، فأشبه الجارية المشتراة بالخيار ، ولا يجوز وطؤها - بإجماع - حتى تنقضي أيام الخيار ، فهذه قياس عليها ، ولو جاز استقراض الإماء لحصل الوطء في غير نكاح ولا ملك صحيح . وقال أبو إبراهيم المزني ، وداود بن علي ، وأبو جعفر الطبري : استقراض الإماء جائز . قال المزني ، والطبري : قياسا على بيعها ، وإن ملك المستقرض صحيح يجوز له فيه التصرف كله ، وكل ما جاز بيعه جاز قرضه [ ص: 67 ] في نفس القياس ، وقال داود : لم يحظر الله استقراض الإماء ، ولا رسوله ، ولا اتفق الجميع على المنع منه ، وقد أباح الاستسلاف للحيوان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والأصل الإباحة حتى يصح المنع من وجه لا معارض له . واحتج بهذا الحديث أيضا كل من أوجب على من استهلك شيئا من الحيوان مثله ، إن وجد له مثل ، لا قيمته ، قالوا : وكما كان يكون له مثل في القضاء ، فكذلك يكون له مثل في الضمان عن الاستهلاك ، وممن قال بالمثل في المستهلكات كلها : الشافعي ، وأحمد ، وداود ، وجماعة ، لقول الله : فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به .

وأما مالك رحمه الله ، فقال : " من استهلك شيئا من الحيوان بغير إذن صاحبه ، فعليه قيمته ، ليس عليه أن يؤخذ بمثله من الحيوان ، ولكن عليه قيمته يوم استهلكه القيمة أعدل فيما بينهما في الحيوان والعروض ، قالوا : وأما الطعام فبمنزلة الذهب والورق ، وإذا استهلكه أحد بغير إذن صاحبه فعليه مثل مكيلته من صنفه " .

قال أبو عمر :

المكيل كله ، والموزون المأكول ، والمشروب ; هذا حكمه عنده ، وأما ما لا يؤكل ; مثل الرصاص والقطن ، وما أشبه ذلك ، فالذي اختاره إسماعيل أن يكون فيه المثل ; لأنه يضبط بالصفة . قال : وقد احتج عبد الملك في القيمة في الحيوان بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيمن أعتق نصف عبد له بقيمة النصف الباقي للشريك ، ولم يقض بنصف عبد مثله .

[ ص: 68 ] قال أبو عمر :

في حديث أبي رافع هذا ما يدل على أن المقرض إن أعطاه المستقرض أفضل مما أقرضه جنسا ، أو كيلا ، أو وزنا ، أن ذلك معروف ، وأنه يطيب له أخذه منه ; لأنه أثنى فيه على من أحسن القضاء ، وأطلق ذلك ، ولم يقيده بصفة .

وروى سلمة بن كهيل عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه ، فأغلظ له ، فهم به أصحابه ، فنهاهم ، فقال : ألا كنتم مع الطالب ، ثم قال : دعوه ; فإن لصاحب الحق مقالا ، اشتروا له بعيرا ، فلم يجدوا إلا فوق سنه ، فقال : اشتروا له فوق سنه ، فأعطوه ، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : أخذت حقك ؟ قال : نعم ، قال : كذلك افعلوا ، خيركم أحسنكم قضاء ، وهذا عند جماعة العلماء إذا لم يكن عن شرط منهما في حين السلف .

وقد أجمع المسلمون نقلا عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - : إن اشتراط الزيادة في السلف ربا ، ولو كان قبضة من علف أو حبة ، كما قال ابن مسعود ، أو حبة واحدة .

[ ص: 69 ] وفيه دليل على أن للإمام أن يستسلف للمساكين على الصدقات ، ولسائر المسلمين على بيت المال ; لأنه كالوصي لجميعهم ، أو الوكيل .

وفيه أن التداين في البر ، والطاعة ، والمباحات جائز ، وإنما يكره التداين في الإسراف ، وما لا يجوز ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية